03-18-2012, 05:16 AM
|
|
دوام التوبة
التوبة مقام عظيم يجب على كل مؤمن كريم أن يجعل له نصيباً فيه طالما كان في العمر بقية ولا يوجد واحد من المقربين أو من الواصلين أو من العارفين يترك مقام التوبة طرفة عين ولا اقل بل إن التوبة تلازم جميع المقامات لكن كما قلت بحسب المقام الذي أنا فيه تكون التوبة وحتى ينال الإنسان بالتوبة حب الله شرطها أن تتغير أحوال التائب من الأحوال التي كان عليها إلى الأحوال التي يحبها الله ولكن يقول إني تبت وهو على ما هو عليه لا ينفع والدكتور عبدالحليم محمود رحمة الله عليه كان له تعليق لطيف في هذا الموضوع قال فيه: بدأ الإمام القشيري تراجمه (وتراجم يعني سير الصالحين) بسيرة إبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وغيرهم ممن كانوا في أوحال الذنوب حتى يفتح الباب للمريدين ويبسط المقام للمحبين ليعلموا أن الله عزَّ وجلَّ إذا شاء يبدل السوء بحسنات وكان إبراهيم بن أدهم ابن ملك خوارزم في بلاد فارس وخرج يوماً للصيد وبينما هو يركب فرسه ويجري وراء أرنب بري لصيده إذا بالسرج ينطق ويقول: يا إبراهيم ألهذا خلقت؟ أم بهذا أمرت؟ وذلك حتى نعلم أن التوبة تأتي من الله وإذا أراد الله فلا مرد لقضاء الله فنزل من على الفرس وقد وجد حارساً يعمل عند أبيه فأعطاه بزته أي بدلة الأمراء وملابسه وسلاحه ولبس حلته وهاجر إلى أرض الشام وبدأ توبته إلى الله وله من الأحوال الخارقة والكلمات الصادقة ما تتحير فيه العقول ولا وقت لسرد ذلك الآن لكن حبذا لو اطلعتم على سير هؤلاء الرجال فقد قال أحد الحكماء: حكايات الصالحين جند من جنود الله تسوق المؤمنين إلى حضرة الله جل في علاه وقد استنبط ذلك من كتاب الله فلماذا قص الله قصص الأنبياء والمرسلين؟ [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ]
وكذلك الفضيل بن عياض هو الرجل الذي ذهب إليه هارون الرشيد في مكة ليستأذنه في زيارته فرفض ماذا كانت بداية أمره؟كان قاطع طريق وله عصابة يرأسها وفي يوم ذهبوا للسطو على منزل ووقف على سطح المنزل يوجههم فسمع قارئاً يقرأ قوله تعالى [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] فخارت قواه وجلس في مكانه وقال: "آن يا رب"وخرج تائباً وذهب إلى مكة وظل حتى استأذن الرشيد عليه ليزوره فلم يأذن له
فلماذا سرد القشيري هذه الحكايات ؟لأن التوبة هنا صاحبها بدل حاله وغير وضعه لأن شرط التوبة أولاً أن يندم على ما فعل ويشعر قلبه بالوجل والخوف من الله وأن يقلع عن الذنب فوراً لكن يتوب ثم يرجع للذنب إن هذا استهزاء بحضرة الربوبية لكن عليه أن يقلع فوراً عن الذنب ويعزم عزماً أكيداً أن لا يرجع إلى هذا الذنب مرة أخرى إذا كان هذا الذنب بينه وبين مولاه أما إذا كان هذا الذنب حقاً من حقوق العباد فلا بد أن يرده إلى صاحبه إن كان مالاً وصاحبه حي أو له ورثة فعليه أن يرده له أو لورثته وإن كان لا يعرف أين ذهب ولا يعرف له ورثة فيتصدق عنه وإن كان اغتابه في مجلس فلا بد أن يمدحه ويثني عليه في نفس المجلس حتى تُذهب الحسنات السيئات مصداقاً لقول الله [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ] فكل مجلس قدحه وذمّه فيه يسارع إلى مدحه والثناء عليه فيه ليكفر هذا الذنب الذي فعله
وكان أحد الصالحين حاكماً لولاية من ولايات العراق ورزقه الله نضرة الصالحين وأسرار المقربين وعندما وافته المنية أخذ يبكي بكاءاً شديداً فسألوه لم تبكي؟ قال: والله ما أبكي لذنب فما فعلت ذنباً قط قالوا: إذاً لم تبكي؟ قال: لأني أخذت درهماً غصباً من رجل وأنا في ولايتي فبحثت عنه سنين فلم أجده فتصدقت عنه بألوف ولكني أخــاف أن يطالبني صاحب هذا الدرهم بدرهمه يوم القيامة وهذه هي أحوال العارفين فهل تريد أن تكون من الصالحين و العارفين وأنت تأكل حقوق العباد والمساكين هنا وهناك؟ لا يجوز هذا ولكن يجب أن نمشي خلف رسول الله فإن الحبيب صلَّى الله عليه وسلَّم بذاته وقف قبل المعركة بين أهله وأحبابه وأتباعه وقال لهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِني قَدْ دَنَا مِني حُتُوفٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرَاً فَهذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِني ، أَلاَ وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضَاً فَهٰذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِني وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً هذَا مَالِي لِيَسْتَقِدْ مِني }[1] إذا كان رسول الله الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم والذي كان يقول في حديثه الآخر {اللهم إني أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْداً لَنْ تُخْلِفْنِيهِ إنَّما أنا بَشَرٌ فأيُّ المؤمِنِينَ آذيْتُهُ أوْ شَتَمْتُهُ أوْ جَلَدْتُهُ أوْ لَعَنْتُهُ فاجْعَلْهَا لَهُ صَلاَةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ }[2] ودعاؤه مستجاب ومع ذلك يطلب من إخوانه أن يتحلل وأن يحللوه وأن يسامحوه فما بالنا نحن ؟ إن الإقتداء بهديه صلَّى الله عليه وسلَّم في ذلك أوجب علينا لأن حقوق العباد شرط لمحبة رب العباد [إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ] إذاً فقوله تعالى [فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ] تفسيرها أن سيئة يرجو المرء غفرانها فعليه أن يعمل الحسنة التي بها يتم غفران الله عزَّ وجلَّ له وذلك كما قلنا فإذا اغتاب رجلا في مجلس فعليه أن يثني عليه ويمدحه في نفس المجلس ولا يكون ذلك كما يفهم البعض أن يبدل الله السيئات بحسنات دون أن يرد حقوق العباد فهذا لا يكون ولكن عليه إذا أخذ حقاً من إنسان أن يرد هذا الحق لهذا الإنسان لكي يبدل الله سيئاته بحسنات وإذا شتم عبداً يطلب منه أن يصفح عنه وأن يعفو عنه ويسامحه فعلى الإنسان عند كل ذنب يريد أن يتوب منه أن يحدث له عملا صالح يجعل الله عزَّ وجلَّ يعفو عن هذا الذنب فيبدل الله سيئاتهم حسنات لأن البعض يفهم خطأ أن الله يأتي بالصحيفة إذا كان فيها مثلا خمسمائة سيئة يبدلها بخمسمائة حسنة كيف يكون ذلك؟ لكن أنت الذي تغير [إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ]
فإذا أغضبت واحداً واشتكى لحضرة الواحد وتبت وأنبت إلى الله وحججت بيت الله لكنك لم تصلح هذا العبد ولم ترجع إليه ليسامحك كيف يبدل الله هذا الذنب بحسنة وهو مصر على حقه؟ لا بد أن تعمل له حسنة تجعله يصالحك ويسامحك والله ينظر إليك فيبدل الذنب بحسنات لأنك فعلت الحسنات التي بها يتم غفران هذا الذنب عند الله وعندما يلاحظ التوابون هذه المعاني يلاحظ الواحد منهم نفسه وحركاته وسكناته فيعقل كلماته ويقنن أفعاله وحركاته حتى لا يقول كلاماً يغضب الأنام فيتحير في هذا الأمر في الدنيا ويوم الزحام ولا يفعل فعلاً لا يستطيع رده ولا مراجعته ما الذي يجعل الصالحين يمشون على الصراط المستقيم؟ أن الرجل منهم يحاسب نفسه على الأقوال وعلى الأفعال وعلى النوايا وعلى الطوايا لأنه إذا استحدث نية سيئة فهذا ذنب ولكي يتوب إلى الله من هذا الذنب[وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ] فلا بد أن يستحدث نية طيبة لكي يغفر الله النية السيئة الأولى بالنية الطيبة وهذا هو حال الصالحين لكن هل بمجرد أن يقول تبت إلى الله ورجعت إلى الله وندمت على ما فعلت تتم التوبة؟ لا ولكنها تتم لمن يكون أساساً ملفه خالي من أي قضية أو جنحة أو جناية أو ما شابه ذلك والمؤمنون الصادقون يحاولون دائماً أن يغيروا ما بأنفسهم ولذلك إذا نظرت إلى مجاهدات الصالحين تجد فيه العجب العجاب لماذا؟لأنهم يجاهدون في مراجعة الذنوب والعيوب ويحاولون أن يفعلوا الأحكام والأفعال التي يستوجبون بها رضى علام الغيوب عزَّ وجلَّ فيحكموا على أنفسهم بهذه الأعمال لكي يستوجبوا رضا الواحد المتعال عز وجل [1] جامع الأحاديث و المراسيل وَالأَوْسط بنحوِهِ وَأَبُو يعلٰى بنَحْوِهِ عَنِ الْفضل بن عبَّاس إكماله ( لاَ يَقُولَنَّ رَجُلٌ إِني أَخْشٰى الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ الله أَلاَ وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِي وَلاَ مِنْ شَأْنِي أَلاَ وَإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا إِنْ كَانَ لَهُ أَوْ أَحْلَلَنِي فَلَقِيتُ الله وَأَنَا طَيبُ النَّفْسِ أَلاَ وَإِني لاَ أَرٰى مُغْنِيَاً عَني حَتىٰ أَقُولَ مِرَارَاً يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَرُدَّهُ ، وَلاَ يَقُلْ فُضُوحُ الدُّنْيَا ، أَلاَ وَإِنَّ فُضوحَ الدُّنْيَا أَيْسَرُ مِنْ فُضُوحِ الآْخِرَةِ
[2] مسند الإمام أحمد عن هَمّام بن منبِّه قال: هٰذا ما حدثنا به أبو هريرة يتبــــــــــــــــــــــــــــــع إن شــــــــــــــــــــــــــاء الله |