02-23-2012, 06:20 PM
|
|
البشرى الرابعة والعشرون بشرى الاستقـــامة
أما بشرى الإستقامة فحدث ولا حرج على الفضل والكرامة فالإستقامة بشراها فوق كل حدٍّ أو علامة وأنا إن شاء الله سأدخل بكم على هذه البشرى من مدخل مختلف عما تعودتم عليه من تناول الشرَّاح للآية: فأسألكم يطوف بخيال أحدنا كثيراً فى مثل أيام الفضل من رمضان أو فى مواسم العفو أو أو قات الكرامة أو فى القيام أو أثناء التلاوة أين هو من أوامر الله أو تعاليم نبى الله؟ ما الدليل الذى يعلم به الإنسان أن الله اجتباه وحبَّاه ورقَّاه وأدناه؟ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}ماذا يقولون لهم؟{أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}فأول دليل أن يرزقه الله الاستقامة فى الأقوال والأعمال والأحوال وفى كل الأوقات وكل الآنات فهؤلاء الذين استقاموا وتنزلت لهم البشرى بالكرامة هم المؤهلون للمنح الذاتيَّة والنفحات الربانيَّة التى جهَّزها الله لأهل الخصوصيَّة فالإستقامة هى البشرى وهذا هو المدخل الذى أريد أن أدخلكم منه للآية وهى علامة للعطية والكرامة كالرؤيا الصادقة مثلاً وإذا لم يرزق العبد الرؤيا فيكفى أن يرى أن الله أعانه ورزقه الاستقامة وحفظ عليه أحواله وأقواله وجعله يمشى كما يقول الله{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}فالنبى هو الصراط المستقيم لأن الاستقامة أعلى مقام وأعلى تكريم من الله للصالحين أبداً فالله لم يقل (فاستمعوا له) بل قال {فَاتَّبِعُوهُ}فالنبى على منهج الاستقامة فهى المنهج العظيم الذى يؤهل لكرم الرءوف الرحيم وإكرامات الرب الكريم وقد يكرم أحدهم فيسمع تسبيح الكائنات{مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}وهناك من يفقهه فيعَلِّمه الله لغات الأشياء حتى لغة الجمادات ويسمع نطقها بألفاظ فصيحات وفى ذلك يقول أحد الصالحين :
نغمات تسبيح الكيان مدامى يصغى لها قلبى يزيد هيامى
قلبى لدى التسبيح يصغى واجداً وجد المؤله من فصيح كلامى
فيسمع تسبيح الكائنات أو الحقائق أو الملائكة وقد يكرمه الله بإكرامات القلب فيكون هذا القلب له إطلالة علوية على الأحوال الربانية وقد يكرمه الله بالإلهام وقد يكرمه الله بالسكينة تتنزل عليه على الدوام وقد يكرمه الله بالطمأنينة لذكر الله وقد يكرمه الله فيفتح له كنوز الحكمة فى قلبه وقد يكرمه الله فيُفرغ له من أسراره التى لا يُطلع عليها إلا خواص عباده وقد يكرمه الله فيجعل فى قلبه وسعة حقيَّة كما روى فى الأثر عنه عز وجل{إِنَّ السَّمواتِ والأَرْضَ ضَعُفْنَ عَنْ أَنْ يَسَعْنَني وَوَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ الوَادِعِ اللَّيِّنِ}[1] إذاً قلب العبد المؤمن أوسع من السموات والأراضين ومن فيهن بما فيه من ألطاف إلهية خفية وعلوم ربانية وأسرار ذاتية وقال ابن الوردى العباسى فى المقارنة بين أحوال الصادقين المستقيمين الأولياء وغيرهم من أهل الدعوى الأدعياء
فقال:
ذهبَ الصدقُ وإخلاصُ العملْ ما بقيْ إلا رياءٌ وكسلْ
غرَّكَ التقصيرُ مِنْ ثوبي فإنْ قُصِّرَ الثوبُ فقدْ طالَ الأملْ
إنْ تأملتَ فزيِّي منهمُ غيرَ أَنَّ القلبَ مغناهُ طللْ
رفَعَ الكَلَّ عنِ الكُلِّ وقال ربى الله تحامى كُلَّ كَلّْ
ذَلَّ للـهِ فعزَّتْ نفسُهُ كلُّ مَنْ عزَّ بغيرِ اللـهِ ذَلْ
فَهْوَ إنْ يعلُ فباللـهِ علا وَهْوَ إنْ ينزلْ فبالحقِّ نَزَلْ
كسرَ النفسَ فصمَّتْ واتقى زخرف الدنيا وخيلاً وخَوَلْ
بَذَلَ الروحَ ولولا عزُّ ما رامَ ما هانَ عليه ما بذلْ
عرفَ المربوبَ بالربِّ فلم يخشَ إلا ربَّه عزَّ وجلْ
ليتني في جسم هذا شعرةٌ صَغُرت أو طعنةٌ فيما انتعلْ
بل مرامي لحظةٌ أو لفظةٌ مِنْ وليِّ اللـهِ مِنْ قبلِ الأجلْ
هؤلاءِ القومُ يا قومُ مَضَوا ما تبقى منهمُ إلا الأقلْ
فإلى اللـهِ تعالى أشتكي ما بقلبي مِنْ فتورٍ وخبلْ
لو تقنَّعتُ أتى رزقي على رغمِهِ لكنْ خُلقنا مِنْ عجلْ
كم رياءٍ كم مراءٍ كم خطا كم عدوٍّ كم حسودٍ لا يملْ
ليس يخلو المرءُ عن ضدٍّ ولو حاولَ العزلةَ في رأسِ جبلْ
لا أرى الدنيا وإنْ طابتْ لمن ذاقَها إلا كسمٍّ في عَسَلْ
أين كسرى وهِرَقْلٌ أين مَنْ ملك الأرضَ وولَّى وعزلْ
أينَ مَنْ شادوا وسادوا وبَنَوا هَلَكَ الكلُّ وَلَمْ تغنِ القللْ
لو سألتَ الأرضَ عنهمْ أخبرت صرْتُ قفراً فاسْتَقِمْ وارْتَحِل
البشرى الخامسة والعشرون بشرى تنزل الملائكـــة
وهذه البشرى فيها تفصيل من سابقتها فقد علمنا أن الإستقامة هى علامة المحبة والكرامة وقد يكرم الله أحبابه بسرِّ الاستقامة كما أخبر بقوله{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}وحتى لا يلتبس الأمر على البعض فى تنزل الملائكة فيظن أنه يمكنه أن يراهم عيانا بياناً من البداية على هيئتهم وأحوالهم وفى الحقيقة لا يقدر أحدٌ بمفرده على ذلك إذ لابد من التأهيل هل هذا واضح؟ولذا روت السيرة قصة العباس عم النبى عندما ذهب لزيارة النبى يوماً ومعه ابنه عبد الله بن عباس وهو صبى ويروى بن عباس أنه دخل مع أبيه علي النبى فجعل العباس يكلم النبى والنبى لا يلتفت له لأنه كان مشغولاً بالحديث مع رجل آخر فانصرف العباس وقال لإبنه عبدالله أن النبى أعرض عنه فقال له{يا أبت أما رأيت الرجل الذي كان عنده يكلمه؟ قال: لا قال أكان عنده أحد؟ قال: نعم فرجعا للنبى فقال العباس: يا رسول الله أكان عندك أحد؟ قال: ورأيته؟ قال: أخبرني عبد الله بذلك قال عبدالله: فأقبل عليَّ النبى وسألنى: أرأيته؟ قلت: نعم قال ذاك جبريل}وفى رواية زيادة{أما إنك ستفقد بصرك}[2] فكان كما قال وكفَّ بصره في آخر عمره إذاً هذا الموضوع يحتاج إلى تأهيل هل وعينا القصة فكيف التأهيل؟والآن أعيرونى فهمكم إن الله جعل معك على قلبك ملَك الإلهام على الدوام وهذا هو حبل الوصال بينك وبين الملائكة الكرام فيلهمك الصواب ويسدِّدك إلى الحق ويوجهك إلى الصدق فماذا تحتاج لأكثر من هذا؟فمن أحبَّه مولاه جعل مَلَك الإلهام يتولاه بإلهامه والْمَلَك يتلقَّى من الله والعبد يتلقى من المَلَك فهو يتلقَّى من الله عن طريقه ولا غرور ولا زهو ولا سمعة لأنه لم يرَ الْمَلَك فالْمَلك يسدِّده ويلهمه دون أن يراه وذلك حفظ الحفيظ لهؤلاء الذين يريد أن يحفظهم الله على الدوام لكن لو رأى أحدنا مثلاً المَلك جهاراً فربما لعبت به نفسه التى لم تطهر بعد من العيوب فتجعله كلما جلس مع قوم يريد أن يفتخر بما رآه فيكون فى ذلك بُعده وحرمانه من المزيد من فضل ربه فالمحفوظ هو الذى يتولى الله إلهامه عن طريق المَلك ولا يراه فإذا تمَّ تأهيله فحدث ولا حرج فبعدها يحدث له ما لا يُعدُّ من حالات القرب من الملائكة ومن أهل العناية والرعاية الذين يتنزلون بإذن ربهم عليهم لتثبيتهم إن كانوا فى حاجة لتثبيت أو لإلهامهم إن كانوا يحتاجون الإلهام أو لحفظهم إن كانوا فى شأن يحتاجون فيه إلى الحفظ المعنوى أو الحسِّى من إنس أو جان فى أى وقت أو مكانٍ كان أما من كان فى أحضان مولاه فيا هناه فمثله لا يحتاج إلى أى صنف من ملائكة الله لأنه مع من يقول للشئ كن فيكون واسمعوا واعقلوا يا أولى الألباب فهذا دخل فى بشرى أعلى من ذلك وأكبر ويتولاهم بولايته وليست الملائكة ولا جبريل ولا ميكائيل لكن هو بذاته الذى يتولى الصالحين ألم يقل{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}وقال الرجل الصالح فى معرض تنزل الملائكة على أهل الإستقامة بالبشرى والكرامة:
هذا موطن تنزل الملائك فيه ومقام يَسُرُّ هذا الفؤادا
أيُّها الطاهر الزكيّ استقمت فنلت الإسعاف والإسعادا
فعليك تنزلت أملاك ربى أمطروا الإلهام والإمدادا
قد رفع قدركم للناس صرتم منهلاً ما استزيد إلاّ وزادا
فآى القران جاءتنا تنبى بسلامٌ يبقى ويأبى النفادا
فاتاكم الفضل من روح ربى وولاية الله لكم إرفادا
البشرى السادسة والعشرون بشرى المكاشفة الربانية
أما تلك البشرى فهى من البشريات العليات فإن كنا قد طفنا معاً فى تنزل الملائكة وفى تولى ملائكة الإلهام للعبد على الدوام فهناك بشرى أرقى وأغلى اسمعوا لقول الله العلى الأعلى وهو يبشِّر أهل المقامات السامية بنفسه فيقول{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}فلكى نحظى بسر تلك البشرى نسأل هل الموت أولاً أم الحياة؟ لا تأتى الحياة إلا بعد الموت فلابد أن تموت لكى يُحبُّوك ثم بروحهم يُحْيُوك ثم عطائهم يمنحوك وبمننهم يُجمِّلوك وبتأييدهم يُقيموك وبتوفيقهم يتابعوك وعندها تكون عبداً مقاماً معاناً محفوظ بحفظ حضرة الرحمن ولديها يكشف عنك الغطاء{فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}فالعطا كل العطا لمن كشفوا عنه الغطا وهو ميت يسير بين الأحياء وكم من مرة قال لهم النبى: من أراد أن ينظر لميت يسير بين الأحياء فلينظر إلى فلان وسمَّى أكثر من واحد وقال أحياناً من أراد أن ينظر إلى أحد ممن قضى نحبه فلينظر إلى فلان أما من يكشف عنهم الغطا بالموتة العزرائيلية فلا عطا ولا عطية لأن هذا الموت إنتهاء الرحلة الدنيوية لتبدأ الرحلة الأخروية والكل فيها يرى الحقيقة واضحة جليَّة فلا خصوصية ولا مزية إلا لمن مات الموتة الإختيارية وهو يمشى بين البرية فى الحياة الأرضية مكبَّلٌ بالقيود الجسمانية فهو إذاً أهل المكاشفة الربانية ونوال العطية والمزية فيكون له نوراً يمشى به فى الناس وليس بين الناس فاعقلوا يا أيها الخواص ولذا تسمعون عن الصالحين أنهم كُشف عنهم الحجاب ورُفعت أمامهم الستور فأصبحوا ينظرون بما فيهم من غيب إلى عوالم الغيب إلى ما لا يراه الناظرون ويتمتعون بعوالم الجمال القدسى المصون فيبصرون بعد أن كانوا عمياناَ ويسمعون ويكلمون الملأ الأعلى بعد أن كانوا صماً وطرشانا ولذا كان النبى كثيرا ما يمرُّ على أصحابهم فيشوقهم ويسألهم مستحثاً إياهم للمراقى العالية والغالية ويسألهم أسئلة عجيبة{هَلْ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يَؤُتِيَهُ اللَّهُ عِلْماً بِغَيْرِ تَعَلُّمٍ وَهُدَىً بِغَيْرِ هِدَايَةٍ هَلْ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَمَى وَيَجْعَلَهُ بَصِيراً}[3] فمن أين يأتى هذا كله؟ وكيف؟ إنها المكاشفات والإلهام والنور الذى ينبثق فى الصدور فيمشون به فى الناس ويعلمون ما شاء الله لهم من المستور ولكن اعلموا علم اليقين أن أعلى إكرام يبلغه العبد وأعلى مقام فى الكشف الربانى هو كشف معانى القرآن الكريم ومعانى بيان الرءوف الرحيم فربما قدر غير المسلمين على الوصول إلى بعض كشوف المخلوقات لكن لا يستطيع أحد أن يطلع على ذرة من معنى القرآن ولا أنوار غيوب أحاديث النبى العدنان فهذه مناطق لا يلجها إنس ولا جان إلا أهل{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً}
[1] رواه الإمام أحمد فى (الزهد) عن وهب بن منبه
[2] مسند الطيالسى عن عبدالله بن عباس
[3] جامع الأحاديث والمراسيل عن الحسن يتبــــــــــع إن شـــــــــاء الله |