- 26 -
وجه يلسع .. وورقة اختبار
- خلاص يا بنات؟.. غداً الاختبار.. ادرسوا جيداً.. من لا تحصل على درجة عالية الآن لن تستطيع الحصول على معدل جيد فيما بعد.. عشرون درجة على هذا الاختبار.. انتبهوا!!
بعد هذه التهديدات المرعبة من أبله حصة.. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وخوف بارد يشل أطرافي.. حتى معدتي انقبضت بقوة..
كم أكره الاختبارات.. كم أكرهها..
حين عدت للبيت.. كنت أشعر باكتئاب وضيق شديد..
توجهت نحو سريري بسرعة واستلقيت عليه قبل حتى أن أخلع عباءتي..
دفنت رأسي في الوسادة وأنا أكاد أبكي..
أريد أن أهرب..
بكل صدق.. أريد أن أهرب.. واختبئ بعيداً عن الاختبارات وما يتصل بها..
لا أريد أن أختبر.. لا أريد الخوف.. لا أريد قلق انتظار النتيجة..
كنت أشعر بالغثيان حين دخلت والدتي تدعوني للغداء.. لكن هذا كان آخر ما أفكر فيه..
- لا أريد شيئاً أرجوك يا أمي..
نظرت إلي أمي بحزن فقد عرفت أن هناك اختباراً في الأجواء..
- لا يصح هذا يا بنيتي.. إلى متى تشعرين بالرعب والخوف من الاختبارات.. لقد كبرت..
ليس هناك من يفهمني..
بكيت كثيراً وأنا أقول لهم.. أن خوفي من الاختبارات أمر خارج عن يدي.. شيء لا دخل لي فيه.. مرض قاتل أدعو الله أن يشفيني منه.. لكنهم يعتقدون أني أتحكم بحالتي ونفسيتي..
- أمي.. أرجوك.. أرجوك.. أريد أن أبقى لوحدي..
تنهدت أمي وأغلقت الباب ثم خرجت..
* * *
تعود بي ذاكرة سرابية لمشهد قديم تفوح منه رائحة الطباشير..
فصل صغير.. مقاعد متراصة.. طاولات مهترئة امتلأت بالرسومات وببعض قطع العلكة المتيبسة..
- يا الله يا بنات.. نتائج الاختبار..
تصرخ أبله منيرة بحدة على هذه الكائنات الغضة التي خرجت للتو من أحضان أمهاتها..
ثم تبدأ في سرد الدرجات مع التعليقات المناسبة
- في نظرها..
- ندى عبد المحسن..
وتنظر إلي نظرات أقرب ما تكون لنظرات النمر حين يلمح فريسته ويراقبها.. هكذا أتذكر.. ثم تهز فجأة رأسها باستهزاء..
- يا سلام يا ندى.. يا سلام على الدرجة الحلوة..
- تعالي هنا يا ندى..
من شدة خوفي منها مكثت في مكاني.. لم أملك القدرة على التحرك..
فزأرت بقوة..
- أقول تعالي ما تسمعين.. يا (حيوا..)..
كنت أرتعش وأنا أقوم من مكاني.. وكأني أتجه لمصيري المحتوم..
أوقفتني قرب السبورة أمام التلميذات وهن ما بين المتهامسات والضاحكات أو الخائفات من مصير مشابه لمصيري..
في تلك اللحظة أتذكر أني كنت أريد أمي.. أريدها بأية وسيلة.. أريد أن أهرب من الفصل إليها..
أخرجت المعلمة معي ثلاث طالبات.. ثم أخذتنا أمامها كالخراف الصغيرة نحو العقاب..
وكان العقاب.. هو..
أن تدور بنا على كل فصول المدرسة.. لتريهم أكسل ثلاث طالبات في اختبار الإملاء..
كان مشهداً مخزياً.. ونحن ندور منكسي الرؤوس خلفها وهي تشرح لكل فصل خيبتنا وفشلنا وتستهزئ بنا..
مرت على فصل بنات جيراننا.. وعلى فصل ابنة خالتي مشاعل.. وعلى فصل معلمتي الحبيبة نورة.. وكنت في كل مرة أشعر بخجل عظيم يكاد يذيبني.. لكني لا أستطيع الفرار أو الهرب..
كانت دموعي تنساب بخجل على وجهي المحمر.. وأنا أشهق بصمت.. وحزام مريولي يسحب خلفي.. وفجأة شعرت بالحاجة للذهاب للحمام..
قلت ذلك بخوف لأبله منيرة.. لكنها غضبت ورفضت.. كانت تعتقد أني أريد الهرب من مواجهة بقية الفصول..
تحملت قليلاً.. رغم السير الطويل في المدرسة والصعود بالدرج ثم النزول منه.. لكن.. صغر سني.. لم يساعدني أن أتحمل أكثر..
بكيت.. أرجوك معلمة منيرة.. أرجوك.. أريد الحمام..
لكنها رفضت وهي تسحبني بقوة من يدي..
وفي لحظة لا أنساها.. لم أستطع التماسك فيها أكثر..
وأحسست بنفسي فيها صغيرة جداً.. ومهانة لأقصى حد.. ومحتاجة لأمي أكثر من أي وقت آخر..
أحسست بالخجل يبلل ملابسي..
ثم.. لا أتذكر سوى الصراخ.. و.. أني كنت أريد أن أهرب..
* * *
أشعر بعطف شديد على تلك الطفلة البريئة التي لم تتجاوز السابعة..
التي تعتد بنفسها وبترتيب مريولها وبعطرها الطفولي كل صباح.. وتحرص على تسريحة مرتبة أمام زميلاتها..
أشفقت عليها بصدق من ذلك اليوم الذي غرقت فيها في أوحال الإهانة وتحطيم الذات أمام الجميع.. جميع من كانت تحبهم وتسعى لأن تكون الأفضل أمامهم..
قبل كل اختبار.. أصبحت أشعر بخوف برائحة الطباشير وطعم الدموع.. وأسمع أصوات صراخ من بعيد..
رعب قاتل يخنقني.. لا أعرف كيف أهرب منه.. ولا إلى أين..
ويزيد طيني بلة.. كلام أمي وأبي عن طموحهما بي..
تتباهى أمي أمام زوجة خالي..
- ندى.. ستدخل الطب بإذن الله..
- ما شاء الله..
- نعم.. وستصبح أول دكتورة في العائلة..
- لكن يا أمي..
أقاطعها بخجل..
- لكن ماذا؟
- المشكلة أن الطب يحتاج لمعدل عال جداً.. لا تتخيلي صعوبة ذلك..
- وما العائق أمامك.. أنت متفوقة ما شاء الله.. متفوقة جداً وذكية.. هل اللاتي دخلن الطب أفضل منك..
أبلع كلماتي بألم فمن المعيب أن نتناقش في ذلك أمام الحاضرات..
وتقطع أمي الحوار لتقول بثقة وصرامة..
- إنها ذكية.. لكنها تستحي أن تمدح نفسها..!
ويسكت الجميع.. وأنا أشعر بالحمل على عاتقي يزداد.. والهم في قلبي يكبر.. والخوف يخنقني أكثر فأكثر..
* * *
قبل الاختبارات النهائية أصبت بمغص شديد.. قيء.. فقدان شهية.. حرارة وهذيان.. كنت أبكي طوال الليل والنهار..
لم يبق أحد من أقاربي لم يتصل ويمنحني شيئاً من توجيهٍ ولوم كنت أشعر أنه يزيد مرضي ويثير غثياني أكثر..
كنت أشعر بأني كالغريقة.. في لجة لا قاع لها..
أريد أن أهرب.. أريد أن أبتعد عن الاختبار.. وعن رعبه المميت..
لكن.. حتى.. لو.. لو.. تركت الدراسة.. وقررت عدم الاختبار..
فإن الأمر الآخر الذي أغرق فيه ولا أستطيع الهروب منه.. هو طموح أهلي الذي أثقل ظهري وملأ قلبي هماً..
كيف أهرب من نظراتهم.. ومن طموحهم بي الذي سيتحطم تماماً..
تقول أمي أن أبي يفتخر كثيراً بي وبتفوقي – المزعوم- أمام زملائه.. وسيزداد فخراً إذا استطعت دخول كلية الطب.. وتقول.. أن علي أن أنجح بتفوق لكي ترفع رأسها أمام قريباتها..
- ستعرف موضي أن ابنتها ليست الأفضل لأنها دخلت الحاسب.. فأنتِ ستدخلين الطب بإذن الله!
وحتى في أقصى حالات مرضي وانهياري قبل الاختبار الأول بيوم واحد.. لم ترحمني أمي..
فبينما كنت في المستشفى وأنبوب المغذي يدفع شيئاً من الطاقة في جسمي المنهك الخائر..
اقتربت الطبيبة الشابة ومسحت على رأسي بعطف..
(لماذا يا حبيبتي كل هذا الخوف من الاختبار؟ لماذا هذا الاهتمام؟
فلتحصلي على نسبة منخفضة!! نعم.. ماذا في ذلك؟ النجاح يكمن في داخلك أنت.. وليس مرتبطاً بأرقام المعدل..
لتحصلي على أقل نسبة وحتى لو لم تدخلي أي كلية.. فماذا في ذلك؟ كل هذا لأجل درجات الدنيا؟
إن الأهم يا حلوتي هو درجات الآخرة .. وليست درجات هذه الدنيا الفانية)
كان كلامها مريحاً وكأنه دواء مسكن لنفسي الملتهبة.. لكن قبل أن تبدأ علامات السكينة والراحة بالظهور على وجهي قلبت أمي وجهها وقالت وهي تنظر للطبيبة بعتاب وضيق..
(لا داعي لهذا الكلام يا دكتورة.. فهي ذكية ومتفوقة وإن شاء الله تستطيع بقليل من الإرادة أن تحصل على أعلى النسب.. وتصبح طبيبة مثلك.. هي فقط مصابة بالعين حماها الله)
تحطمت آمالي بأن يقتنع والداي بمحدودية قدراتي.. وبأني إنسان.. ضعيف.. له قدرات محدودة مهما فعل..
ودخلت الاختبار..
لكني خرجت من المدرسة بعد يومين إلى المستشفى مباشرة..
حيث مكثت أسبوعين أعالج من انهيار عصبي حاد.. لا زالت آثاره معي حتى اليوم..
ولازلت أشتم رائحة الطباشير.. وأشعر ببلل الخجل..
ووجها أمي وأبي يلسعانني بسياط الألم..
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ
فإن مهمة الرماة
الذين يحفظون ظهور المسلمين
لم تنته بعد..!!
طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله،
طوبى للقابضين على الجمر،
كلما وهنوا قليلاً
تعزوا بصوت النبيِّ
صل الله عليه وسلم
ينادي فيهم:
" لا تبرحوا أماكنكم " ! |