عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 05-12-2007, 06:53 AM
 
رد: اريد كتاب السيده سالمة بنت سعيد سلطان مسقط وزنجبار

شق على أمي الانتقال إلى البيت الجديد, فقد كانت متعلقة ببيت المتوني جسدا وروحا, إذ عاشت هنا منذ طفولتها. مثلما شق عليها أن تفارق أختي زيانة وزوجة أبي مدينة, وفوق هذا فهي لم تكن تحب التجديد. ولكن رجح الشعور بأنها قد تكون مفيدة لأولاد صديقتها المتوفاة, كما روت لي فيما بعد, على كل تردد شخصي.

ما كاد قرار أمي بالانتقال إلى المدينة يشيع حتى أصبح الكل يناديها أينما ظهرت- جلفيدان - هذا هو اسم أمي الغالية - ألم تعودي تحبين العيش معنا فتريدين تركنا إلى الأبد? وقد كان جوابها »آه أيها الأصدقاء, إنها ليست إرادتي أن أترككم وإنما هو قدري أن يكون علي أن أذهب«. أشعر أن البعض سينظر إلي في أفكاره مشفقا لدى قراءة كلمة »قدر«, أو على الأقل لن يستطيعوا إلا أن يهزوا أكتافهم. ربما أغلق هؤلاء حتى الآن عيونهم وآذانهم أمام إرادة الله ورفضوا إدراكه بعناد, بينما هم يعطون للصدفة على العكس أهمية أكبر. لا ينبغي للمرء أن يغفل أن الكاتبة كانت مسلمة وأنها نشأت كمسلمة. وأنا أتحدث عن الحياة العربية, عن البيت العربي, هذا يعني أن ثمة أمرين يظلان مجهولين في البيت العربي الأصيل, وهما كلمتا »الصدفة« و»المادية«. لا يعرف المسلم ربه كخالق وحفيظ وحسب, وإنما يشعر بحضور الله دائما, وهو مقتنع أن ما يحدث ليست إرادته وإنما هي إرادة الله في ما صغر أو كبر من الأمور.

مرت أيام ونحن نقوم بالاستعدادات, ثم انتظرنا عودة ماجد الذي أراد أن يعد لرحلتنا بنفسه. كان لدي في بيت المتوني ثلاثة أخوة, أختان وأخ كرفاق في اللعب, كانوا في مثل سني تقريبا. تألمت لاضطراري لتركهم. أذكر بالاسم رالوب الصغير الذي كان قريبا مني جدا. وعلى العكس فقد فرحت فرحا لا يوصف لأنني استطعت بهذه المناسبة أن أودع معلمتي الجديدة غليظة القلب إلى الأبد.

كانت غرفتنا الكبيرة بمناسبة الفراق المزمع تشبه خلية نحل لكثرة الأصدقاء والمعارف. أتانا الجميع بهدية وداع, كل حسب إمكانياته ودرجة محبته لنا. كان يحرص لدينا على هذا التقليد. وحين لا يكون لدى العربي إلا أقل القليل, فإنه لن يتردد في تقديمه لأصدقائه لدى الوداع كهدية. لا زلت أتذكر حادثة وقعت حين كنت صغيرة جدا. كنا قد انطلقنا من بيت المتوني في رحلة قصيرة إلى بساتيننا وكنا ننوي أن نركب القوارب الكثيرة ثانية لنعود إلى البيت. هنا سحبني شيء من الخلف, ورأيت زنجية عجوزا تلوح لي. أعطتني شيئا ملفوفا بأوراق الموز قائلة: ؛هذه هدية وداع صغيرة لك يا بيبي يانغو (سيدتي), إنها أول ثمرة ناضجة أمام بيتي. فتحت الأوراق بعجالة, ووجدت في داخل الغلاف عرنوص ذرة وحيدا مقطوفا للتو. لم أكن أعرف المرأة الزنجية, لكن تبين فيما بعد أنها كانت خادمة قديمة لأمي الطيبة«.

أخيرا جاء ماجد وأبلغ أمي أن لدى قبطان مركب الرحماني أمرا بأن يرسل مساء الغد لنا نحن الاثنتين مركبا شراعيا بصارية واحدة ومركبا آخر لأمتعتنا وللناس الذين سيرافقوننا إلى المدينة.

كان أبي في ذلك الوقت في بيت المتوني. وهكذا ذهبت أمي إليه بصحبتي حين حان يوم السفر لتودعه. رأيناه في البنديلة يمضي جيئة وذهابا, وإذ رآنا اتجه إلى أمي مباشرة. ثم استغرقا بعد قليل في حديث متحمس حول رحلتنا. وقد أمر واحدا من الغلمان كان يقف على بعد معين أن يأتيني بحلوى وشراب, ليضع في الظاهر حدا لأسئلتي الأبدية التي كنت أوجهها له. فقد كنت كما يستطيع المرء أن يتصور متلهفة إلى أبعد حد لرؤية مسكننا الجديد وكل ما يتعلق بالحياة في المدينة بصورة عامة, فإنني لم أكن في المدينة حتى ذلك الحين, قدر ما أتذكر, سوى مرة واحدة وحسب ولفترة قصيرة فقط. من هنا فلم أعرف جميع أخوتي, ولا جميع زوجات أبي الكثيرات. بعد ذلك ذهبنا إلى جناح زوجة أبي المبجلة لنودعها أيضا. وقد وقفت لتوديعنا, وهو إكرام أيضا على طريقتها, فقد اعتادت أن تستقبل وتودع وهي جالسة. وقد سمح لأمي ولي أن نقبل يدها الرقيقة قبل أن ندير لها ظهرنا بعد ذلك إلى الأبد.

وقد مضينا الآن صعودا ونزولا لنودع جميع الأصدقاء ولكننا لم نجد سوى أقل من النصف في غرفهم, فقررت أمي أن تودع الجميع مرة واحدة في ساعة الصلاة حيث اعتاد الجميع أن يحضر. في السابعة مساء توقف قاربنا الشراعي تحت البنديلة, وهو قارب كبير يستخدم في مناسبات خاصة فقط. وكان مزودا بأربعة عشر بحارا كمجدفين, وقد زينته من الأمام والخلف راية كبيرة قانية الحمرة, رايتنا الخالية من أية علامة أخرى, وفي القسم الخلفي من المركب كانت قد نصبت مظلة كبيرة, يمكن لعشرة إلى إثني عشر شخصا أن يجلسوا على الوسائد تحتها.

جاء جوهر العجوز, وهو غلام مخلص لأبي, وأبلغنا أن كل شيء جاهز للرحلة, وكان عليه هو وغلام آخر بناء على أمر من أبي الذي كان يراقب انطلاقنا من البنديلة أن يرافقانا في رحلتنا. وقد وجه جوهر المقود كالمعتاد. رافقنا أصدقاؤنا بعيون دامعة حتى باب البيت, ولازالت كلمة »مع السلامة, مع السلامة« ترن في أذني حتى اليوم.

شاطئنا ضحل إلى حد ما, ولم يكن ثمة جسر للمرسى في أي مكان. وكانت ثمة طرق ثلاث للوصول إلى القوارب. أن يجلس المرء على كرسي ذي متكأ يحمله بحارة أقوياء, أو يركب المرء على ظهرهم, أو يعبر المرء فوق لوح خشبي يصل المركب بالرمل الجاف على الشاطئ. استخدمت أمي الطريقة الأخيرة في الوصول إلى السفينة, يسندها غلمان مضوا فوق الرمل المبتل من الجانبين. أما أنا فقد حملني غلام آخر على ذراعه إلى القارب وأجلسني أمام المقود إلى جانب أمي وجوهر العجوز وفي المركب نفسه كانت ثمة فوانيس مشتعلة نشرت مع النجوم اللامعة ضوءا خافتا ساحرا حقا. وفضلا عن هذا فما كاد المركب يتحرك حتى بدأ المجدفون الأربعة عشر بغناء عربي حزين حسب تقاليدنا.

أبحرنا على طول الساحل كما هو معتاد بينما نمت بعد وقت قصير نوما عميقا, نصفي في حضن أمي والنصف الآخر على الوسادة. فجأة جرى إيقاظي في غير رفق عبر الأصوات الكثيرة المختلطة التي نادت باسمي. مذعورة وبعينين يثقلهما النعاس تبينت تدريجيا أننا قد وصلنا وأنني كنت قد نمت طول الرحلة. رسونا مباشرة تحت نوافذ بيت الساحل التي كان جميعها مضاء, تطل منها رؤوس لا عد لها. كل هؤلاء المشاهدين كانوا أخوتي وزوجات أبي الذين لم أكن قد تعرفت على أغلبهم بعد. وكان الكثير من أخوتي يصغرني سنا, ولم يكونوا أقل لهفة للتعرف علي من لهفتي للتعرف عليهم. وقد روت لي أمي أنهم هم الذين بدأوا يهتفون باسمي من بعيد حين لاح لهم مركبنا. تم الرسو مثل الإبحار واستقبلني أخوتي الصغار بصخب. كان علينا وفق رغبتهم أن نذهب معهم مباشرة, وهو ما رفضته أمي بالطبع, وإلا لكان على خدوج التي كانت تقف أمام نافذة بيتها أن تنتظر أطول من ذلك. وقد حزنت جدا لأنني لم أستطع الذهاب إلى أخوتي الصغار مباشرة, وهو ما كنت قد فرحت من أجله طيلة أيام, ولكني كنت أعرف أمي جيدا لأدرك أن ما أرادته أو قالته مرة لا يمكن تغييره, رغم حبها المضحي الذي لا مثيل له لي فقد كانت قوية وحازمة في كل شيء. إلا أنها واستني بأنها ستدعني أقضي هناك يوما كاملا ما أن يأتي أبي إلى بيت الساحل. وهكذا مررنا أمام بيت الساحل متجهين إلى بيت الواتورو, بيت ماجد. وهو يقع قرب بيت الساحل مباشرة ويطل مثله تماما على البحر. حين دخلنا وجدنا أختي خدوج تنتظرنا عند السلم. رحبت بنا في بيت الواتورو بحرارة وقادتنا أولا إلى غرفتها, حيث دخل خادمها الخاص إيمان بعد قليل بمرطبات من مختلف الأنواع. كان ماجد في غرفة الاستقبال في الطابق الأرضي, ولم يكن ليسمح له أن يصعد إلينا إلا بطلب من خدوج ورخصة من أمي. آه, كم كان ماجد الطيب النبيل فرحا لاستقبالنا في بيته.

كانت الغرفة المخصصة لنا واسعة تطل مباشرة على مسجد مجاور. وهي مؤثثة مثل أغلب الغرف العربية, فلم يكن ثمة ما نفتقده. ولم نكن نحتاج إلا إلى غرفة واحدة, فالمرء يرتدي هناك نفس الملابس في الليل والنهار, ولدى العرب الموسرين المتشددين في النظافة فإن غرفة خاصة للنوم هي شيء فائض. تكون غرف الأغنياء والوجهاء مؤثثة على النحو التالي, يغطي الأرض سجاد فارسي أو بسط ناعمة دقيقة الصنع. الجدران السميكة المطلية باللون الأبيض مقسمة إلى عدة أقسام من خلال أقواس ذات عمق مناسب تمتد من الأرض إلى السقف. وتقسم الأقواس ألواح من الخشب مطلية باللون الأخضر تشكل طوابق صف عليها بصورة متناظرة أفخر وأثمن أواني البلور والخزف. ولا يبخل العربي بثمن من أجل تزيين هذه الأقواس, قدح مصقول بدقة, صحن يحمل رسما جميلا أو إبريق أنيق مهما كلف ذلك. فهذه الأشياء تشترى إذا كانت جميلة. يسعى المرء إلى تغطية الجدران العارية الضيقة بين الأقواس, حيث تعلق عليها مرايا كبيرة تمتد من الديوان الذي يرتفع قليلا عن الأرض حتى السقف, تطلب من أوروبا حسب ارتفاعها وعرضها. أما الصور فهي مستنكرة بشكل عام لدى المسلمين باعتبارها تقليدا للخلق الإلهي, ولكن جرى في الفترة الأخيرة التساهل فيها. وعلى العكس فإن الساعات محبوبة جدا ويجد المرء في البيت الواحد مجموعة كبيرة منها, حيث يعلق بعضها فوق المرايا ويعلق البعض الآخر أزواجا على جهتيها. وتزين الجدران في غرف الرجال رموز من أنواع مختلفة من الأسلحة الثمينة من البلاد العربية ومن بلاد فارس وتركيا. وهي زينة اعتاد كل عربي أن يزين بها بيته حسب مكانته وثرائه.

في إحدى زوايا الغرفة وضع السرير الكبير المصنوع مما يسمى خشب الورد, تزينه نقوش رائعة حفرت عليه بمهارة, وهو فن يدوي من شرق الهند. تغطي السرير بأكمله ستارة من التول أو الململ الأبيض. للأسرة العربية سيقان مرتفعة جدا, ومن أجل أن يرتقيها المرء بصورة مريحة, يرتقي المرء أولا كرسيا, أو يستخدم كعتبة طبيعية, يد واحدة من الخادمات. وكثيرا ما يستخدم الفراغ المرتفع تحت السرير كمكان للنوم من قبل المرضعات مثلا في حالة الأطفال الرضع أو من قبل الممرضات في حالة المرض.

لا يجد المرء المناضد إلا ما ندر ولدى الأشخاص ذوي المكانة الرفيعة وحسب. وعلى العكس توجد الكراسي من مختلف الأنواع والألوان. كما لا توجد خزانات ودواليب, وبدلا من ذلك كان لنا نوع من الصناديق لها اثنان أو ثلاثة من الأدراج وفي داخلها أيضا مخبأ سري للنقود والحلي. كانت هذه الصناديق التي كان ثمة العديد منها في كل غرفة كبيرة جدا, مصنوعة من خشب الورد ومزينة بصورة جميلة جدا بآلاف المسامير ذات رؤوس من النحاس الأصفر.

كانت الشبابيك تبقى على مر السنين مفتوحة, وقد تغلق الأولى منها فترة قصيرة في أقصى الأحوال عندما يكون الطقس ممطرا, وهكذا تبدو عبارة ؛ثمة تيار هواء« عبارة غير معروفة.

لم يعجبني البيت الجديد في البداية أبدا. افتقدت أخوتي الصغار كثيرا وبدا لي بيت الواتورو بالمقارنة مع بيت المتوني الهائل صغيرا وضيقا بصورة مقبضة. أيكون عليك أن تعيشي هنا إلى الأبد? أين ستبحر قواربك الشراعية, أفي برميل ماء? تساءلت في الأيام الأولى دون انقطاع. لم يكن هنا ثمة متوني, وكان ينبغي جلب الماء من بئر تقع خارج البيت. وحين نصحتني أمي المحبة الطيبة التي كانت تود أن تهدي الآخرين كل ما تملك, أن أعطي السفن الشراعية التي أحببتها كثيرا إلى أخوتي في بيت المتوني, لم أرد ذلك في البدء. باختصار شعرت هنا لأول مرة في حياتي أنني تعيسة ومتكدرة بشدة.

وعلى العكس فقد مارست أمي في الحال مهنتها وكانت طول اليوم منشغلة مع خدوج بالتنظيم ووضع الأثاث, حتى أنني لم أستطع أن ألجأ إليها. كان أخي ذو القلب الطيب ماجد أكثر من اهتم بي, أخذني من يدي في اليوم التالي مباشرة وأراني بيته بكامله من أسفله حتى أعلاه. ولكن لم يعجبني شيء. كنت عديمة الاكتراث بكل شيء ورجوت أمي أن تعود بي قريبا إلى إخوتي الأحباء في بيت المتوني. لم يكن ذلك ممكنا بالطبع, وليس لأنها كانت نافعة للاثنين حقا.

اكتشفت في ماجد لحسن الحظ شخصا محبا للحيوانات, وأنه يملك في بيته مجموعة من مختلف الأحياء, بينها أعداد كبيرة من الأرانب البيضاء وهو ما كان يزعج خدوج وأمي فقد خربت البيت الجديد تماما. ثم كان لديه عدد كبير من ديكة المصارعة من كل بلدان العالم, لم أر مجموعة غنية كهذه ثانية حتى في حديقة حيوان.


__________________
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى :
عليك بطريق الحق و لا تستوحش لقلة السالكين و إياك و طريق الباطل و لا تغتر بكثرة الهالكين ....