قلبي يتهادى ببهجة بجعة البحيرة، لأننا سنقضي سهرة رأس
السنة معاً في بيروت. أصدقيني القول: ما شعورك الليلة؟
- قلبي ثقيل كجثة مهرة.
ها أنا أقف على حافة القرن الحادي والعشرين، امرأة راسبة
في "مدرسة الببغاوات"،
رومانسيتها من القرن التاسع عشر وعقلها على حافة القرن
الحادي والعشرين...
أواجه أكذوبة السنة "الجديدة" بذعر.
أواجه طواحين الهواء المفرغة من الهواء بحيرة "هاملتية".
أواجه موت الأشجار والرقة والعذوبة والفروسية والشعر
والشهامة.
أواجه عفاريت البارحة والغد. العدوانات الالكترونية
والذرية، احتضار الأوكسجين، انتصار الشاشة على الغيمة،
محاصرة بشبكات "الانترنيت" وبتقنيات لم أشارك في اختراعها،
لكنني "ابتعتها" كما فعلت من قبل بالطائرة والسيارة والدبابة،
والكومبيوتر الذي قمت بتوظيفه لاحصاء أنفاس الناس وقمعهم
باتقان.
نيراني شرر بلا زيت ولا فتيل، لهبة محرقة بلا ضوء.
أقف على الأطلال كما فعلت منذ قرون، وأتلو "ديوان
الحماسة" وأترحم على أجدادي، وسجادة الأرض تتم سرقتها
من تحت أقدامي وأنا أنشد: "أمجاد يا عرب أمجاد"...
ثيابي كحذاء الطنبوري، رقم من بلاد العرب والعجم
والمغول والتتار. هوايتي "الكارا أوكي"* وطفلتي دمية الكترونية
تدعى "تاماغوتشي"*.
بطارية قلبي المزروع من صنع ألمانيا.
العدسات اللاصقة في عينيّ من صنع فرنسا.
السماعة في أذني من صنع بريطانيا.
ساقي الخشبية الاصطناعية من صنع روسيا.
لكنني ما زلت أرقص "الدبكة" و "السماح" فوق قبور أجدادي
الذين كانوا عظاماً حقاً، وأنشد "ألسنا خير من ركب
المطايا..."، وأرواحهم تلعنني وقومي على ما اقترفناه
بحقهم...
ها أنا أقف بموزاييكي الحضاري المستورد الهزلي في مقبرة
سهرة رأس السنة، أنفخ في الزمامير، وأضع على رأسي القبعات
الملوّنة وعلى وجهي الأقنعة المكسيكية، وأرطن بالفرنسية،
وأرقص على أنغام الموسيقى الاسرائيلية في المرقص
"الكوزموبوليتاني".
وسط هذا الخراب غير الجميل، وحدها روحي تناضل كنملة
عنيدة لتظل نقية وعربية... ولكن الأرواح لا تشيد مجداً ولا
تُصلح تاريخاً...
"دبكة يا شباب" ودعونا ننسى... بل أوقفوا الموسيقى
وليعمّ الصمت ودعونا نتذكر أكذوبة عربية كبيرة اسمها سنة جديدة
نرشو بها ضمائرنا منذ عصور.. ونحن نتقهقر كل عام قرناً!
***
- كم تتقنين "فن النكد" أكثر من "فن الماكياج"! لماذا لا
تغلقين فمك وتفتحين ذراعيك كما تفعل النساء اللطيفات كلهن؟
لماذا لا ننهض ونرقص كبقية المدعوين ونهتف "هابي نيويير"
و "بون آنيه" بكل اللغات في المظاهرات؟
- لأنني حين أستحضر وطني العربي في خاطري، يهطل
المطر داخل قلبي... لا أريد أن أكون مبنّجة بحبك، ومستسلمة
لخدري مثل مريض في غرفة العمليات. أريد أن أتجرّع صحوي
كما أتجرّع حبك، وأزحف صوب الحقيقة كمن يتسلق حافياً
هضبة من زجاج مكسّر... وأرى بوضوح انزلاقنا المستمر في
مستنقع الرمال المتحركة صوب العصور الحجرية للعقل!
كان جسدك رشوة،
تمثالاً إغريقياً من المرمر وطيب بحار العرب، خرافياً
كأسطورة حتى إنني ذُهلت حين جرحك أصبعك وسال منه دم
أحمر كما بقية الناس...
لكن ذلّي صار أكبر من كل الرشوات وغوايات النسيان، وأنا
أهرول تحت أحذية الغطرسة الإسرائيلية وجزمها الـ "ميد إن
اميركا" التي تسحقني، وأنا أحاول أن أنجو بقلبي لأحبك به...
وأحاول أن أسرق حقي في أحلامي لأحلم بك...
صارت دورتي الدموية حبري، قدري أن أتشرد داخل تشردي
إلى ما لا نهاية، وأن أحلم أنني أحلم داخل مرايا كوابيسي....
- دعينا نتحدث عن أحلام بلا كوابيس، هل تحلمين بجائزة
نوبل مثلاً؟
- تبدو لي جائزة نوبل ترضية ضد الشيخوخة. فجأة، يقدمون
لك الحلوى بعدما تكون قد أُصبتَ بمرض السكري. يهدونك
الشهرة بعدما تكون زهدتَ فيها ولم تعد تعني لك شيئاَ... يبدو
أننا لا نحصل على أي شيء إلا بعد أن يفقد قيمته لدينا!...
يصير لدينا ثمن كل ما سبق واشتهيناه باستثناء الشهية إليه...!
ويتحوّل الحلم إلى كابوس!
***
- هل نسيتِ أنني الرجل الوحيد "الممنوع من الصرف" في
حياتك؟ أهذا حبك لي ووفاءك؟ أتهمك بخيانتك لي مع أحزانك!
- أرجوك أن تكف عن محاكمتي. لستُ رابعة العدوية ولا
جان دارك!...
أنا امرأة جسدها حقيبة سفر، هوايتها السباحة في بحيرة
الشيطان، جرّبت "ختم الذاكرة بالشمع الأحمر" ولا تزال تحاول
أن تنفض عن جمجمتها - من الداخل - رمل الصحارى دون أن
تفكر بقص أصابع الأجداد التي وأدتها مرات.
امرأة تحاول أن تلملم الروزنامات الهاربة لتتلصص على كل
ما كان يجب أن تتعلّمه وتعرفه.
طالبة كسولة في مدرسة الحب، لكنها لم ترسب في صف
الوطن.
لستَ نابليون ولا ماركس ولا صلاح الدين الأيوبي، فدعني
وشأني أتشاجر مع ذاتي في الظلام بعيداً عن حلبة الهذيان ليلة
رأس السنة الجديدة المزعومة.
ألملم نفسي بين موت وآخر من ميتاتي.
وأسمح لطائر الفينيق الذي يسكنني بأن يتنهد على عتبة يأسه،
قبل أن يفرد جناحيه محلقاً في سماوات الضوء الشاحب بحثاً عن
منارة وجزيرة في أزمنة ترفض إيديولوجيات التبسيط...
- ولكنني أحبك أيتها المرأة ذات العقل المناكد كبغل عنيد!
- حبك مراوغ كجاموس مزدوج الولاء، مهمته أن يتلصص
على جرحي ويلتقط له الصور خلسة، ويكتب عنه التقارير
البوليسية للزمن، ويسمّي نفسه بعد ذلك عاشقاً... يثرثر عن
"البريسترويكا" العاطفية ويلعب دور السائح فوق جرحي!
- وأنت أيتها السيدة الحزينة، أما زلتِ تحبينني؟
- لا أدري. لكنني أنصت إلى تنفسك وأنت نائم وأكاد أبكي.
لا أريد أن يكف هذا الصوت عن الغناء وانا مازلت حية...
أصدقك القول: إنني أرتجف في عراء التاريخ برداً وعاراً،
أكثر مما أرتجف في عراء مخدعنا حباً.
|