رد: اريد كتاب السيده سالمة بنت سعيد سلطان مسقط وزنجبار وكانت لها لدى أبي حظوة دائما, فلم يرفض لها أيا من طلباتها التي كانت غالبا من أجل الآخرين.كان يتقدم لاستقبالها بانتظام حين تأتي إليه, وهو امتياز نادر. كانت طيبة وورعة, شديدة التواضع, صادقة وصريحة. لم تكن متفوقة من الناحية الثقافية ولكنها كانت ماهرة في الأعمال اليدوية. ولدت اثنين من الأطفال فقط, فقد كان لها عداي ابنة أخرى توفيت وهي صغيرة جدا. كانت بالنسبة لي أما محبة حنونا, ولكن هذا لم يمنعها من معاقبتي بشدة حين كان ذلك ضروريا. كان لها في بيت المتوني أصدقاء كثيرون, وهو أمر نادر في بيت حريم عربي. كانت ثقتها بالله راسخة إلى أقصى حد, لا تتضعضع. لا زلت أتذكر حريقا شب ذات ليلة مقمرة في إحدى الحظائر وما حولها بينما كان أبي وجميع رجاله في المدينة, كان لي من العمر خمس سنوات في أقصى الأحوال, ارتفع لغط في الدار بأنها هي أيضا مهددة بالخطر المباشر, فما كان منها إلا أن حملتني فوق ذراع وحملت بالأخرى قرآنها مسرعة إلى العراء. أما الباقي فلم يكن له قيمة لديها في ساعة الخطر هذه
كان لأبي في حياتي زوجة واحدة قدر ما أتذكر, أما باقي النساء فكن سراري (الواحدة سرية), وكان عددهن لدى موته سبعا وسبعين, اشتراهن جميعا واحدة بعد الأخرى. وكانت زوجته الشرعية عزة بنت سيف, وهي أميرة عمانية, صاحبة الكلمة المطلقة في البيت. كانت تملك رغم صغر حجمها وعدم وجود ما يميزها في المظهر, سلطة كبيرة على أبي, حتى أنه كان يتبع تعليماتها طائعا. وكانت متعجرفة إزاء النساء الأخريات وأطفالهن, متعالية ومتطلبة. وكان من حسن حظنا أنه لم يكن لها أطفال, وإلا لكان طغيانها لا يطاق. جميع أولاد أبي - وكان عددهم لدى موته 36 - من أبناء السراري. وكنا بذلك متساوين فيما بيننا, ليس ثمة ما يميزنا عن بعضنا.
كان الجميع من علا شأنه أو صغر على السواء يخافون بيبي عزة التي كان على الكل صغارا وكبارا مخاطبتها بالسيدة, ولكن دون أن يحبها أحد. لا زلت أتذكر حتى اليوم كيف كانت تمر أمام الكل بتصلب ونادرا ما تحدثت إلى أحد بلطف. كان أبي الشيخ الطيب على العكس منها سواء تعلق الأمر بشخص ذي مكانة رفيعة أو متدنية. لقد عرفت زوجة أبي كيف تتمتع بمكانتها العالية بشكل استثنائي, وما كان أحد يجرؤ الاقتراب منها إن لم تشجعه بنفسها. لم أرها تسير دون حاشية, باستثناء ذهابها مع أبي إلى الحمام الذي كان مخصصا لهما وحدهما. وكان كل من يقابلها في البيت يقف احتراما, كما يقف المجند في مواجهة جنرال.
وهكذا كان الجميع يشعرون تماما بالضغط الذي تمارسه من فوق ولكن دون أن تفقد بيت المتوني جاذبيته بالنسبة لسكانه. لقد كانت التقاليد تقضي أن يذهب جميع أخوتي الصغار والكبار على السواء إليها في الصباح ليحيوها. ولكن كان الجميع لا يحبها حتى ندر أن يذهب أحد إليها قبل تقديم الإفطار الذي كانت تتناوله في جناحها, وهكذا نغصت عليها متعة الفرح بالطاعة التامة التي تطلبها من الآخرين.
عاش في بيت المتوني أكبر أخواتي. كان يمكن لبعضهن مثل شيخة وزوينة أن تكون جدتي ببساطة. فقد كان للأخيرة ابن, علي بن مسعود, لم أره إلا وقد وخط الشيب لحيته, أما هي فكانت أرمل وجدت في بيت أبويها ملاذا بعد وفاة زوجها.
لم يفضل الأبناء الذكور على البنات في أوساطنا العائلية, كما يفترض الكثيرون هنا. ولا أعرف حالة واحدة فضل فيها أب وأم أن يكون لهما ابن وليس ابنة, أو فضلا الإبن عليها لأنه ذكر وحسب. لا شيء من هذا كله. وإذا كان القانون قد فضل الغلام على أخواته في أشياء كثيرة وأقر له بالامتيازات كما هي الحال في تقسيم الميراث, فإن الأطفال كانوا يتلقون نفس المعاملة ونفس المحبة. قد يفضل طفل على الآخرين هناك في الجنوب كما هو الحال هنا, بنفس المقدار سواء كان صبيا أم بنتا, رغم أن ذلك لا يكون معلنا, وإنما في السر, فهو أمر طبيعي وبشري. وهكذا كان الأمر مع أبينا أيضا . ولكن لم يكن الأبناء الذكور أطفاله المحببين وإنما اثنتان من بناته وهما شريفة وخولة. مرة, وكنت في التاسعة من عمري, أصابني في الخاصرة سهم من قوس أخي المتهور حمدان, وهو في مثل سني, ولم يصبني لحسن الحظ إصابة شديدة الخطورة. حين علم أبي بالقصة قال لي: ؛سالمة, إذهبي ونادي حمدان«. ولم أكد أحضر مع أخي حتى انهال عليه بأقسى كلمات التأنيب التي ظل يتذكرها زمنا طويلا. في هذه النقطة لا يكاد المرء هنا يعرف شيئا. يتوقف الأمر في كل مكان على الأطفال أنفسهم, وإنه ليس من العدل بالتأكيد معاملة الأطفال القساة مثل الأطفال المهذبين وعدم وضع فوارق واضحة بينهم.
كان أجمل مكان في بيت المتوني هو البنديلة أمام البيت الرئيس, الواقعة على البحر مباشرة, شرفة عظيمة مستديرة, كان باستطاعة المرء أن يقيم فيها حفلة كبيرة بشكل مريح, لو كان مثل هذا معروفا أو معتادا لدينا. كانت تشبه بأكملها عجلة دوارة ضخمة, فقد كان سقفها طبقا للبناء, مستديرا أيضا. بني الهيكل بأكمله, الأرض والدرابزينات وكذلك السقف الذي له شكل الخيمة من الخشب المدهون. كثيرا ما كان أبي الطيب يمضي هنا ساعات طويلة جيئة وذهابا مفكرا ورأسه منحن. كان يضلع قليلا بسبب رصاصة أصيب بها في الحرب, استقرت في فخذه وكثيرا ما سببت له ألما, وأثقلت خطوة الرجل المهيب.
كانت تحيط البنديلة كراس كثيرة من الخيزران, بضع دزينات منها بالتأكيد, وكان ثمة منظار عظيم للاستخدام العام, ولا شيء آخر عدا ذلك. كان المنظر الذي تطل عليه البنديلة المرتفعة بالغ الروعة. اعتاد أبي وعزة بنت سيف وأولاده الكبار أن يتناولوا القهوة هنا عدة مرات في اليوم. وكان من أراد أن يكلم أبي دون أن يزعجه أحد يأتيه إلى هنا وليس إلى مكان آخر, حيث يكون في ساعات معينة وحيدا.
وكان يرسو في مواجهة البنديلة مركب ؛الرحماني« الحربي طوال العام. وهو مخصص لغرض واحد وحسب, إطلاق المدفع في شهر رمضان لإيقاظ الناس ولتنبيه قوارب التجديف الكثيرة التي نحتاجها. كانت تحت البنديلة ثمة صارية مرتفعة رفعت عليها أعلام للإشارات البحرية تنقل الأوامر, ما إذا كان يطلب قدوم عدد كبير أو صغير من القوارب والبحارة إلى الشاطئ.
أما المطبخ فكانت تعد فيه سواء في بيت المتوني أو بيت الساحل عدا الأطعمة العربية الأطعمة الفارسية والتركية أيضا. فقد عاشت في البيتين أجناس مختلفة. وكان الجمال الساحر وعكسه تماما موجودين بين هؤلاء بوفرة. ولكن لم يسمح لنا بلبس غير الزي العربي, والسواحيلي للزنوج. فإذا ما جاءت امرأة شركسية بملابسها ذات التنورة العريضة أو حبشية بزيها الرائع ذي القماش الملفوف عليها, توجب عليها أن تخلع هذه الثياب وتلبس الثياب العربية المخصصة لها خلال ثلاثة أيام.
وكما يتوجب على أي امرأة محترمة هنا أن تمتلك قبعة وقفازا كأشياء ضرورية, فإن الأمر مثله لدينا فيما يتعلق بالحلي. فالحلي هي جزء من مكملات الزي الضرورية تماما, حتى أن المرء يرى متسولات يذهبن لممارسة عملهن بمثل هذه الحلي. كان لأبي في كلا بيتيه في زنجبار وفي قصوره في مسقط في مملكة عمان خزائن كنوز خاصة, مليئة بعملات اسبانية كبيرة من الذهب, وغينية وفرنسية وألمانية. ولكن عدا هذا كان جزء كبير منها حليا نسائية مختلفة, من البسيطة وحتى التيجان المرصعة بالماس, كل هذا اقتني ليقدم هدايا. كلما زاد عدد أفراد العائلة سواء عن طريق شراء سرار أو ولادة أمراء وأميرات وهو ما يحدث كثيرا, افتتح باب الخزانة لتقديم الهدية للقادم الجديد حسب مرتبته ومكانته. فقد اعتاد أبي حين يولد طفل, أن يزور الوليد والأم في اليوم السابع حاملا معه حليا هدية للرضيع. وكذلك كانت السرية الجديدة تحصل عند وصولها مباشرة هدية من الحلي الضرورية, بينما كان رئيس الغلمان يخصص لهن الخدم.
كان أبي غريبا فيما يتعلق بمحيطه رغم أنه كان شخصيا يحب البساطة الشديدة لنفسه. لم يسمح لنا جميعا أن نظهر أمامه في غير الزي الكامل, من الأبناء وحتى أصغر الغلمان. كنا نحن الفتيات نعقد شعرنا في ضفائر دقيقة كثيرة (يصل عددها إلى عشرين غالبا), تربط نهاياتها بصورة مائلة من الجهتين, وتتدلى في الوسط حلية ذهبية ثقيلة مرصعة بالأحجار الكريمة غالبا, أو كانت تعلق بكل ضفيرة قطعة نقود ذهبية كتبت عليها آيات قرآنية, وهي أجمل من التسريحة الأخرى الموصوفة أعلاه. كانت هذه الحلي تنزع عنا عند الذهاب إلى النوم ويعاد ربطها في الصباح التالي.
كنا نضع نحن الفتيات حتى الوقت الذي يكون علينا فيه أن نتحجب خصلة شعر إضافية مثل التي تستعمل هنا. ذات صباح ركضت دون أن أنتظر زينة الشعر هذه إلى أبي دون أن ينتبه إلي أحد لأحصل منه على الحلوى الفرنسية التي كان يقدمها لنا نحن الصغار كل صباح, ولكن بدلا من أن أحصل على الحلوى المشتهاة أخرجت من الغرفة وأعادني أحد الخدم إلى المكان الذي جئت منه. منذ ذلك الوقت تجنبت الظهور أمامه دون ارتداء الزي الكامل.
كانت أكثر صديقات أمي حميمية أختي زيانة وزوجة أبي مدينة. كانت زيانة وهي ابنة امرأة حبشية, في مثل عمر أمي, وكانتا تحبان بعضهما حبا لا يوصف. وكانت زوجة أبي مدينة شركسية هي الأخرى, من هنا نشأت صداقتها لأمي فقد كانتا وكذلك أيضا سارة, زوجة أخرى لأبي, تنحدران من نفس المنطقة. كان ولدا سارة هما أخي ماجد وأختي خدوج, وكان الأول يصغر أخته بسبع سنوات. وكانت أمي قد عقدت اتفاقا مع صديقتها سارة أن تتولى إذا ماتت سارة أولا تربية طفليها ماجد وخدوج, والعكس أيضا. ولكن حين ماتت سارة كانت خدوج وكذلك ماجد قد كبرا ولم يكونا بحاجة إلى مساعدة أمي أبدا طيلة إقامتهما في البيت الأبوي. كان المتعارف عليه لدينا, أي في عائلتي, أن يتابع الصبيان بعد سن اليفاعة أيضا, حتى سن الثامنة عشرة أو العشرين العيش مع أمهاتهم في البيت الأبوي وكان عليهم أن يخضعوا تماما لنظام البيت. فإذا بلغ أمير هذه السن فإن أبي سيعلن كمال أهليته إن عاجلا أو آجلا حسب حسن سلوكه أو رداءته. عند ذاك يحق له أن يعتبر نفسه من الراشدين, وهو تكريم ينتظره المرء هناك أيضا بفارغ الصبر. يحصل كل أمير في هذه المناسبة على بيت خاص به وخدم وخيول وكل ما يحتاج إليه, إلى جانب منحة كافية تدفع له شهريا.
بلغ أخي ماجد هذا التكريم, وقد حصل عليه بسبب شخصيته الكاملة أكثر مما بسبب السن. كان ماجد هو التواضع بعينه, كسب قلوب جميع من كان يتعامل معهم في كل مكان بشخصيته المحبوبة الودودة. لم يكن يمضي أسبوع دون أن يأتي فيه إلينا من المدينة راكبا, (فقد كان يسكن مثل أمه سابقا في بيت الساحل) ورغم أنه كان يكبرني بما يقرب من اثنتي عشرة سنة كان يستطيع اللعب معي كما لو كنا في نفس العمر.
وقد جاء إلينا ذات يوم منفعلا بفرح ليبلغ أمي حالا أن أبي أعلن بلوغه سن الرشد, وجعله يقف على قدميه وحصل على بيت خاص به. ثم رجانا بإلحاح, أمي وأنا, أن ننتقل لنسكن في بيته الخاص ونبقى نعيش معه هناك إلى الأبد. وقد نقلت خدوج إلينا نفس الطلب. لكن أمي نبهت أخي المتعجل إلى أنها لا تستطيع أن تلبي طلبه دون موافقة أبي, وأنها ستتحدث معه في الموضوع وتبلغه بالنتيجة. وبقدر تعلق الأمر بها فإنها تحب أن تسكن معهما طالما رغب هو وخدوج في ذلك. عرض ماجد أن يتحدث بنفسه مع أبي فيوفر على أمي المسافة. ثم جاءنا في صباح آخر بالخبر أن أبي الذي كان في ذلك الوقت في بيت الساحل قد وافق على طلبه. وبذلك تقرر انتقالنا. بعد تشاور طويل اتفقت أمي مع ماجد أن تنتقل إلى مسكنهم بعد أيام, حين يكون هو وخدوج قد استقرا في بيتهما الجديد.
بيت الواتورو يتبع
__________________ قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : عليك بطريق الحق و لا تستوحش لقلة السالكين و إياك و طريق الباطل و لا تغتر بكثرة الهالكين .... |