الفصـل العاشـر – [ هـرب .. لأنه كان إحدى تجاربهم ] –
صـوت وقـع خطواته المسرعة كانت تضرب الأرض المبللة بمياة المطر فيتطاير رذاذ المياه ليبلل اسفل بنطاله الذي سبق و أن كان غارقاً في بلله ، ومن خلفه تعالت أصوات رجال تنادي بأسمه مطالبة منه التوقف في حين كان يمسك كل واحد منهم حبل نهايته الأمامية كان ملتفة حول رقاب كلاب كانت تنبح بقوة مرعبة
وما زاد الوضع سوءاً أن الجـو كان يبرق ويرعد بشكل مخيف ، كما لو أن السماء تحتج على ذاك الهارب منهم و تزيد أمر هروبة صعوبة
واصل جريه رافضاً الأنصياع إلى أوامرهم و العودة ليكون تحت ظلالهم ، رافضاً أن يكون [ فأر تجاربهم ]
أو حتى الأصغاء إليهم ، كل ما كان يهمه هو الهروب من حياته حالياً و للأبد
لكن ما فاجئه و ظهر له في الطريق فجأة ، هو تعرقله بغصن شجرة كان متدلياً للأسفل فسقط أرضاً على وجهه ، و هذا لم يحبط عزيمته فقد نهض بسرعة محاولاً تناسي الألم الذي سببه سقوطه ، و أسرع في ركضه كما لو أنه لم يسقط للتـو
كان يركض في وسط غابة و يتبعه رجال مع كلابهم في محاولة للأمساك به ، وكل ما تقدم في ركضه كان يرى أن نهاية الغابة تقترب أكثر فأكثر فابتسم بسعادة ، لكن سرعان ما تلاشت ابتسامته عندما وجد نفسه في نهاية الطريق ، توقف على تلة لم يكن يوجد تحتها سوى نهر صغير و على بعد امتار عديدة ، وقد يتسبب القفز إليه الموت ..
في وسط تسارع ضربات قلبه و اقتراب الرجال من الأمساك به لم يجد نفسه سوى ينظر إلى النهر تارة و إلى مدخل الغابة تارة حيث كانت اصوات الرجال تقترب .. أخذ يتنفس بقوة و صدره يعلو ويهبط
و وجهه و ثيابه كانت مغطى تماماً بالمطر و ملتصقه بجسده بشدة
أغمض عينه بقوة بعد أن أتخذ خياراً ، سوف يرمي بنفسه في النهر ، حتى لو تسبب ذلك في موته
فالموت بالنسبة له ، أرحم من العودة إليهم
ركـض باتجاه حافة التلة ليرمي بنفسه للنهـر وهو يصـيح بحـدة بينما خرج الرجال من الغابة لينصدموا و يفتحوا أعينهم إلى وسعها وهم يرونه يقفـز للنهـر كما لو أنه مجنون يحاول الأنتحـار ..
أتـذكر تلك اللـيلة كما لو حدثت الـبارحة
وقتهـا رميت نفـسي في النهـر بلا مبالاة
فالمرء يتخذ أسوء قرار عندما يجد نفسه في نهاية طريق
و أنا أختـرت ..... [ المـوت ]
------------------------------------
شعـر بأحدهم يسحـبه على الأرض المغطاة بالحصـى و ينتشله من الجو المائي الذي كان فيه ، ثـم شعـر بأحدهم يضغط على صـدره بقـوة فأخرج مياه من فهمه ليسعل بقـوة كـردة فعـل
فـتح عينـاه ليقابل فتى ذو شعـر أسود بعض خصله مصبوغة باللون الأحمـر ، ابتسم الفتـى له ليحضنه بقـوة وهو يقـول بفـرح :
- حمداً لله ، أنكَ ما زلتَ حياً .
همس باستغراب :
- أخي ؟
أبعـده الفتـى عنه ليقول له ممازحاً :
- لا ، بل أبن عمك ، ما رأيكَ أنتَ ؟
- ما الذي تفعله هنا ؟
كان سؤاله مملوء بالاستغراب ممزوجاً بدهشة شديدة ، فأجابه شقيقه :
- لقد لحقتُ بك ، و عندما رأيتك ترمي نفسك بالنهر سارعت في البحث عن طريقة للنزول للنهر و نزلت أليك و أخرجتك من المياه ...
ثم تغيرت نبرة صوته لعتاب :
- هـل أنتَ مجنون ؟
نهض بسرعة من مكانه ليترنح في مشيته وهو يقول بسرعة :
- عليَ أن أهرب بسرعة قبل أن يصلوا لهنا .
أسرع شقيقه في الأمساك به من ذراعيه ليقول له بدهشة :
- هل أنتَ مجنون ؟ حتى لو ذهبت إلى أخر العالم سوف يجدونك ، أخي دع الجنون بعيداً عنك ، وألا فأنك سوف تندم كثـيراً لاحقاً .
ابعد ذارعيه عن يديه بقوة ليبتعد عنه و هو يقول :
- مستحيل ، لن أعود لأكون فأر تجاربهم ... أنظر ما فعلوا بي .
و أشار إلى رقبته فنظر شقيقه إليها لثـواني ليقول له :
- و لكن الهروب لن يحل المشكلة .
و أبعد ناظريه عن رقبته في حين هز الأخر رأسه بالنفي ليجيب :
- بلى ، أنه يحل الكثـير .
فسار مبتعـداً عنه ولم يتـوقف إلا حين صاح فيه أخيه بعتاب :
- أستتركني هنا وحدي ؟
ألتف إليه ليجيبه ببرود :
- نحن نعيش في عالمين مختلفين .. لا نستـطيع أبداً أن نكـون معاُ .
نزلت دموع شقيقه على وجنته بألم ليصيح بقوة :
- كلااااا ، لن أدعك تبتعد عني ، سأبقيكِ هنا ..
تفاجئ بكلام شقيقه و بدموعه وفجأة أحاطته مجموعة غربان لتسد الطريق حوله من جميع الجهات ، حدق بشقيقه بذهـول في حين قال له شقيقه :
- سأحميك مهما حدث ، هم لن يدعونك تعيش بسالم في أي مكان سوف تذهب إليه ، سوف أحميك بأبقائك هنا .... [ سوف أحميك حتى لو أضطررت لإيذائك ] .
نظر شقيقه إليه بجدية بعد أن توقفت دموعه عن الأنهمار ، في وسط حيرة الأخر و ذهوله ، لكن سرعان ما تغيرت ملامحه إلى الجدية هو الأخر ليقفز من فوق الغربان و يركض مبتعداً عنهم ، لكن تلك لم تكن النهاية فالغربان هاجمته بقوة وأخذت تنقر له كل أنحـاء جسده ، و شقيقه كان يركض خلفهم
شعـر بالألم يمـزق جسـده لكنه لم يستسلم وتابعه ركضه وهو يحمي وجهه بيديه ، حتى تبين إليه من بعيد منزل صغير يصح القـول عنه أنه كـوخ فأسرع إليه وهو يحسب الثواني ، مد يده بسرعة لمقبض الباب ليفتحه فتبين له أنه مفتـوح فدخل للمنزل بسرعة خارقة و أغلق الباب خلفه ليتكئ عليه و يتنهـد براحـة وهو مغمض العينين ويحـمد الله على كـون الباب مفتوحاً
فتـح عيناه بعد ثواني ليـجد نفسه في صالة الكوخ أن صـح التعـبير ، مشى عدة خطوات ليصل إلى وسط الصالة الصغيرة لكنه فزعَ عندما سمع صوت شيئاً يرتطم ، فألتفت إلى اليسار حيث مصدر الصوت فرأى غراباً يحاول تكسـير نافذة المنـزل فألتف حوله بفزع يفكر في الهرب فدلف إلى اقرب غرفة ، صدف وأن تكون غرفة النوم و أغلق الباب خلفه ، وألتفت ليرى الغرفة فحـمد لله أنه لم تكن هناك نوافذ ..
نظر حوله ، كل شيء كان مغطى بالتراب وقديم جداً ، كما لو أن المنزل مهجور منذ شهـور أو ربما سنـين ، لكن ما لفت انتباهه و أثار استغرابه ، هـو وجود عـلامة حمـراء على الجدار ، علامة أشبه ببنـاء ذو عدة طوابق
مشى للعلامة و مد يده اليمنى بحـذر وخـوف ليتلمس العلامة بهـدوء
وفجأة شعـر بالأرض تدور من حوله و أن رؤيته أصبحت مشوشة ، و أحس بدوار شـديد في رأسه ، و برغبة كبيـرة في النـوم ، كل هذا ظهر من العدم وفجأة فلم يشعـر بنفـسه إلا وهـو يهـوي على الأرض مغمض العيـنين
هـربت من ذاك العـالم ومنه هـو
أرداني هـو بشدة لكنـني أنا تخليت عنه
لا أعلم أن كان ما زال يحـبني أم لا
كل ما أعرفه ، هو ... [ أنني الـسبب في الخلافات بينـنا ]
---------------------------------------
صـوت رعـد دوى في أذنه فارتجف جسده برداً بعد أن ابتل مياهاً من المطـر الذي أخذ يتساقط عليه ، كما لو أن السمـاء لا تـود أن تـرحمه هذه الليلة ، لا تـود أن تتعاطف مع جسده الذي أخذ يرتعد من شدة البرد
فجأة ، فتـح عيناه بقوة و رفع نفسه قليلاً من الأرض الباردة المبللة ، و أخذت شفتاه ترتجفان و تصطكان ببعضها و قد تحول لونها إلى الازرق و وجهه قد أصبـح شاحباً بشدة ، كل من ينظـر إليه سوف يخيل إليه أنه أحد الأموات الذين عادوا للحياة ، نهض من على الأرض ليضم ذارعيه و يمسحان بعضهما بهدوء في محاولة لتدفئة نفسه
نظر حوله ، كل شيء كان مختلفاً وغريباً له بشدة ، كان محاطاً بجدارين ، لم يكن هناك كوخ ولا شيء
أين النهـر ؟ أين الكوخ ؟ ما الذي حل بي ؟
هذا ما كان يفكـر فيه و أحتل عقله ، فجأة أحس بيد أحدهم توضع على كتفه ففزع بشدة و أرتد عن الشخص ليحدق به بسـرعة بريبة و خـوف ، حين قابل ذاك الشخص نظراته بنظرة حنـونة مبتسمة
كـان رجلاً يبدو عليه أنه في نهاية عقده الرابع ، سأله بهدوء :
- هل أنتَ بخير ؟ حالتك مزرية بالفعل .
ابتعد عن الرجل قليلاً بخوف منه في حين ابتسم له الرجل ليبدد له خوفه بقوله :
- لا تخف ، لن أؤذيك ، أريد مساعدتك فحسب .
اصطكت اسنانه ببعضها حين قال له :
- أين أنا ؟
- أنتَ في نيويورك بني .
- نيويورك ؟
سأله باستغراب و دهشة شديدة ، نيويورك ؟ ما هذا الأسم ؟ انه يسمع به لأول مرة
لحظة ! لحظة ! لا يمكـن أنه الآن في العـالم الآخر .. عالم البشـر .. حيث كل شيء مختلف هنا
نظر للأرض و هو لا يصدق ما الذي يحدث له ! هل هو يحلم ؟ هل استطاع الهرب بالفعل ؟
نعم ، نعم ، الآن يستـطيع أن يبني حياة جديدة في هذ العالم ، فالبشر يشبهونه بشدة و سيستطيع الأختلاط بهم بسرعة و بسهـولة ، لكـن .. لكنه يحتاج إلى مساعدة أحدهم ..
نظـر للرجل الذي كان يحمل مظلة بيده لتقيه من المطـر فابتسم بخـفة ، سأله الرجل :
- ما اسمك يا بني ؟
- واتـسون .. أسمي هو واتسون .
__________________ |