الفصل الثامن .... 8- ما طعم الحياة بلا حب ؟
همس جار لورا بلهجة متملقة :
" ان زوجك محظوظ جداً لانه عرف كيف يقطف أجمل زهرةٍ ليزين طاولته يا سينيورا ".
ألقت لورا نظرة سريعة الى الطرف الآخر للطاولة المستطيلة ..
كان دييغو يصغي بانتباه الى حديث جابرته الجذابه .
كان يبدو مسحوراً بجمال هذه المرأة السمراء ..
التي كانت ترتدي فستاناً أبيض ضيّقاً يظهر تفاصيل جسمها الجميل .
أجابت بابتسامة مشدودة :
" لا اعتقد بأنّ زوجي كان يجد صعوبة في تزيين طاولته بالزهور يا سينيور ".
أضاف جارها الذي كان يتبع اتجاه نظراتها :
" لا تقلقي عليه فيما يتعلق بفرانسيسكا , انه حب قديم , حب الطفولة ,
لقد تزوجت من رجل فرنسي , وسمعت انها كانت سعيدة جداً معه .
لكن للأسف , توفي انطوان منذ بضعة شهور ,
كانا يعيشان في فرنسا , لكن فرانسيسكا فضّلت أن تعود الى وطنها ,
فبامكان عائلتها و اصدقائها ان يساعدوها في التغلب على احزانها .
شاهدت لورا يد دييغو في يد الارملة الجميلة ,
حيث ابقاها مدة طويلة ,
حاولت جاهدة ان تتحرك وتتذوق ثمر الفريز الذي ينمو في جنوب المكسيك ,
لكن قابليتها ضاعت ....
وضعت شوكتها في الصحن واشارت سراً الى الخادمة ,
وبعد لحظة , قدًمت القهوة الى المدعويين ,
نظرت لورا بسرعه نحو زوجها , انه ما يزال يتحدث الى جارته .
هذا هو العشاء الثالث الكبير الذي يقام في فيلا جاسينتا منذ عودتهما الى اكابولكو ,
وتعوّدت لورا بسرعة أن ترأس الطاولة التي يشترك فيها عدد
من الشخصيات الكبيرة المعروفة جداً في لمكسيك ,
فقد قال لها دييغو إنّ هذا النوع من الاحتفالات يساعد في الجهود
المبذولة لإخراج والدها من السجن وفي الإسراع باجراء المحاكمة .
قال لها ذات يوم عندما كانا يتناولان طعام الفطور قبل ان يتوجه لى مكتبه .
" في بلادي من الصعب استعجال الأمور , علينا ان نستقبل الشخصيات مرّات عديدة قبل ان تطلب منها الاهتمام بقضيتنا ".
فقالت له بلهجة غاضبة :
" أنت لا تفعل شيئاً , ووالدي .....".
أجابها دييغو غاضباً وهو يرفس الكرسي :
" بالنسبة الى الظروف الراهنة , فإ والدك ليس في وضعٍ سئ , بل بالعكس ..."
قالت لورا بإلحاح :
" ينقصه الهواء ولون بشرته أصبح رمادياً ".
قال في سخرية :
" آسف لأني لم أستطع إقناع المسؤولين بأن يأخذوه كل يوم الى شاطئ البحر لتلّوح الشمس بشرته ".
وخرج من الغرفة قبل ان يتسنى لها الاعتذار ,
فهي تعرف جيداً أن والدها سيكون في وضع يرثى له لولا مساعدة دييغو ,
لكنها لم تستطع ان تمنع نفسها من إثارة زوجها , ربما لانها تشعر بالاهانة عندما تراه يتأقلم مع وضعهما المعقد في رباطة جأشٍ وهدوء .
ومنذ الليلة التي وعدها فيها بأن يعيد إليها حريتها ,
كان يعتبرها كأنها تمثال من الرخام يزين المكان .
وخلال شهر العسل الذي لا ينتهي لم يعد دييغو ينظر اليها كأنها امرأة جذابة ومثيرة ,
بينما هي تفقد صوابها وتضطرب تأثراً ,
فإن دييغو يحافظ على هدوئه الغريب , ولاشك في أنّ ذلك غريب لأنه يتمتع بطبع ناري ,
ان ذكرى ليلة عرسهما حين كانا على وشك إتمام الزواج ما زالت تلازم لياليها الأرقِة .
قالت لورا لجار دييغو بعدما انتبهت انه يكلمها :
" آه عفواً انني ... انني تائهة ... كأنني كنت في القمر ".
فهمس قائلاً
" اعتقد بان دييغو يحاول ان يشير إليكِ منذ لحظة , لاشك في انه يرغب في ان ينهض عن الطاولة ..".
" نعم , بكل تأكيد ".
احمّرت بينما كانت نظراتها تلتقي بنظرات رب المنزل المتزنة ,
ولثانية ظلّت جامدة وكأنها مشلولة ,
وبجهد نهضت ولحقت بالضيوف الى الصالون .
اتكأت لورا الى حائط الموقدة و راحت تتأمل في ابتسام المدعويين المتجمعين في حلقات في مختلف زوايا القاعة الكبيرة .
بين المدعويين كان وزير العدل واثنان من معاونيه .
في هذه الليلة بالذات سيحقق دييغو اولى الخطوات من اجل الاسراع في اجراء محاكمة والدها .
هل سيبدا بالحديث معهم الآن ..
في غرفة الطعام الفارغة , ام انه سيصطحبهم الى مكتبه المريح الواقع في الطرف الآخر من البهو ؟
فجأة تقدّم منها بعض المدعويين يرغبون في أن يشكروها على هذا العشاء الذي أعدته .
قالت لور وهي تبتسم لإحدى المدعوات :
" يجب ان تشكري الطاهيه على ذلك , كان يكفي فقط ان أوافق على قائمة الطعام التي وضعتها ".
وفجأة تقلّصت معدتها ..
إذ رأت وزير العدل يصغي بانتباه الى احد معاونيه
بينما معاونه الآخر يتحدث مع مجموعة من المدعويين .
أين ذهب ديغو ؟
اعتذرت لورا من المدعويين المحيطين بها وابتعدت خلسةً ,
كان الخدم يقدمون المشروبات المنعشة , ألقت نظرة الى غرفة الطعام ,
فلم تجد إلا الخدم يوضّبون المائدة .
ترددت لحظة, هل هو في مكتبه ؟
ربما ناداه أحد ليرد علىالهاتف ؟
في اكابولكو كما هو في مكسيكو , لم يكف الهاتف عن الرنين .
اجتازت البهو وتوقفت أمام باب الكتب وراء باب ضخم .
فلم تسمع اي صوت . وبعد ثانية من التردد فتحت الباب .
كان دييغو يحني رأسه على امرأةٍ وجهها ملئ بالدموع وهي تنتحب بين ذراعيه ...
إنها فرانسيسكا .
وأول انسان استعاد وعيه كان دييغو , الذي نظر بقسوة الى لورا ثم قال لفرنسيسكا في لطف :
" اذهبي الآن يا عزيزتي .. سنتابع الحديث بعد قليل ".
أحنت فرانسيسكا عينيها ومّرت أمام لورا واختفت من دون أن تقول كلمة .
فتح دييغو علبة موضوعة على المكتب وأخرج سيجاراً صغيراً ثم أشعله بهدوء قبل أن يلتفت الى زوجته وسألها في سخرية :
" اذاً يا عزيزتي , انتِ تطاردينني في عريني ؟ لماذا هذا التطفل ؟".
الغضب الذي شعرت به لورا ورؤيتها فرانسيسكا بين ذراعي دييغو حلّ مكانه الانفعال ,
فقالت بلهجة جارحة :
" إني اهزأ من كل النساء اللواتي تعاشرهن .
كما اني لا اهتم بالمدعويين الذين تتغاضى عنهم ,
غير أنني أشعر بالصدمة إذ أراك تخلّ بوعدك بأن تتحدث الى الذين سيساعدوننا في اخراج أبي من السجن ".
لم يرد دييغو في الحال .. تسمر وجهه ثم نفض رماد يسجاره قبل ان يجلس الى المقعد الجلدي الاسود وراء مكتبه وهو يقول بلهجةٍ هادئة :
" لم اعدكِ بشئ من هذا النوع , لم أكن أنوي أن أبدأ محادثاتي الليلة ".
" لكنك أكدّت لي ....".
" لقد سبق وقلت لك ورددت ذلك على مسامعك مئات المرات , أنه في بلادنا , هذا النوع من المبادرات لا يمكن الاقدام عليه إلا بكثير من الدبلوماسية,
وليس مسلكاً سليماً أن أفتح هذا الموضوع مع رجال مدعويين الى مائدتي الآن ".
فقدت لورا سيطرتها وخبطت على المكتب وصرخت في صوت هستيري ..
" لا ابالي قطعاً بهذه الانظمة واللياقات اذا كنت لا تريد ان تكلمهم الآن فسوف أكلمهم انا ".
أسرعت بالخروج , لكنها ما كادت أن تصل الى الباب حتى أمسكها دييغو في معصمها بعنف وأدارها نحوه وقال ووجهه أبيض من الغضب :
"أمنعكِ من احراج المدعويين , هل تسمعين .
اصعدي الى غرفتكِ في الحال , سأعتذر لهم عنكِ , سنتحدث في الأمر في وقتٍ لاحق ".
فقالت :
" قبل أو بعد محادثتك الصغيرة مع فرانسيسكا !
يبدو لي أنّ سهرتك حافلة بأمور كثيرة ".
رفع يده عنها وتراجع خطوة الى الوراء وقال بهدوء :
" لا ارى لماذا أكنّ لكِ الاخلاص !!".
فقالت في تحدٍ :
" وأنا لا أرى لماذا لا أتولى الدفاع عن قضية والدي شخصياً ".
فصرخ وهو يحملها كالريشة ويتوجه بها نحو السلم المكسو بالسجاد الاحمر الذي يصل الى الطابق الاول :
" هنا , انتِ في منزلي أيتها المرأة الشرسة , ستفعلين ما أقوله لكِ ."
صفعته لورا بقوة وصرخت :
" اذاً تقول إني امرأة شرسة ! لكنك لم تر أو تسمع شيئاً مني بعد , انتظر لترى ".
فقال وهو يضع يده حول ظهرها ويصعد بها السلم :
" الآن تجاوزت جميع الحدود ".
توقفت لورا عن التخبط ليس لأنها مكبلّة , بل لأن انفعالاً غير منتظر اجتاحها كلياً , فقد شعرت بصدر دييغو المضغوط على صدرها . تكفي رائحة عطره حتى تغيب عن وعيها .
حملها من دون أي جهد ظاهر حتى السرير ووضعها بلطف وقال بصوت يلهث وهو يحدّق فيها بشراسة :
" المطلوب منكِ أن تبقي هنا حتى ينصرف المدعوون . هل فهمتِ ؟ سأعود فيما بعد ".
نظرت اليه وهي مخدرة بالانفعال ولم تكن قادرة على ان تنطق بكلمة . خرج دييغو وأقفل عليها الباب بالمفتاح .
فهمست بصوتٍ متقطع :
" آه .. يا الهي ! هذا مستحيل , إني أحبه ! لا , هذا مستحيل ".
يالغرابة الأمر ... قبل دقيقة كانت تكرهه .. والآن ... انها تريده بجنون ..
لم يعد الامر بمثابة رغبة سبق وشعرت بها في اكابولكو ,,لا , انها تريد ان تصبح زوجته بما في هذه الكلمة من معنى , ان تكون المرأة التي كان يحلم بها منذ الأزل ,
أن تكون في الوقت نفسه العشيقة والزوجة وربة بيته وام اولاده ....
لماااذا استغرقت كل هذا الوقت كي تكتشف حقيقة عواطفها ؟ كان لديها العديد من الاسباب لتحبه ..
شكله الخارجي يعجبها . وهذا تعرفه منذ وقت بعيد ..
ثم اعجبت بالاهتمام والعناية والاحترام لموظفيه وحتى لخدمه ,
كذلك الاحترام والمحبه اللذين يكنهما الجميع له ,
فضلاً عن الاهتمام بمساعدة والدها .
لماذا أضاعت كل هذا الوقت الثمين لتقاوم هذا الانجذاب الخدّاع؟
ربما لم يفت الامر !! صحيح انها راته منذ قليل يعانق فرانسيسكا ,
لكن هذه الاخيرة عادت من فرنسا منذ فترة وجيزة .. والامور بينه وبينها لم تتطور بعد ...
وعندما يكتشف دييغو أنها تحبه , يمكنها ان تستعيده ....
وفي الباحة الواقعة تحت النوافذ سمعت فجأة ضجيج أصوات و ضحكات وابواب تصفق ومحركات سيارات تقلع ..
تحمست لورا ونهضت من سريرها وخلعت بسرعة فستانها الاخضر الذي ارتدته للعشاء ,
وفتحت باب خزانتها , وبعد ان امضت وقتاً لا بأس به تتأمل العدد الهائل من قمصان النوم المعلقة ,
وقع اختيارها على قميص نوم شفاف من قماش ناعم , عربون البراءة , كما سيكتشف دييغو ذلك .
بدأ قلبها ينبض بسرعة , نظرت الى المرآة واعجبت بنفسها وبوجهها الاحمر وعينيها اللامعتين المتلهفتين ,
فكّت كعكة شعرها فانسدل على كتفيها ثم راحت تسرحه ,
ثنت غطاء السرير وأطفأت الانوار تاركة ضوء قنديلين من كل جهة من السرير .
آه كم كانت تكره هذه الغرفة , وأثاثها الاسباني الضخم وجوّها المخنوق . والآن كل شئ مختلف وهي تستعد أن تتقاسمها مع دييغو .....
لكن لماذا تأخر دييغو في الحضور ؟ لقد وعدها بأن يوافيها متى ذهب المدعويين ..
ساورها القلق فاقتربت من احدى النوافذ وازاحت الستائر قليلاً .
. ربما قرر دييغو ان يحدّث وزير العدل في قضية والدها .
لم يكن هناك اية سيارة امام المنزل , سوى سيارة المرسيدس التي تلمع تحت ضوء المصابيح الكهربائية التي تنير الساحة كضوء النهار .
ثم لمحت شبح دييغو واعتقدت لورا ان قلبها سيتوقف عن الطرق ,,
كان يتأبط ذراع امراة ترتدي معطفاً أبيض .
وما ان وصلا امام السيارة , حتى أخذها بين ذراعيه .
رفعت المرأة وجهها نحوه , انها فرانسيسكا .
ولما انحنى رأس دييغو على وجه فرانسيسكا , أطلقت لورا نحيباً عنيفاً وأقفلت الستائر .
لا شك ان باب غرفتها قد نفتح في وقت معين من الليل . وعندما أفاقت لورا كانت تريزا الخادمة قد وضعت صينية الفطور على طاولتها .
وباصبعها لمست ابريق القهوة الذي ما زال فاترا فقفزت من السرير وتوجهت الى الستائر تزيحها لتدع النور يدخل اليها .
ونظرت الى ساعة الحائط المعلقة فوق المدفئة .. انها الساعه التاسعه والربع ..
كيف كان بامكانها ان تنام طويلاً وبهذا العمق بعدما أمضت جزء كبيراً من الليل تبكي وتنتحب ؟
ولمّا نظرت الى نفسها في المرآة عرفت مدى حزنها وتعاستها ,
عيناها متورمتان وملامحها الناعمة متشوشة ,,
فدخلت الى الحمام ووضعت وجهها في الماء البارد مدة طويلة ,
ولما عادت الى غرفتها استعادت بعض وعيها , القهوة الفاترة تساعدها على ان تستيقظ تماماً .
لكنها لم تكف عن التفكير فيما حصل , لم يعد دييغو قبل الفجر لأنها لم تسمع صوت محرك سيارته .
ما دامت لم تخلد الى النوم الا في الفجر , ولحسن حظها فان دييغو لا يمكنه ان يعرف انها انتظرته في تلهف العروس ليلة زفافها .
الرجاء عدم الرد |