عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 06-19-2012, 11:48 PM
 
عانقت أديم الردى


عانقت أديم الردى








من فرط اهتمامي بمهجتي ، والسهر على راحتها ،
وتوفير معظم طلباتها،
ألفت الاتكال والكسل ، وركنت إلى عيش الرفاه والدلال .
فشبت عن طوق العوائد ، وأضحت بارعة في التسديد واقتناص الطرائد .
لما أخذت أشعرها ببعض واجباتها ،
ضاقت بالعيش معي . وتاقت لتقيم في فضاء طليق ،
لا تسيجه جدران ، ولا تظله سقوف . ولا تقيد الحياة فيه ضوابط ولا قواعد .
فتوقعت العثور على السعادة بين أحضان الانبساط .
وعلى اليمن في مدى القدرة على قطف ثمرة الانفصال .
والحرية كامنة في رفع الحرج ونزع الكلفة .
تود أن تغدو وتروح بلا مراعاة ، ولا اعتبار ، ولا وقوف عند ما رسم الكبار .
اغتنمت أول غفوة أخذتني فيها سنة إلى هدوء استرجاع الأنفاس ، استعدادا لاستئناف السعي ، فهرولت ، ونطت سابحة في فراغ مدلهم .
تشدو ترانيم الفرحة ، ترفرف بأجنحة الفراشة المبهورة بضوء المصباح .
تملأ الفجاج الخالية بذبذبة الصفير .ترقص في مناسبات لا متناهية .
تتعقب أسراب الخفافيش المفزوعة ، النائمة في حضن مقلها .

تقطع المسافات الخيالية في لمح البصر .
تفقدتها . أجهشت بالندم . تتبعت أثرها . بعثت في أثرها شرارات مقلتي .
إلى أن وجدتها تواسي غصنا يتيما مصلوبا ، تدلى رأسه واندلقت اطرافه ، فغطت وجه صخر سقيم ، مقيم على حافة المنحدر السحيق ، ترتجف وريقاته تجاوبا مع هبوب ريح لافح ، فبدا المصلوب كمن يبعث إشارة المودع المحتضر .
صك سمعها غرغرة الأنين .فانتقلت وقصدت أهذاب خيوط مرجانية متلألئة ، تلحفت برداء الأشعة المتسللة عبر الشقوق ، مدت هياكلها جسورا تمر عبرها سلسلة قطرات ماء زلال منعش .
يبدو أن مهجتي تاهت في نشوة بين نتوءات صخورالمنحدر ومنعرجاته وكهوفه .
شروق يومها تنكر للمغيب . فأصبح نهارها سرمديا ،
وليلها غارت نجومه فتوغل في بيدائه .

ترى الهوة سحيقة ، وتجد الفضاء شاسعا .
لمحت ومض لهفتي يجوب أفقها ، فتنكرت له ، ولم تأبه به ، ولا أعارته أي اهتمام .
لا ترغب في الالتفات إلى الخلف .
بهرتها ألوان الطيف ، فذابت وسط ركام السحب .
ملأ صدى صوتها المكان ، مرددا :
أتوق إلى الإبحار بعيدا ، لترميم أنامل الشعاع ، وإعادة ترتيب خيوط نسيج الهلال .
فأجبت قائلا :
لا مناص من رشف الألم وتجرعه ، وازدراء مغصه .
لم تعد الأمواج بعدها رحيمة بقاربي المرتجف. .
غرق الاسطرلاب ، تعطلت البوصلة ، عبثت الرياح بأضلع الشراع ، مزقت السنون أرديته . ووارى قصف الرعد جثث ذكرياتنا ، ولم يبق سوى الترنم بعذوبة رجع صوتها ، كهدير .
انتابت أطرافي رعشة الملسوع بقر السموم ، تيقنت من حصول أمر جلل ، فهمست أنا في أذني :
قررت أن ألحق بها ، لا عيش لي بدونها .
وضعت كفي فوق صدغي ، أغمضت عيني ، أغلقت منافذ حدسي ، وأصخت للنداء بسمع صاخب .
استلقيت بقفزة خلفية من شاهق وسط أمواج الظلام الدامس .
ملأ الإشفاق جوانحي ، أخذت طريقي عبر سفوح المنحدر المترامي في الأفق ، الممتد على مساحة مد البصر .
السرعة جنونية فاقت كل تقدير ، توقفت معها دوالب التفكير ، وتعطلت أدوات التوجيه والتحكم . حتى عانقت أديم الردى ، ووقعت بعنف على حافة أكمة صلدة ، فتناثرت أطرافي ، وانتشرت شظاياي في الأرجاء .
انكشف الحجاب وعن اصطلامي ، فشاهدت في المكان أكداسا لأذرع ممزقة تنزف دما فائرا ، ولأرجل حافية مبتورة الأنامل ، وأسنان حادة شرهة متآكلة ، وبقايا آذان متسترة تسترق السمع في حذر ، وبقايا ألسن تئن بصوت خافت ، تستغيث وتلح .. ولا مجيب ...