إنك لتعجب من بعض الصحفيين والمفكرين في بعض وسائل الإعلام، ما من قضية من قضايا العلم إلا وخاض غمارها، فمرة تجده فقيهاً، ومرة مفسراً، ومرة طبيباً، ومرة محللاً سياسياً أو اقتصادياً، ومرة عالم ذرة، ثم ما إن يسمع بعالم من علماء المسلمين أو فقيهاً من فقهائهم تكلم في السياسة أو في بعض القضايا الاقتصادية إلا ويصب جام غضبه عليه ويسفهه ويدعوه إلى ألا يتجاوز تخصصه، وكأنه يقول بلسان حاله: كل العلوم يجب أن يحترم جنابها فلا يخوض فيها إلا أهلها إلا علم الكتاب والسنة فحماه مستباح لكل أحد، ثم إنك لتعجب مرة أخرى من هؤلاء حين يعيبون على الشباب الأغرار الذين تجرؤوا على الفتيا بالتكفير والتفجير، وتركوا الرجوع لأهل العلم ثم هم يمارسون نفس الدور بالجرأة على الفتيا وعدم الرجوع للعلماء، بل ويصمون علماءنا بالجمود والانغلاق والرجعية. وصنف آخر من هؤلاء الذين تجرؤوا على مقام الفتوى هم المنافقون العلمانيون الذين لا يرون للإسلام ولا لشريعة رب العالمين حقاً في أن تحكم الناس في جميع شؤون حياتهم، ثم هم مع ذلك حين يكون الحق موافقاً للهوى، يأتيك الواحد منهم مذعناً متبجحاً فيفتي الناس بفتوى توافق ما في نفسه ثم يشنع، بل ويرد على العلماء المخالفين، وحين لا يجد ما يوافق هواه ينقلب على عقبيه ويسخر بشرائع الدين وأخلاقياته، فهم كما قال ربنا سبحانه عنهم وهو أعلم بهم: "وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (النور:48-50). وهذا الصنف من المنافقين لم يكتف بنقل فتاوى بعض أهل العلم التي توافق هواه بل تجرأ هو بنفسه على الخوض في كلام الله وكلام رسوله فيرد هذا الحديث ويحرف تلك الآية حتى خرج لنا بعضهم بفقه عجيب يستبيح به موالاة اليهود والنصارى ومحبتهم والخنوع لهم كما يستبيح للمرأة المسلمة خلع حجابها وأن تتبرج بزينتها وتخالط من تشاء، بل وتخلو بمن تشاء. وصنف آخر من هؤلاء المفتين المفتونين شباب دفعهم الحماس والحمية لدين الله على أن تجاوزوا مقام العلماء الربانيين، بل وتنقصوهم ورموهم بالتهم وأطلقوا ألسنتهم بالتكفير والتفسيق، بل واستباحة الدماء دونما تنبه لخطورة ما يقومون به، ثم إن أحدهم حينما تُعرض عليه بعض مسائل الطهارة والصلاة يتوقف عن الفتيا فيها تورعاً، فأي ورع هذا الذي يكفه عن القول في مسائل الطهارة بينما لا يكفه عن الخوض في مسائل الكفر والدماء. إن الحماس والحمية للدين والغيرة على المحارم والجهاد في سبيل الله ليس مسوغاً لكل أحد أن يتجاوز مقام الفتيا، فيقول على الله بغير علم. فكم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من العباد والمجاهدين والغيارى على دين الله، ولكن لم نسمع لأحد منهم فتيا أو قولاً في مسألة من مسائل الدين، وما ذاك إلا لأنهم يعلمون مقام العلم والفتوى وخطورة القول على الله وعلى رسوله بغير علم. كما أن هناك آداباً وواجبات لا بد للمستفتي أن يتحلى بها، ذكرها أهل العلم من أهم هذه الواجبات أن يحرص إذا نزلت به نازلة على سؤال أهل العلم المعروفين بالدين والورع العالمين بالكتاب والسنة، فإن الفتيا دين كما قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وقال يزيد بن هارون: "إن العالم حجتك بينك وبين الله تعالى فانظر من تجعل حجتك بين يدي الله عز وجل ". وعلى المستفتي أيضاً أن يحذر من الهوى في تتبع زلات العلماء أو رخصهم حسب شهوته وهواه أو أن يضرب أقوالهم بعضها ببعض. كما على المستفتي أن يوقر العالم ويتأدب معه ويحسن السؤال والاستماع حال سؤاله وجوابه وأن يحفظ لسانه عن الوقيعة في العلماء إذا بدر منهم خطأ عن اجتهاد، وأن يدعوا لهم بالسداد وختاما لنتأمل هذا الحديث العظيم، عَنْ عَلْقَمَةَ الليثي عَنْ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلاَمٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ. أخرجه مالك في الموطأ، وأحمد في المسند بسند صحيح. ــــــــــــــــــــ وبالله التوفيق
__________________
( اللهم آجعل وجودي في هذا المنتدى خالصا ًلوجهك الكريم واكفني شـــره وانفعني به) |