![قديم](stylev1/statusicon/post_old.gif)
11-11-2011, 10:01 PM
|
|
فأجاب بعصبية:
"من الأوغاد الخونة الغدارين... الذين قتلوا والديّ..."
فحملقت به مندهشا, فإذا به يقول:
"هل تظن أنهما قتلا برصاص العدو؟؟"
تفاقم تحديقي به, وأضاف:
"بل هي السلطات الخائنة... التي لم تبذل جهدا لتحمي مواطنيها... وسمحت للمعركة أن تنشب عند الحدود وبالتحديد عند الشارع الذي كانت تعبره حوافل المدنيين الأبرياء العُزّل..."
ووقف أخي من شدة انفعاله وهتف وهو يضغط على قبضته:
"جعلوا من الحجيج الآمنين مسرحا لجرائمهم النكراء... لن أسامحهم أبدا وسأجعلهم يدفعون الثمن"
ثم رأيته يحني رأسه ويخفي عينيه خلف يده... ويصمت برهة... ثم يبكي...
"سامر"
ناديته بنبرة ضعيفة حانية... فأزاح يده عن عينيه وقال يخاطبني وسط الدموع:
"أنت لم تر كيف كان جسداهما... لم تر شيئا... الجبين الذي كنت أعكف عليه تقبيلا وإجلال... مثقوب برصاصة اخترقت رأس أبي... والصدر الذي لطالما احتضننا... وفيه تربينا ومنه تغذينا... صدر أمي... منبع العواطف والمحبة والأمان... ممزق إلى أشلاء... حتى قلبها كان يتدلى خارجا منه... آآآآآآآآآه.... كيف لي أن أنسى هذا آآآآآآآآه"
وجثا أخي على الأرض وهوى بجبينه عليها وراح يبكي بصوت عال منفلت متألم... ويضرب الأرض بقبضته منهارا...
لم أقو على تحمل ما سمعت... أطلقت آهة ألم من صدري وسالت دموعي أنا الآخر...
كان سامر يضرب الأرض وهو يهتف:
"يا أبي... يا أمي"
ومع هتافه يتشقق قلبي وينطحن...
كنت ألاحظ منذ وفاتهما رحمهما الله, أن سامر كان أطولنا حزنا... وأكثرنا تذكرا لهما وتألما على الذكرى... لقد كانا أقرب إليه مني وكان أقرب إليهما مني... بحكم الفترة الزمنية الطويلة التي قضيتها في السجن بعيدا عنهما ومحروما منهما...
مددت يدي إلى كتفي أخي وشددت عليهما... إلى أن توقف عن البكاء والتفت إلي... ثم بدأ الشرر يتطاير من عينيه وقال:
"أو تظن أنني سأهرب... دون أن أنتقم؟؟"
قلت:
"تنتقم ممن؟؟"
قال:
"من أي شيء يتعلق بالسلطات... إنهم هم المسؤولون عن مقتل والديّ... وبهذه الطريقة البشعة"
وهب واقفا فشددت عليه أكثر فقال:
"دعني أطفئ النار المتأججة في صدري"
فقلت:
"وهل سيعيدهما للحياة... أن ترتكب أي عمل جنوني؟؟"
فقال:
"لكنّ غليلي سيشفى قليلا"
فقلت:
"وتدفع حياتك أو حريتك ثمنا؟؟ سامر إنهم لن يعتقوك"
فقال:
"لا أهاب الموت.. لا يهمني... وليس في حياتي ما يستحق العيش من أجله"
شعرت بالمرارة من جملته... فقلت مستدرا عطفه:
"كيف تقول هذا؟؟ سامر أنت لا تزال شابا صغيرا... لديك شبابك وصحتك... وعملك ومستقبلك... وعائلتك... كيف تضحي بكل هذا؟؟"
فأجاب وهو يرمقني بنظرة حادة...
"أي عائلة؟؟ الوالدان... قتلا... الشقيقة... رحلت بعيدا... الخطيبة... هجرتني... والشقيق..."
وأمال زاوية فمه بسخرية وأضاف:
"منافق.. متبلد.. لا يشعر.. لا يفهم... ولا يكترث..."
وأضاف:
"من بعد؟"
جرحني ما قاله عني... أبعدت يدي عنه ونظرت إلى الأرض برهة... ثم أعدت بصري إليه وقلت:
"بل أنا أحس يا سامر... أنت أخي... دماؤك هي دمائي... أكترث لك كثيرا... وإلا لما حبستك هنا وفعلت المستحيل من أجل سفرك"
قال سامر:
"ثم ماذا؟؟"
فقلت:
"ثم ماذا؟؟؟"
وأجبت على السؤال:
"ثم تبدأ حياتك من جديد في الخارج... المهم أن تخرج من الخطر الآن... وبعدها سأفعل من أجلك أي شيء"
فنظر إلي نظرة تشكك... ثم إذا به يسأل:
"هل ستعيد إلي والديّ؟؟"
وانتظر ردة فعلي التي لم تكن أكثر من النظرات الحائرة... ثم تابع:
"أم... هل ستعيد إلي خطيبتي؟؟"
هنا تصلب جسمي... وتجمدت نظراتي وفقدت القدرة على تحريكها...
ظل أخي يحملق بي وكأنه ينتظر الجواب... وطال الانتظار...
ابتسم أخي ابتسامة ساخرة واهية بالكاد لامست طرف شفتيه... ثم أولاني ظهره وجلس على المقعد معلنا نهاية الحوار...
انسحبت من الغرفة وأقفلت الباب... واستندت عليه وأغمضت عيني بمرارة...
فهمت.. أن موضوع عارف المنذر... هو الشرارة التي فجرت برميل الوقود...
هي رغد...
هل هذا هو الثمن الذي تطلبه لقاء حياتك يا سامر...؟؟
أتريد أن تخطف قلبي مني من جديد؟؟
أتريد أن أتنازل لك عن... أول وأكبر وأهم وأعظم حلم في حياتي؟؟
المخلوقة التي هي جزء لا يتجزأ مني... التي هي أنا... بروحي بقلبي بتفكيري بمشاعري بكياني بماضيّ بحاضري بكل معاني الأنا فيّ...
إنها ذاتي... كيف أكون... بدون ذات؟؟!!
آه... يا رب...
عندما فتحت عيني... خيل إلي أنني رأيت شبح رغد يقف في نهاية الممر... هل الإضاءة ليست كافية... أم أن غشاوة علت عينيّ من هول ما أنا فيه؟؟ أم... أم أنها خرجت من شريط أحلامي وظهرت أمامي كالطيف العابر..؟؟
أغمضت عيني مجددا... محاولا ابتلاع جرعة الشبح القوية هذه... التي ظهرت لي في أتعس لحظات حياتي... وعندما فتحت عيني من جديد... لم أر شيئا...
الحادية عشرة صباحا... استيقظت على رنين هاتفي المحمول الموضوع على المنضدة إلى جانبي... في غرفة المعيشة...
مددت يدي والتقطت الهاتف وأجبت مباشرة:
"نعم؟"
فسمعت صوت الطرف الآخر... والذي لم يكن سوى أبي حسام, والذي كنت على اتصال به أولا بأول أبلغه ويبلغني بكل جديد... وكنت قد أبلغته عن عودة أخي وحبسي له في المنزل...
"مرحبا وليد... اسمعني جيدا..."
وبدا من نبرة صوته أهمية وخطورة ما سيقوله, وسرعان ما أفصح:
"الشرطة في طريقها لتفتيش منزلكم... تصرف بسرعة"
نهضت فجأة... فتبعثرت قصاصات صورة رغد التي كانت نائمة على صدري منذ الفجر.. سألت وقد اجتاحني الفزع والقلق فجأة:
"ماذا؟؟"
فكرر أبو حسام:
"الآن يا وليد... أنا أراهم أمامي في الطريق المؤدي إلى منزلكم. اخف الأمانة بسرعة داخل المنزل... في الحال... في الحال"
قفزت بسرعة من مقعدي وركضت نحو غرفة المجلس... فتحت الباب وولجتها باندفاع وأنا أهتف:
"سامر بسرعة... الشرطة قادمة"
كان أخي نائما ولكنه سرعان ما انتبه على صوتي... أمسكت بذراعه وأنا أشده وأقول:
"تعال... يجب أن تختبئ في مكان آخر"
سامر سحب ذراعه من بين يدي وهو يقول:
"حُلّ عني"
فهتفت بعصبية:
"أقول لك الشرطة قادمة... ألا تفهم؟؟"
فأجاب ببرود:
"لا يهمني ذلك. سأسلم نفسي وننتهي من هذه المهزلة"
قلت صارخا:
"يبدو أنك لا تريد أن تفهم"
ثم أطبقت على ذراعه وجررته معي إلى خارج الغرفة أسير متخبطا لا أعرف أين أخبئه... ظهرت رغد في الصورة أمام باب المطبخ ورأت المنظر فهلعت وسألت:
"ماذا هناك؟؟"
فقلت وأنا أجر أخي رغما عنه نحو المطبخ:
"الشرطة... يجب أن نخبئه... لن أسمح لهم بأخذه ولو اضطررت لقتلهم جميعا"
سرت على غير هدى... مرسلا نظراتي لكل ما حولي... مفتشا عن مخبأ...
خرجت من الباب الخلفي للمطبخ... وسحبت أخي رغم مقاومته إلى الحديقة الخلفية المهجورة...
نظرت يمنة ويسرة... ولم أجد أمامي سوى قطع من الأثاث القديم الذي أخرجناه للفناء عندما أتينا للعيش في المنزل, أنا ورغد وأروى والخالة, رحمها الله...
وهناك... على مقربة من أدوات الشواء القديمة... التي أحرقت أخي ذات مرة... كانت مجموعة من قطع السجاد الملفوفة والمكومة على بعضها... كنا قد سحبناها إلى هذا المكان في ذلك الوقت...
لم تخطر إي فكرة في بالي... أصلا كان دماغي مشلولا عن التفكير... أريد فقط أن أخفي هذا الشقيق عن أعين الشرطة إلى أن أسفره للخارج...
دفعته حتى وقع أرضا... وجلست عليه حتى لأعيقه عن الحركة ومددت يدي إلى إحدى قطع السجاد الملفوفة ودفعتها لتنفتح...
سحبت أخي إلى طرف السجادة وجعلت ألفه بها كما تلف الحشوة بالورق... وهو يصرخ:
"ما الذي تفعله يا مجنون؟؟"
إلى أن أخفيته تماما في جوف اللفافة. سحبتها بعد ذلك بكل طاقات عضلات جسمي... وركنتها إلى جانب كومة اللفائف الأخرى... ثم أهلت عليها التراب لتبدو وكأنها مركونة هنا منذ سنين...
"إياك أن تصدر أي صوت يا سامر... لا تضع جهودي هباء... وإذا حاولت شيئا فسأستخدم سلاحك وأقتلهم جميعا... هل تسمع؟؟ لن أسمح لهم بأن يصلوا إليك أبدا"
وعمدت إلى الرمال أخفي أثار أقدامنا عنهم... ثم قربت وجهي من فتحة اللفافة وقلت:
"تحمل قليلا... سأخرجك فور ذهابهم... أرجوك اصمد وأنا سأحقق كل ما تتمناه... دعنا نسافر وافعل بعدها ما تريد... أرجوك يا سامر... أنا أرجوك"
وقمت مهرولا إلى الداخل...
كانت رغد واقفة عند باب المطبخ الخارجي تراقبنا مفزوعة, وكان جرس المنزل يقرع قرعا متواصلا.
سحبت الفتاة إلى الداخل وأقفلت باب المطبخ وقلت:
"إياك وفعل أي شيء يكشفنا يا رغد... أرجوك... حياة أخي رهن تصرفنا"
أسرعت إلى غرفة مكتبي... والتقطت سلاح أخي الذي كنت أخبئه هناك, وأخفيته في ملابسي...
جذبت نفسا عميقا ثم توجهت إلى باب المنزل الرئيسي ثم إلى الفناء الخارجي ثم إلى البوابة الرئيسية وفتحتها... ************
كنت في المطبخ أتناول فطوري بهدوء... إلى أن سمعت صوت باب يفتح ووقع خطوات تجري بارتباك على الأرض... قفز إلى ذهني الظن بأن |