الفصل الخامس :
5- لأنها تشبه الأم ... ضغطت لورا بأصابعها المرتجفة على صدغيها كي لا تسمع الأصوات المرتفعه الآتية
من قاعة الاستقبال في الطابق الاسفل .
كان القماش المطرز الذي صنع منه فستان العرس يلوي قامتها النحيفة ,
كما تلوي الريح السنبلة الصغيرة .
هبطت في الكرسي الصغير الموضوع امام منضدة الزينة ذات المرايا المزخرفة ,
وراسها ما يزال بين يديها , ثم اسندت مرفقيها الي المنضدة .
هذه الغرفة الشاسعة بدأت تخنقها , اثاثها من الخشب الاسود الثقيل , وابواب الخزائن العالية المزينة بالمرايا , تعكس سريرا عريضاً , يقع في احدى زوايا الغرفة ,
عليه غطاء من قماش موشى بالذهبي والاحمر الغامق .
كل شئ من الطراز الاسباني .
انه ديكور يليق بزوجة مكسيكية للسينيور دييغو سيزار دافيد راميريز .....
عندما سمعت هذا الاسم , في المركز البلدي , رفعت لورا حاجبيها مستغربة ,
فقال لها دييغو ان والدته اميريكية الجنسية ,
نعم هذه الغرفة تليق بعروس مكسيكية , لكنها تبدو غريبة لفتاة اميريكة عاشت حياتها في جو بسيط ,
هل نامت والدة دييغو في هذا السرير , وهل وضعت فيه ولدها البكر؟
ارتعشت لورا لهذه الفكرة , وشعرت بارتياح عندما شاهدت كونسويلو تدخل الغرفة وتقول :
" ارسلني دييغو لاطلب منكِ ان تستعجلي " .
بدأت لورا تفك سلسلة الازرار الصغيرة التي تغلق الفستان عند الظهر , فقد جرى تصميم الفستان لجدة دييغو منذ ستين سنة ,
اي قبل اختراع السحابات ,
وهذه السيدة العجوز التي استقبلت لورا بلطف في المسكن العائلي في كوبرنافاكا , الّحت عليها كي ترتدي هذا الثوب يوم العرس , وقالت لها بانجليزية صحيحة :
" كنت احلم دائماً بان ترتدي عروس دييغو الفستان نفسه الذي ارتديته عندما تزوجت جده .
ما من احد في العائلة له مقاييس جسمي نفسها سواكِ ".
نظرت كونسويلو في عين حاسدة الى ثوب لورا الحريري الاصفر الموضوع على المقعد وقالت :
" حظكِ كبير لانكِ تزوجتِ من رجلٍ تري ".
فضّلت لورا الاّ ترد .
كانت تعلق فستانها في الخزانة , وتستعد لارتداء ثوبها الاصفر , وهي لا تشعر باي خجل من خلع ملابسها امام النساء ,
فقد تعوّدت ذلك كعارضة أزياء .
وكانت كونسويلو تتأمل في عينٍ ناقدةٍ قامة الفتاة الممشوقة والنحيفة .
" لست ادري كيف انجذب دييغو الى امراة نحيفة مثلك ِ .
ان صديقاته كلّهن نساء جميلات ذوات أجسام مليئة ".
قالت لورا و هي تبكلّ زنار تنورتها :
" صحيح ! ولكن لماذا لم يقع اختياره على واحدة منهن ؟".
" كان دائماً متمسكاً بفكرة واحدة , وهي ان ياتي بامراة تحلّ مكان والدته التي توفيت عندما كان صغيراً .
انه لايزال اسير هذه الذكرى ".
انتفضت لورا قلقاً . قفزت الى ذهنها صورة تلك المراة الشقراء الجميلة المعلقة في الجدار بين عدد من اللوحات تمثل رجالاً ونساء كلهم سمر . صحيح ان هناك بعض التشابه بينهما ,
لكن ذلك لا يؤكد ان دييغو انما اختارها لهذا السبب .
قالت لورا :
" كل ما تقولينه اوهام ! ".
فاجابت كونسويلو :
" لا . لست مخطئة , واذا كان ما اقوله غير صحيح , فلماذا لم يخترني انا ؟
ان تقاليد بلادنا تقضي بان يتزوج الرجل ارملة اخيه ".
" تلك هي اذاً المشكلة ".
فكرّت لورا وهي تجلس وراء منذدة الزينة . كانت كونسويلو تأمل في ان يتزوجها دييغو بعد انتهاء فترة الحداد , لكن بدل ان يفعل ذلك , اختار امراة غريبة ...
انها غلطة لا تغتفر , لو كان بامكان لورا ان تقول لها ان زواجها لن يدوم ,
فقط لان يخرج والدها من السجن بعد اعلان برائته ,
في كل حال , الم يفرض دييغو عليها الزواج , هي التي كانت ترفض تلك الفكرة بقوة ".
قالت لورا :
" كان عليكِ ان تكلمي دييغو بالامر ".
" أن تكلمني عن ماذا ؟".
كان صوت دييغو منبعثاً من عتبة الغرفة ..
التفتت لورا نحوه , فاقترب منها وهو لا يزال يرتدي بذلة العرس الغامقة .
وقد وضع على القبعة قرنفله حمراء .
وبرغم قرار لورا اعتبار هذا الزواج بمثابة اتحاد عابر سببه الوضع المؤسف الذي يعيشه والدها في السجن .
فانها لم تستطع ان تلجم انفعالها عندما سمعت في الكنيسة كلمات الحب والاخلاص تتدفق من فم دييغو ,
وتمنت لو ان هذا الزواج كان اكثر من صورة ساخرة كئيبة .
وبعد خروجهما من الكنيسة وسط اصدقاء دييغو الذين ملأتهم الدهشة والفرح , توجها الى المسكن العائلي , حيث كانت قاعات الاستقبال الواسعة تزدحم بمئات المدعووين من الشخصيات ورجال الاعمال , الذين حرصوا على تقييم العروس برغم نظرات زوجاتهم الحانقة ,
بينما رمقت بعض السيدات لورا بنظراتهن اللاذعة الخبيثة .
ثم وجّه دييغو بعض الكلمات باللغة الاسبانية الى ارملة اخيه التي هزّت كتفيها وخرجت من الغرفة بعدما صففقت الباب وراءها بحدة .
التقت عينا المكسيكي اللاهيتين بعيني لورا في المرآة وقال :
" ها نحن اخيراً وحيدان يا زوجتي .
لقد تحملّت بعذاب كل هؤلاء الرجال الذين كانوا يحيونك , ولم تخطر ببالي الا فكرة واحده ,
هي ان اخطفكِ من بين المدعوين واذهب بكِ الى فيلا جاسينتا بأسرع ما يمكن ".
عانق لورا التي شعرت برعشة صغيرة , فهمست وهي تلتفت اليه :
" ارجوك ....".
لكنه لم يسمع . بل راح يعانقها بحنان . مما جعلها تشعر باحاسيس بالغة .
همس في اذنيها قائلاً :
" اه لو تعرفين كم احبكِ هل يجب ان ننتظر حتى نصل الى فيلا جاسينتا ؟
هل تريدين ان اطلب من المدعويين الانصراف ليتسنى لنا ان نكون وحيدين ؟".
المدعوون يزدحمون في قاعات الاستقبال في الطابق الاسفل . امام هذا المنظر استعادت لورا وعيها فتخلصت فجاة من عناق دييغو وراحت ترتب نفسها , ثم همست في صوت مخنوق :
" هل نسيت ان هذا الزواج هو مجرد زواج ابيض ؟".
وبقوة تمسك بكتفيها وحدّق في اعماق عينيها وقال :
" سبق لي يا حبيبتي ان قلت لكِ ان الزواج لن يفسخ , ومن هذا الزواج ومن هذا الحب سيكون لنا اولاد ".
" لا ".
وضع يده على صدر زوجته حيث كان قلبها ينبض بسرعة جنونية , ثم همس قائلاً :
" كيف تقولين شيئاً كهذا ؟
انكِ ترغبين في هذا الاتحاد وانا كذلك .
انني اعرف تمامًا انكِ تشعرين بان قلبينا ينفعلان في انسجام وتناغم !".
هذا الكلام الهائم جعلها ترتعش في خوف غامض .
اية امراة لا تتاثر بكلمات الحنان والغزل من فم رجل جذاب له خبرة واسعه في استمالة النساء ؟".
قالت في عناد وتصلب بالراي وهي تتوجه الى منضدة الزينة وتسرّح شعرها :
" لا شك انك تهذي يا سينيور ,
انت تعرف جيداً سبب زواجنا .
وهذا الزواج لا دخل له بانجاب الاولاد من اجل استمرار عائلة .
راميريز , عندما يخرج والدي من السجن فانني ......".
توقفت وعضت على شفتيها فسألها دييغو في لطف :
" ماذا ستفعلين يا حبيبتي ؟".
أمسكها من معصمها وادارها نحوه واكمل :
" هل تعتقدين انني بعدما اقسمت بان اكون مخلصاً امام اصدقائي والشهود ؟,
سأرضى بأن تطرديني عندما لا تعودين بحاجه الىّ لأصبح أضحوكة الجميع ؟؟!! ".
لاااا يا لورا , لقد اصبحتِ زوجتي ,
وسوف تبقين زوجتي , وانني اتعهد بذلك ".
ارتعشت لورا حين لمحت نظرته المصممة , يبدو ان تهديده ليس مجرد كلام .
انه ينوي الذهاب في الزواج حتى النهاية ,
وسيصر على ان يكون له اولاداً ,
مما يؤدي الى استحالة فسخ الزواج ,,, نعم , لكن ... نحن في القرن العشرين ,,
بأولاد او من دون اولاد كل شئ ممكن حتى الطلاق .....
وبعد ان وضعت احمر الشفاه , تناولت حقيبة يدها وقالت وهي تبتسم :
" انني جاهزة ".
" اذاً , هيا بنا , حقائبنا اصبحت في السيّارة ".
" الا تريد ان تبدل ثيابك ؟"
ابتسم وقال :
" الخدم في فيلا جاسينتا لم يحضروا العرس , وسيفرحون اذا شاهدوني في ثياب العرس ".
وبطرف اصابعه راح يداعب خدها :
" كما اني اريد ان يفهم كل اللذين سنلتقيهم في طريقنا ان هذه العروس الجميلة هي ملكي ".
ثم اضاف وهو ينظر الى لورا :
" ارجوكِ من اجل والدكِ , ان تبذلي كلّ ما في وسعكِ كي تظهري امام الجميع انكِ الزوجة المحبة ".
صمت المدعوون المتجمعون في المدخل الواسع حول سبيل ماء لمدة لحظات لدر رؤية العروسين يهبطان السلم , ثم تجمّعوا حولهما ووجهوا اليهما التهاني والتمنيات .
وعندما اصبحا في السيارة المزينة بالورد , اقلع دييغو بسرعه .
وبعد قليل سلك الطريق المؤدية الى اكابولكو , ومن وقت الى اخر كان يرد باشارة من يده على تحيات السائقين او الفلاحين الذين لاحظوا بذلة العرس , ولم يتبادل مع لورا الا بعض التعليقات العابرة في شان الاماكن التي مروا فيها .
كانت لورا المتكئة باسترخاء على المقعد المريح , تحلم في اليقظة ,
يا لسخرية القدر ,
فقد تزوجت من رجل كانت تريد ان تعتبره الرجل المناسب ,
لولا الظروف الحاضرة , انه متديّن مثلها , وهذا في رايها امر اساسي .
كما ان دييغو يتمتع بجمال وجاذبية وثراء و شهرة .
اخفضت عينيها على الزمردة المحاطة بحبات الماس الرائعة التي يتالف منها خاتم الزواج الموضوع في اصبع يدها اليسرى قرب المحبس الذهبي .
دييغو بنفسه وضعه في اصبعها بعدما اجبرها على خلع خاتم الخطبة الذي اهداها اياه برانت .
وقد بعثت الى خطيبها برسالة موّسعه , تطلب منه ان يسامحها على تغيير رايها ,
ولم يتسنى له الوقت للرد عليها ,
هل سيتسنى له القراءة بين السطور ليدرك ان لورا ما تزال تحبه ؟.
سالها دييغو فجأة :
" بماذا تفكرين ؟".
انتفضت , لكنها ردت عليه بصراحة .
" افكر ببرانت خطيبي ".
قطب دييغو حاجبيه وقال :
" لم يعد لكِ خطيب يا لورا , لديكِ زوج مصمم على ان يجعل منكِ في القريب العاجل زوجته , بكل ما تحمل الكلمة من معنى ......
ثم هذا الذي يدعى برانت , اما كان فعل مثلما سافعل انا الليلة لو كان مكاني ؟".
اجابته وهي تحاول ان تخفي انفعالها :
" ليس اذا طلبت منه ألاّ يفعل ".
" هذا ما كنت اظن . في عروقه تسري دماء باردة ".
صرخت بعنف وحدّة :
" أنت مخطئ ! إ نه يتمتع برجولةٍ مثلكَ ,
إنما هو انسان متمدّن ... ولطيف , وأقل تطلباً منك ".
" أمثال هؤلاء الرجال بطبعهم البارد , يجعلون الدنيا مهجورة من البشر ,
يا لورا المسكينة !
هل تعتقدين انّ الغزاة الاسبان كانوا يضيّعون وقتهم عندما يغازلون النساء ؟..
لا ... عندما كانت تعجبهم المراة التي يلتقونها كانوا يتزوجونها
وما من مرة شكت هذه النسوة من شئ ".
سالته لورا في مرارة :
" وهل يسمعون شكواهن ؟".
... |