هناك أحباء يتوافرون في كل زاوية مقهى ومفترق طرق، على مقاعد المسارح والمنصّات. لكن الصديق هو النادر التواجد وسط ضوضاء تلك المدينه ذات المقاهي والمسارح . هي الصدفةُ التي تسوقك لتقع عليه في مكان ما، أيّ مكان .. ربما قُرب أقذر مستنقع.
أعجبُ لأولئك الذين ألتقيهم مصادفة في زوايا المدينة و مقاهيها. أولئك الذين يكبرون في عيني كثيراً حين يغمُرهم الإقدام لجذب انتباه ذات الوجه الصامِت بطريقة ما، يبتسِمون و يمضون.. هكذا فقط. يُدهِشني الموازي لي و أنا أطلب وجبة الغداء، يقتحِم مزاجي و جوعي ليسألني لمَ أنا حزينة. أُكبِرُه أكثر؛ ذلك الذي لا يجد حرجاً في اقتحام وِحدتي و المطالبة بمرافقتي على طاولة قهوة، أو تبادُل كلمات “ساذجة” في حانة. يُبهِرني ذلك الذي يقف بجانبي و أنا أختار فيلماً أُبدّد به زمناً بطيئاً، ثم بلا أي مقدّمات يسألني رأيي عن فيلم ما، و يقرر أن نشاهده معاً. - كأننا التقينا ذات مرة؟ أو أنني رأيتُ وجهكِ من قبل! - تلك العابِسة التي ما راقَك عبوسها، و ابتسمتَ لأجلها - أنتِ! كنتُ أتساءل لمَ كنتِ حزينة - فيما كنتُ أدعو أن ألتقيك فيما بعدُ لأشكرك.. - جميعنا يُرهَق من العمل، من هذا الجوّ العجيب الذي يذيب خلايا الجلد، من الزحام… الخ - كم خليّة ذابت منكَ اليوم؟ - لمَ أنتِ هنا؟ أولئك الغرباء الذين يقلّبون حقيبة ذاكرة معطوبة دون عناء، نتناقش أحوال الطقس و الانتكاسات الاقتصادية. نقرر فيما بعد أننا هنا لنناقشنا نحن، بعيداً عن قوائم الكلام المستنبطة من قواميس أعمالنا. نتحدث عن وطنٍ، عن ذاكرة، عن حبيب، عن أغنية، عن موقفٍ، عن مستقبل، عن فقيد، عن بلدٍ زرناه. نتنبّأ بأعمارنا و نتفرّس في الوجه الذي نراه لأول مرة. نسأل عن الهوايات و آخر الكتب المقروءة. يدسّون وجوههم في الذاكرة، ثم يتركوننا بعد أن نكون قد أفرغنا ما يُثقِل كاهِلنا، و لا نعبأ إن تذكّر ذلك الغريب ما قلناه أم لا. أشكرهم أكثر حين أحتاجُ أُذُناً أخبرها كم أنا تافهة. تتفهّم الأمر، تومئ بالموافقة.. و لا تتكترث. بقلم أسماء قدح