القصة الأولى
توبة فوق السحاب
استقرت الطائرة على الوسادة الهوائية على ارتفاع ثلاثين ألف قدم ، وأصدر قائدها القرار بأنه يمكن للسادة الركاب أن يفكو أحزمتهم .
انطلقت الطائرة في هذا الصباح المشرق من مطار إحدى الدول العربية وعلى متنها شيخ ذو لحية يختلط البياض بسوادها ، وقد لبس ثوباً إلى أنصاف ساقيه ، ولف رأسه بعصابة أقرب ما تكون إلى العمامة ، وكان يبتسم لكل من تقع عيناه في عينيه ، ويبدو نور الإيمان واضحاً كإشراقة هذا الصباح في وجهه الصبوح ، كان الرجل معتاداً على مثل هذه الرحلة ، فهو يخرج كل عام إلى بعض البلاد يدعو إلى الله باذلاً جهده لإخراج العباد من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها .
ورحلته اليوم إلى فرنسا من هذا النوع الدعوي الذي اعتاد عليه .
عندما أنهى قائد الرحلة كلماته عادت الطمأنينة إلى جو الطائرة وبدأت الحياة والحركة تسريان في الممرات وبين المقاعد ، وبدأت المضيفات بالطواف على الركاب يقدمن الضيافة ، ويلبين الطلبات .
ووقفت أمام الشيخ إحدى المضيفات بثوبها القصير وشعرها المسبل على كتفيها ، وتبرجهها الذي لون وجهها ابتسامة تقليدية اعتادت على صناعتها خلال التدريب وسنوات الخدمة ، وقدمت له الضيافة بإنحناءة خفيفة هي من طبيعة عملها .
لكنه اعتذر عن قبول الضيافة ، فابتسمت الابتسامة ذاتها قائلة : هل من شيء محدد أستطيع تقديمه لك يا سيدي ؟.
قال : نعم ، إذا تفضلت .
قالت : بكل سرور ، إذا كان بالإمكان .
قال : نعم بالتأكيد ، ولكن بعد أن تنتهي من ضيافة كل الركاب .
بدا لها الأمر غريباً ، لكنها هزت رأسها وسارت متابعة مهمتها في تقديم الضيافة للركاب ، وتوزيع الابتسامات عليهم .
وعندما أنهت عملها ، عادت إلى الشيخ قائلة بأدب : قد فرغت ، فتفضل بطلبك .
قال : إذا سمحتِ نادي أفراد الطاقم إلي ، وتعالي معهم .
ورغم غرابة الطلب ، إلا أنها نفذت ما طلب منها ، فاجتمعوا إلى الشيخ الذي رحب بهم وتعرف على أسمائهم ، ثم سأل كلاً منهم : منذ كم وأنت تسافر على متن الطائرة ؟.
فكانت إجاباتهم متفاوتة ، لكن أقل واحد منهم يسافر منذ خمس سنوات .
قال الشيخ : جميل ، يعني أنكم تستطيعون الإجابة على سؤالي بحكم تجربتكم .
قالوا تفضل . . أسأل .
قال : ما الذي يمسك الطائرة فلا تقع على الأرض ؟.
استغرب الجميع من هذا السؤال ، ولم يتوقعوه منه ، وحاروا في الإجابة ، وقال كل منهم : في الحقيقة لم أسأل نفسي هذا السؤال في يوم من الأيام ، ولم يخطر ببالي مطلقاً .
قال الشيخ : قال تعالى : " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ " (الملك 19)
ثم تابع : يا إخوتي هذه الطائرة الثقيلة ونحن جميعاً على متنها تطير بأمر الله ، فهو الذي يمسكها برحمته ، ولو شاء لتركها فما يحملها حامل ، ولسقطت على الأرض وتحولنا جميعاً إلى فتات من اللحم يختلط بالتراب .
أطرقوا جميعاً إلى الأرض وقالوا : صدق الله العظيم ، وصدقت يا شيخ ، فتابع الشيخ قائلاً : لو تعرضت الطائرة لخطر ما وأظهر الطيار عجزه عن تلافيه ، وانبأنا بالكارثة القادمة ، فماذا نفعل ؟.
قالوا جميعاً : نلجأ إلى الله .
قال : كيف نلجأ إليه ؟.
قال بعضهم : بالاستغفار ، وقال البعض : بالدعاء ، وقال آخرون : بالصلاة .
قال الشيخ : وبأي وجه نتوجه إليه ونحن أغفلنا ذكره ، وأعرضنا عن دعائه ، وتركنا الصلاة له ونحن سالمون ، والله سبحانه ،يقول : "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) " القلم .
وأين نحن من قوله تعالى : "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ {152}" سورة البقرة
فسبحانه يقول:اذكروني في الرخاء أذكركم في الشدة
كان الجميع مطرقين بخجل من أنفسهم وتقصريهم في جنب الله ، والشيخ يتلو عليهم ما فتح الله عليه به من آياته الكريمة ، فعاهده جميعاً أن يبدؤوا بالصلاة في أول مطار ينزلون به .