رد: الائمة الاربعة...حياتهم وانجازاتهم.... الامام الشافعي نسبه: هو الإمام أبو عبيد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف جدّ جدّ النبي صلى الله عليه وسلم. وشافع هذا صماي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه السائب الذي أسلم يوم بدر. مولده ونشأته: ولد عالمنا في أرض فسلطين "غزة" سنة خمسين ومائة للهجرة. وهي سنة وفاة الإمام الأعظم ابي حنيفة. توفي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين فذهبت به الى مكة وقد آثرت أن تهجر أهلها الأزد في اليمن وتحمل طفلها الى مكة مخافة ان يضيع نسبه وحقه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى، وكانت هذه أول رحلة في حياة هذا الطفل التي كانت كلها رحلات. نشأ الشافعي في مكة وعاشر فيها – مع علو وشرف نسبه – عيشه اليتامى والفقراء والنشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل الناشئ يسّب على خلق قويم ومسلك كريم فعلو النسب يجعله يتجه إلى المعالي والفقر يجعله يشعر بأحاسيس الناس ودخائل مجتمعهم وهو أمر ضروري لكل من يتصدى لعمل يتعلق بالمجتمع. وقد بدت عليه علائم النبوغ والذكاء الشديدين منذ الصغر وأدخل الكتاب وقبله المعلم بدون أجر مقابل حلوله محله في تعليم الصبيان أثناء غيابه واستمرت هذه الحال حتى تعلم القرآن كله وهو ابن سبع سنين وجوّده على مقرئ مكة الكبير اسماعيل بن قسطنطين ويقال أنه ما نسي شيء حفظه أبداً. طلبه للعلم ومنزلته العلمية: لقد بوركت نبؤة النبي صلى الله عليه وسلم في الشافعي حين قال فيه: (اللهم اهد قريشاً فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً) أولع الشافعي منذ حداثة سنة بالعربية فرحل الى البادية يطلب النمو والشعر والأدب واللغة ولازم هذيلاً عشر سنوات يتعلم كلامها وفنون أدبها – وكانت أفصح العرب – فبرز ونبغ في اللغة العربية وهو غلام قال الأصمعي: "صممت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" أما في مكة فكان يتردد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد. وكان في ضيق من العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الذي يدون عليه فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدفوف ونحوها ليكتب عليها وكان يقول: "ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسر علي". ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر حين صار استاذه مسلم ابن خالد الزغبي – إمام أهل مكة ومفتيها – يقول له: أفتِ يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي". وهكذا اجتمع له في مكة النبوغ في اللغة وفي الفقه والتفسير ولكن همته في طلب العلم لم تقف به عند هذا الحد وقد جاهد في سبيله فكان كثير الترحال وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدون الرحال الى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس. وكان مالك صاحب مجلس في الحرم النبوي يطرق الخلفاء بابه ويحسبون حسابه. وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشافعي فاشتاق لرؤيته وتلهف لسماع علمه فحفظ كتابه الموطأ ورحل الى يثرب وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول الى باب مالك إلا بعد جهد ونظر إليه مالك وكانت له فراسته فقال له "يا محمد أتق الله واجتنب المعاصي فسيكون لك شأن من الشأن وفي رواية "أن الله عز وجل ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي"، ثم قال له: "إذا ما جاء الغد تجيء ويجئ من يقرأ لك". قال الشافعي: "فقلت أنا قارئ فقرأت عليه الموطأ حفظاً" والكتاب في يدي فكلما تهيب مالكة وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: يا فتى زد حتى قرأته عليه في أيام يسيره وقال: أن يك أحد يفلح فهذا الغلام. وبعد أن روى على مالك موطأه لزمه يثقفه عليه ويدارسه المسائل التي يفتى بها الإمام الجليل وتوطدت الصلة بينه وبين شيخه فكان مالك يقول: "ما أتاني قريش أفهم من هذا الفتى" وكان الشافعي يقول: "إذا ذكر العلماء فمالك النجم وما أحد أمنّ علي من مالك". ولكن يبدو أن ملازمته لمالك لم تكن بمعانة له من السفر والاختبارات الشخصية فكان يقوم بين وقت وآخر برحلات في البلاد الإسلامية كما كان يذهب إلى مكة يزور أمه ويستنصح بنضائح. وبعد مضي عشر سنوات على إفاقته في المدينة توفي مالك وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطراً فاتجهت نفسه إلى عمل من معونته فتولى عملاً بنجران من اليمن وهناك طفق يتردد على حلقات العلم ويأخذ عن كبار العلماء فيها إلى أن وقع بينه وبين وإلى اليمن أثناء عمله شيء فوشى به الوالي إلى الخليفة هارون الرشيد الذي أمر بإحضاره الى بغداد ولعل هذه المحنة التي نزلت به قد ساقها الله تعالى إليه ليصرف اهتمامه عن الولاية ونحوها ويعود للاتجاه بكليته الى العلم. وخرج الشافعي من التهمة التي نسبت إليه ليطبق علمه وشهرته الآفاق. فقد اصبح محمد بن الحسن تلميذ ابي حنيفة الذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق استاذا للشافعي تلقى عنه فقه أهل الرأي ولما كان أخذ فقه الحديث عن مالك الذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما وهو مذهبه القديم المسمّى بكتاب "الحجة" ثم قفل عائداً إلى مكة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر بعد أن مضي عامان على إقامته في بغداد وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج فكانوا يرون فيه عالماً هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل قال تعالى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله فأراني الشافعي. قال: فتناظرنا في الحديث فلم أر أفقه منه ثم تناظرنا في القرآن فلم أر أقرأ منه، ثم تناظرنا في اللغة فوجدته بيت اللغة ما رأت عيناي مثله قط". ومكث في مكة تسع سنوات كاملة وهو الذي عهدناه صاحب سفر وترحال ليصفو له الجو لاستخراج قواعد الاستنباط بعيداً عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها وألف كتاب "الرسالة" في علم أصول الفقه. ثم ارتحل ثانية إلى بغداد وقد سبقته شهرته إليها وتحدث بذكره المحدثون والفقهاء ولقب فيها بناصر الحديث وأخذ ينشر آراءه الفقهية الأصولية ويجادل على أساسها وعقد في الجامع الغربي في بغداد حلقات العلم والفقه وأمّه المتعلمون والعلماء، منهم التمحنى ومنهم المستمع ومنهم المعتد بمذهبه الساخر بهذا المتفقه الجديد على زعمه فما يكادون يجلسون إليه ويستمعون له حتى يرجعوا عن قولهم ويتركوا ما كانوا فيه ويتبعوه. وما زال الشافعي يصول ويحول ويأتي كل يوم بجديد من فهم كلام الله وفقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حمل العلماء على الإقرار بعلمه وظهر أمره بين الناس وانفكت حلقات المخالفين حتى إن أحدهم قال: "قدم الشافعي بغداد وفي الجامع الغربي عشرون حلقة لأصحاب الرأي فلما كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلا ثلاث حلق أو أربع" وفي هذه المقدمة التي دامت عامين أعلن كتبه وقد أنضمتها الدراسة والمراجعة. ونشرها بن صحابته وتكررت رحلات الشافعي بين مكة وبغداد وكانت خاتمة رحلاته: رحلته الى مصر التي كان الدافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسياسة وذلك بناء على دعوة والي مصر له. وانتهى به المطاف هناك واملى مذهبه الجديد في كتابه "المبسوط" الذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب "الأم" وأعاد النظر في آرائه وكتبه ومؤلفاته فجدد بعضها وكان الناس في مصر على مذهب الإمام مالك فقدموا الشافعي واستمعوا إليه وأفتتنوا به. وقصده كثيرون من الشام واليمن والعراق وسائر الأقطار للتفقه عليه. وهكذا توالت الشهادات بمكانه الشافعي في العلم في عصره وأجمع شيوخه وقرناؤه وتلاميذه أنه كان علماً بين العلماء لا يجاري ولئن تجاوزنا هذه الشهادات لنجدن شهادة أقوم دليلاً، هي ما تركه من آثار – من أقوال مأثورة أو فتاوى منثورة أو رسائل كتبها أو كتب أملاها ففي كل ذلك الدليل على مقدار علمه ومواهبه فقد كان أكبر من أديب وأكثر من فقه وكان مجلسه جامعاً للنظر في عدد من العلوم. قال الربيع ابن سليمان: "كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته اذا صلّى الصبح فيجيئه أهل القرآن فاذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه فاذا أرتفعت الشمس قاموا فاستوث الحلقة للمذاكرة والنظر فاذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنمو والشعر فلا يزالون الى قرب انتصاف النهار". فمن أين جاءت للشافعي كل هذه المعرفة؟ وما الذي أوصله إلى هذه المنزلة من العلم؟ مواهبه وصفاته: لقد آتى الله الشافعي حظاً من الموهب يجعله في الذروه الأولى من قادة الفكر وزعماء الآراء. فقد كان قوياً في كل قواة العقلية ممّا جعل تلميذه بشر المريسي يقول: "مع الشافعي نصف عقل أهل الدنيا" وكان حاضر البديهة عميق الفكر بعيد المدى في الفهم فكانت دراسته طلباً للكليات والنظريات العامة. - وكان قوي البيان واضح التعبير أوتي مع فصاحة لسانه وبلاغة بيانه صوتاً عميق التأثر يعبر بنيراته وقد سمّاه ابن راهوية خطيب العلماء. - وكان نافذ البصيرة في نفوس الناس، قوي الفراسة، كشيخه مالك في معرفة احوال الرجل وما تطيقه نفوسهم وكان هذا سبباً في ان التف حوله اكبر عدد من الصحاب والتلاميذ. - وكان صافي النفس من ادران الدنيا وشوائبها لذلك كان مخلصاً في طلب الحق والمعرفة يطلب العلم لله ويتجه في طلبه الى الطريق المستقيم فإذا اصطدم إخلاصه لطلب الحق انه كان يقول: "وددت ان الناس تعلموا هذا العلم لم ينسب إليّ شيء منه فأوجر عليه ولا يحمدوني" وما كان يغضب في جدال ولا يستطيل لحدة لسان في نزال لأنه يبغي الحق من جدله يقول: "ما ناظرت احداً قط على الغلبة وددت اذا ناظرت احداً ان يظهر الحق على يديه" ولقد أكسبه الإخلاص ذكاء القلب وتباعداً عن الدنايا. وكان شديد التشبث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الربيع: سمعت الشافعي يقول: "ما من أحد إلا يغيب عنه سنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب فمها ملت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي. شيوخه: تلقى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ تباعدت أماكنهم وتخالفت مناهجهم فجمع فقه أكثر المذاهب التي كانت في عصره وتلقى فقه مالك عليه وتلقى فقه الاوزاعي عن صاحبه عمر بن ابي سلمه من أهل اليمن وتلقى فقه الليث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسان ثم تلقى فقه أبي حنيفة عن محمد بن الحسن فقيه العراق وبذلك يكون قد برع في مدرسة الحديث في المدينة ومدرسة الرأي في العراق. وكان ثمة مدرة ثالثة تعنى في تفسير القرآن وهي مدرسة مكة التي إتخذها ابن عباس مقاماً له. وقد جعل الشافعي ابن عباس مثله الكامل وترسم خطاه وسار في مثل سبيله. وانساغ كل ذلك العلم الكثير في نفس الشافعي فكان منه ذلك الفريج الفقهي المحكم الذي تلاقت فيه كل النزعات منسجمه معتدله متاكفة النغم وتولدت منه تلك المعالي الكلية فقدمها للناس في بيان رائع وقول محكم. دراسته وتجاربه الخاصة: كان رضي الله عنه مع اتصاله بشيوخه في مكة والمدينة محباً للرحلة ولا شك ان الأسفار فوق ما تعطيه للفقيه من مادة وخبرة هي بطبيعتها تفتق الذهن وترهف الحسّ. وكانت رحلاته علمية يتصل فيها بالشيوخ ويدارس العلماء ويأخذ منهم ويعطيهم وقد جعلته لا يقتصر على فقهاء الجماعة الذي دخلوا في طاعة الخلفاء بل يتعدى ذلك الى دراسة آراء الشيعة وغيرهم نجد أثر ذلك في ثنائه على بعض علمائهم مثل مقاتل بن سليمان. فكان يطلب العلم أنى وجده لا يهمه الوعاء الذي حمله اليه بل يهمه ما في الوعاء. عصره: ولد الشافعي في العصر العباسي وعاش فيه وكانت الفترة التي استغرقت حياة الشافعي من ذلك العصر هي فترة استقرار الأمر لهذه الدولة وتمكين سلطانها وازدهار الحياة الإسلامية فيها. وقد امتاز هذا العصر بميزات كان لها الأثر الأكبر في إحياء العلوم ونهضة الفكر الاسلامي حتى انه يعتبر من أزهى العصور الاسلامية فكراً وعلماً. ففيه التقتت الحضارات القديمة كلها واقترحت تحت ظل الذين الجديد وهو عصر الخطب العقلي المستقل المنتج فهؤلاء المحدثون يشمرون عن ساعد الجدّ لتمييز الصحيح في الروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الفرق المختلفة كل فرقة تجرد سيف الحجة لتشقق الطريق لآرائها والشافعي يخالطها جميعاً ويناقش أصحابها ويقبس من علمائها ما يراه صالحاً وهؤلاء العلماء من فقهاء ومحدثين ينتقلون في البلاد طلباً للعلم. فيلتقي بهم الشافعي وخصوصاً في البيت الحرام الذي كان مؤتمراً علمياً. ثم هاهم أولاء فقهاء الرأي وفقهاء الحديث يلتقون في مكان واحد ويتناظرون طلباً للحقيقة فيأخذ كل مما عند الآخر ثم هذا الفقه يجمع في الكتب فيرى الفقيه آراء غيره مدونة مبسوطة فيقرؤها ويدرسها ويتقوها ويقبل ما يراه أقرب للكتاب والسنة. وهكذا جاء الشافعي في وسط هذا اللمب العلمي القوي وأخذ من تلك الثروه العلمية العظيمة وبقوه مواهبه ودراساته وحسن اتجاهاته خرج الى الناس بآرائه ومذهبه. لمحة عن عبادته وأخلاقه: كان رضي الله عنه كثير العبادة فكان يقسم الليل الى ثلاثة أقسام: ثلث للعلم، ثلث للنوم/ وثلث للعبادة. وكان يقف بين يدي ربه فيصلي ويقرأ وعيناه تفيضان بدمع غزير خشية التقصير. وقد كان رضي الله عنه يرى نفسه من شدة تواضعه من أهل المعاصي وفي ذلك يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا جميعاً في البضاعة يقول هذا وهو الذي يصفونه بأنه " لم تعرف له صوره" وقد اختص الله عالمنا بالعناية فكان له صوت عميق التأثير يخرج من قلب منير زادته العبادة المتواصلة والمحبة الشديدة نوراً وتأثيراً وسحراً. وكان مولعاً بالقرآن وصحبته فكان يختم في كل نهار وليلة ختمة وفي رمضان كان يختم كل نهار ختمة وكل ليلة ختمة وكان إذا قرأ القرآن بكى وأبكى سامعيه رؤى أحد معاصريه: "كنا اذا اردنا ان نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا الى هذا الفتى المطلب نقرأ القرآن فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى تتساقط الناس بين يديه ويكثر عجيبهم بالبكاء فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة". وكان tمستقيماً على الشرع الى أقصى الحدود. وكان كريماً ذا مرؤة وخلق رفيع شأنه شأن آل البيت سخياً يقبل على الفقراء ويعطي عطاء من لا يخاف عليه وفي هذا ترى وعن الأعاجيب ومن أقواله: "للمرؤة أربعة أركان: حسن الخلق والسخاء والتواضع والنسك" ومما يميز به شدة حيائه وخجله وحتى نقل عنه أنه كان يحمر وجهه حياء اذا سئل ما ليس عنده. محنته: اتهم الشافعيرضي الله عنه بالتشيع وحيكت له المؤمرات في قصر الخليفة هارون الرشيد حتى بعث في طلبه وسيق وهو في الرابعة والثلاثين من عمره في أقياده مع تسعة من العلويين الى الرشيد وهناك ضربت رقاب العلوية التسعة أمام الشافعي واحداً بعد آخر حتى جاء دوره وكان محمد بن الحسن القاضي عند هارون الرشيد حاضراً واستطاع الشافعي بذكائه وسرعة خاطره ان يستحيل إليه قلب الخليفة وعقله وأن يقنعه تبراءته وأسلمه الخليفة للقاضي محمد بن الحسن وكان العلم رحماً بين أهله ودافع عنه القاضي وساهم في خلاصه وقال فيه: "وله من العلم محل كبير وليس الذي رفع عليه من شأنه" وبرئت ساحة المتهم وأمر له الرشيد بعطاء قدره خمسون ألفاً أخذها الشافعي وانثالت كلها من بين يديه عطايا على باب الرشيد. مرضه ووفاته: كان رضي الله عنه كثير الأوجاع والأسقام وكان يشكوا البواسير خاصة وقد بلغت منه في أواخر أيامه مبلغاً عظيماً فكان ربما ركب فسال الدم من عقبيه وكان لا يبرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة يقطر فيه دمه. وما لقي أحد من السقم مثل ما لقي ولكن هذا لم يكن ليصرفه عن الدروس والأبحاث وليس هذا غريباً على مثله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل". ولما كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه ..... فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً ولكأس المنية شارباً وعلى الله عز وجل وارداً ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها أم إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك اعظما فما زالت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منه وتكرما وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة انتقلت روحه الطاهرة الى ربها عن أربع وخمسين سنة. وذهل الناس بوفاة الشافعي وخيبت الكابه على وجوه العلماء وهبطت أجنحة تلاميذه. وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا العظيم وغاب نجم من النجوم التي سطعت في سماء البشرية فأظاءت المشرق والمغرب قال عنه أحمد بن حنبل: كان الشافعي كالشمس للدنيا. |