إحصاء . . (محمد حسن علوان) إحصاء "حسب الإحصائيات، فإن معدل الأعمار في السعودية تقريباً 75 سنة.. هذا يعني أن أبي يمكن أن يموت في أي لحظة، وعند تخرجي من الجامعة بعد خمس سنوات من الآن، من المحتمل جداً أن تكون أمي، وعمتاي، وجدي لأمي في عداد الموتى، سأتخرج من الجامعة يتيماً أو على وشك يتم، وبنصف عائلة!" حتى لو خرجت عائلتي عن المألوف الزمني، فلا شك إطلاقاً، ويجب أن أضع هذا في اعتباري من الآن، أن العام 2015 سيكون خالياً تماماً من العديد من الوجوه التي أصافحها يومياً في العائلة، وبالتأكيد بعد تقسيم الإرث على إخوتي الخمسة، وعلى افتراض أن ثروة أبي التقريبية لا تقل عن ستة إلى سبعة ملايين، فإن نصيبي لن يقل عن أحد هذه الملايين على الأقل. احتمال أن يخسر أبي كل أمواله قبل أن يموت ليس قوياً مع سياسة أبي التقشفية الحذرة، احتمال أن ينكسر الاقتصاد وينخفض سعر الريال بعيدٌ أيضاً لأن هذا لم يحدث في التاريخ القريب، كما أن توقعات المحللين الاقتصاديين في بعض المواقع الأمريكية على الانترنت وأسعار النفظ مطمئنة، أعتقد أنه لا يجب أن أقلق كثيراً حول فرص الوظائف بعد التخرج، وعلى هذا لا داعي لدراسة الهندسة، بل سأدرس التخصص الذي أميل له، وهو الرسم". لا شك أن التفكير عن طريق الكتابة فكرة سيئة أحياناً، لقد كلفتني هذه السطور أعلاه الكثير من الجدل العصبي، والحنق، واللوم المتدفق من فم أخي الأكبر، كان مرتاباً من هذه الماديّة الفاسدة التي أترجم بها مستقبلي، وتلك القسوة التي أصنع منها افتراضاتي وخططي البعيدة. الغريب أني لم أسمع كلمة الماديّة هذه عندما كان يحثني من قبل على دراسة الهندسة التي تؤهلني لراتب سمين فيما بعد!، ولم أسمعها أيضاً أثناء متابعتي الصامتة لنقاشات إخوتي مع أبي حول أي مشروع من مشاريعهم المشتركة. أبي الذي نجح تماماً في تجنيد إخوتي داخل شركته، كان مطمئناً إلى أني سأحذو حذوهم بلاشك، ولن يمكنني كسر القاعدة التي أغوت بنجاح خمسة إخوة قبلي. عظيمٌ هو أبي الذي سيموت بعد خمس سنوات تقريباً!، لا يمكنني إلا أن أعترف بحذقه وحدسه الصائب أغلب الأحيان، وحكمته في إدارة هذا المنزل الذكوري الكبير. أعتقد أني سأكون حزيناً جداً بعد وفاته، ولكن لا يمكنني أن أحزن طويلاً، لأن نسبة الذين تحولت أحزانهم إلى اكتئاب مرضيّ طويل المدى بعد موت أحد ذويهم ما زالت منخفضة، ومنحصرة في حالتي الترمل والثكل فقط، يبدو أن فكرة فقد الآباء والأمهات تحتل حيزاً من توقعات الأبناء دائماً، هذا سلوك يشاركني فيه أخي الأكبر ولا شك، مهما تقنّع أثناء جدالي بتلك الأقنعة الإنسانية العريقة، ونعتني بالماديّة والقسوة والعقوق العاطفي! كما أني أعتقد أن أخي الأكبر سيموت بعد ثلاثين سنة تقريباً ! لا أنكر أن أسوأ قرار في حياتي كان تخصصي في الرسم!، لقد خدعني هذا الشغف المؤقت الذي واتاني في المرحلة الثانوية، وتوهمت أني ذلك الرسام الوسيم الذي تطلّ حبيبته الفاتنة من خلف كتفيه لتتأمل وجهها المرسوم بدقة على اللوح الأبيض، ثلاث أو أربع صور تخيلية مثل هذه كانت وراء قراري باختيار مستقبلي بأكمله!، لقد فاتني أن أبحث عن إحصائيات حول عدد الذي تخصصوا في الرسم بعد شغف، وزال عنهم هذا الشغف بعد فترة. هذه غلطة كلفتني سنتين حتى هذا اليوم، ولو قررت أن أغير التخصص الآن فسيكلفني هذا، بالإضافة إلى السنتين الضائعتين، عشرون أو ثلاثون عبارة من نوع ((ألم أقل لك!))، بزوايا ونبرات ونظرات مختلفة من إخوتي الخمسة!، كم هذا مؤرق! عليّ أن أبحث عن إحصائية عن عدد الذين شعروا في منتصف التخصص أنهم لا يرغبون في إكماله، ثم اكتشفوا أنهم على خطأ بعد التخرج. أعتقد أنها ستساعدني جداً في اتخاذ القرار، فالسنتين الباقيتين للتخرج تعني أني سأحمل شهادة الرسم قبل أن يموت أبي بسنة كاملة، وعندما لا أجد وظيفة جيدة فسأجدني مضطراً للعمل في شركة أبي بالتأكيد، وسيكلفني هذا أيضاً عدداً كبيراً من عبارات (ألم نقل لك!)، ثم إن أبي، الذي بقيت له ثلاث سنوات فقط للحياة، لا يبدو معتلاً، ولا تزوره أية أعراض صحية سيئة، مما ينبئ باستثناء مبكر للاحصائية العمرية. هذا قد يعني عدة سنوات من العمل في شركته، بين إخوتي، وبشهادة الرسم، هذا مستحيل! خطة جديدة يجب أن توضع، وبدقة أكبر هذه المرة! إذا تخرجت من كلية الرسم بعد سنتين، بإمكاني تضييع سنة كاملة بحجة أني أبحث عن وظيفة، ولربما ادعي أن تلقيت بعض العروض فعلاً ولم تعجبني، بعد ذلك سأبيع سيارتي، وهذا المبلغ، بالإضافة إلى بعض مدخراتي، سيكون كافياً لأن أسافر لمدة سنتين تقريباً إلى أمريكا أو أوروبا بحجة الدراسة العليا، وبالطبع سأدّعي أن الجامعة ابتعثتني لذلك. وهناك سأكتفي بالبقاء عاطلاً دون دراسة لأني لا أستطيع توفير تكاليفها طبعاً، وبعد ذلك أعود، وأعتقد أن تزوير شهادة تقنع إخوتي في حالة أن طلبوا رؤيتها بدافع الفضول لن يكون صعباً على رسام مثلي!، أستطيع وقتها أن أماطلهم لسنة أخرى بحجة أني متعب من الدراسة والغربة، وأبحث عن عمل يليق بي، المجموع ست سنوات، ولا بد أن يموت أبي، لأنه يكون بذلك قد تجاوز معدل الأعمار بثلاث سنوات كاملة! المليون الذي سأحرزه بعد موت أبي يكفيني، بهامش استثمار معقول، لمدة عشرين سنة!، دون أن أضطر للقيام بأي عمل، أعتقد أن عشرين سنة ستمكنني من الحصول على إحصائيات كافية لاتخاذ قرار ممتاز بعد أن ينقضي المليون!، ويجب ألا أغفل نقطة هامة، بعد أن تنتهي السنوات العشرين، سيكون أخي الأكبر في الثالثة والسبعين من العمر، وبقي على موته سنتين فقط. وربما أقل من ذلك لكونه مدخناً. ولو احتسبت نصيبي من الإرث الذي سأتقاسمه مع زوجته، وابنتيه، على افتراض أنه وقتها لا يمكن أن تقل ثروته عن عدة ملايين، وأن زوجته بلغت سن اليأس، فإني سأحصل على مبلغ لا يقل عن مائتي ألف، يكفيني لأربع سنوات!، إما إخوتي الباقين فلا يمكنني وراثتهم بالطبع لأنهم أنجبوا ذكوراً. وفي ذلك اليوم، بعد ثمانية وعشرين سنة من الآن، أعتقد أنه، تبعاً لخليط من الإحصائيات الديموغرافية، والأيديولوجية، والتاريخية، أن النظام الإسلامي في الإرث سيظل قائماً حتى وقت وفاة أخي. بعد أن ينتهي المال الذي سأرثه من أخي بعد ثمان وعشرين سنة من اليوم، سأكون في الثانية والخمسين من العمر، مفلساً، ويتيماً، وبدون أخ أكبر!، وسيكون بقي على موتي ثلاث وعشرون سنة كاملة!، على افتراض أني لا أدخن، ولا أعاني من أي مرض. هذا مرعب!، ثلاثة وعشرون سنة من الشيخوخة، والفقر، والتعاسة، وعدم جدوى الإحصائيات! لا توجد أية احتمالات أخرى يمكن أن أضعها في الحسبان، وحتى لو كانت حساباتي كلها مفرطة في التفاؤل، وإنفاقي مفرط في التقشف، فهذا سيمنحني سنوات قليلة أخرى، لن تخفف مما قد يحمله لي ربع قرن من البؤس المرتب، والمنتظر! ((أعتقد أنه يحب أن أكون شجاعاً، وأختار أحد الخيارين: إما أن أبدأ في التدخين، أو أغير تخصصي إلى الهندسة!))
__________________ لماذا ستشتاقُ ؟ حتى دماؤك كانت تضخّ جنوباً ..! |