بنت دوائر الماء إلى أي حد يجب أن أكون صريحة ودقيقة؟!.....إلى الحد الأقصى الذي أتحمله من ألم الذكرى.
قالت لي جفنا يوماً أن أنثى البشر أكثر احتمالاً للألم، ورغم أني لا أعلم إن كان الأمر ينطبق علي أيضاً، إلا أني سأحاول أن أهزم ألمي وأنا أحكي لكم حكايتي.......حكايتي أنا بنت دوائر الماء. أيامي الأولى كانت في الكهف المطلّ على بحيرة النجوم!!!، كم كنت جميلة وبريئة وقتها !!! كهفي الدافئ......أعرفه كما أعرف يدي، أحفظ ملمس الأحجار ورائحتها وانكسار زواياها، الصخرة المستوية على باب الكهف، كأنها جذع شجرة مقطوع، حيث تعودت أن أجلس صباحاً ومساءً، الصخرة المتدلية من سقف الكهف كأنها مخرز كبير.....لطالما قفزت لألمس رأسها المدبب وأنا أركض للداخل، الجانب الأيمن.....هناك مرقدي....هناك ذرت الريح بشيء من الرمل الأحمر أفترشته فوق الصخور الصلدة. الجانب الأيسر حيث تلقي شمس الأصيل بأشعتها الحمراء كان المكان المفضل لعصافيري الجميلة، فيها نسجت لي رداء الشمس......أكثر من ثلاثين عاماً قضتها في نسج الرداء، أذكر أني غضبت من مناكفتها لبعضها البعض، حينها لم أكن أعلم أن ذلك كان غزلاً. الطريق المنحدر من الكهف للبحيرة، هو أول شيء وطئته قدمي من هذه الأرض الواسعة، كانت خطوات قليلة لكنها كانت بداية لرحلة طويلة جداً. الآن عندما أتذكر شعوري ذلك اليوم وأنا أخطو أولى خطواتي خارج البحيرة أشعر بالحزن لضياع البراءة التي كنت أحملها، خرجت بقلب طفلة وعقل طفلة في جسم امرأة. كانت ليلة صافية مقمرة، سحرني جمال السماء......تخيلت ليلتها أني سألمس البدر بيدي لو صعدت على كثيب الرمل، وأني سأقطف نجمتين أو ثلاث وأنظر لتلألئهما بين يدي. مشيت في اتجاه شاطئ البحيرة، كان الماء ينحسر عن جسمي شيئاً فشيئاً، أحسست بالتصاق شعري المبتل بظهري، لمسته بيدي وتعجبت من التصاقه ببعضه بعد أن كان سائحاً، عدت خطوات للوراء لينغمس جسمي أكثر في الماء فعاد شعري كما كان. أعجبت بنفحات الهواء الباردة، لكنها سرعان ما أجبرتني على العودة لغمس كل جسمي في المياه الدافئة ، سكنت في الماء أستمتع بشعور الدفء، وسكنت المياه من حولي. انعكس لي بدر آخر تحت الماء......حركت يدي نحوه فاضطرب سطح الماء وتموج، واختفى البدر.....وأعدت الكرة مرة أخرى.....تلك كانت أول لعبة ألعبها. رفعت وجهي للقمر، أعجبني نوره......أطلت النظر له، أحسست أن خيوطه تداعب عيني وأنفي ووجنتيّ، كنت أغمض عيني وأفتحهما بليونة هانئة. كان كل شيء يغريني بالهدوء، أغمضت عيني في بحر السكينة، تحت الماء كنت أحرك يدي في حركة متموجة، شعوري بالتفاف الماء الدافئ حولها كان لا يقاوم، لم يكن لدي أي احساس بالوقت، ولو استمر الأمر لقضيت دهراً مغمضة العينين وعلى شفاهي بسمة حالمة. لكن حدث شيء ما......شيء صغير جداً، لكنه كان إيذاناً لي بطبيعة الحياة على هذه الأرض بأنها وطن للتغير وليس للثبات. سمعت صوتاً رقيقاً سرى مع هبات النسيم التي تحرك أهداب القمر على وجهي....فتحت عيني لأنظر.....لم أجد شيئاً.....نظرت عن يميني وشمالي، استدرت للوراء، أيضاً لم أجد شيئاً، لكن الصوت عاد وبشكل أوضح، ثم أصبح يتردد على فترات متساوية.....صرت أتوقع متى سيصدر....ذلك كان أول احساس لي بالوقت. ثم حدث تغير آخر كان مذهلاً لي، بدأ النور بالانتشار، وصارت الأشياء أوضح بكثير، سحرني منظر الرمل المتموج حول البحيرة، ثم برزت لي حوافها المعشِبة، كأنها طوق أخضر مطرز بالزهور الصفراء والحمراء ، ثم انتبهت لشيء آخر .....جسمي، كنت أقلب يدي معجبة بمنظر جلدي، أطلت العبث بشعري المنساب......كنت أجمعه وأفرقه بين أصابعي في الماء....أحببت نعومته وانسيابه. أفزعني ذلك الصوت الذي كان يبدو بعيداً أول سماعي له، بدا فجأة وكأنه في أذني، من وقع المفاجأة ارتددت للوراء، رفعت بصري فإذا به أمام وجهي مباشرة.....ضئيل يرفرف بجناحين سريعين، رأسه ثابت وله منقار طويل، رأسه أحمر متوهج، بطنه به مسحة من اللون الأصفر، وفجأة أخذ يحرك رأسه في حركة سريعة مبتهجة.....ثم أخذ يدور حول رأسي بسرعة عجزت معها عيناي عن ملاحقته...... ارتفع عالياً وأخذ يصيح في كل الإتجاهات -تعالوا انظروا.....لقد ولدت بنت دوائر الماء...تعالوا... تعالوا.....تعالوا..... لقصتي بقية |