مفهوم ثقافة التطوع وإشكاليته قد تكون هذه هي المرة الأولى التييطرح فيها مفهوم "ثقافة التطوع"، إذ لا نكاد نجده مستعملاً في الخطاب المتداول فيهذا المجال، ولذلك فإنه من المفيد تحديد المقصود به وهو "منظومة القيم والمبادئوالأخلاقيات والمعايير والرموز والممارسات التي تحض على المبادرة بعمل الخير الذييتعدى نفعه إلى الغير؛ إما بدرء مفسدة أو بجلب منفعة، تطوعاً من غير إلزام، ودونإكراه". إن مفهوم "ثقافة التطوع" بهذا المعنىيقع في منظومة الفكر المادي العلماني على طرف نقيض لمفهوم "الواجب" أو "الإلزام"؛ولذلك نجدهم يفرقون بين "العمل التطوعي" و"العمل غير التطوعي"؛ ومن ثم بين القطاعالخيري (أو اللاربحي)، وقطاع الأعمال (أو الربحي)، وبين المنظمات الحكوميةوالمنظمات غير الحكومية أو الأهلية. والأمر جد مختلف في منظومة الفكر الإيمانيالإسلامي؛ إذ يتصل التطوع بالفرض، كما تتصل السنة بالواجب اتصالاً وثيقاً، يصلأحياناً إلى حد انتقال العمل الواحد من موقع "التطوع" إلى موقع الفريضة الملزمة،وذلك في الحالات التي عبر عنها الفقهاء بمفهوم "فروض الكفاية"؛ وهي تلك الأعمالالتي يتعين القيام بها لمصلحة المجتمع أو الأمة كلها، ويناط ذلك بفرد أو بجماعةمنها أو فئة معينة تكون مؤهلة لهذا العمل على سبيل التطوع، فإن لم ينهض به أحد صارالعمل المطلوب فرضاً ملزماً، ويأثم الجميع ما لم يقم هذا الفرد أو تلك الفئة أوالجماعة - أو غيرها - بأدائه على الوجه الذي يكفي حاجة المجتمع. وكلما كان الفرد أو الجماعة أو الفئةأكثر قدرة على القيام بأداء فرض الكفاية على سبيل التطوع وتقاعس عن ذلك، كان نصيبهمن الإثم أكبر من غير القادر أو الأقل قدرة منه. ولم يحظ العمل التطوعي في أي ثقافةأجنبية بمثل المكانة التي حظي بها في الثقافة الإسلامية، ومع ذلك فإن ثقافة التطوعفي المجتمع العربي المعاصر تتسم بدرجة متدنية من الفاعلية في معظم البلدان منالمحيط إلى الخليج، وتعاني من إشكاليات أربع كل واحدة أعقد من أختها، وهي إشكالياتالتسييس، واختلال الأولويات، وجمود الخطاب الفكري وتقليديته في ميدان التطوع،وازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان. وما يلفت النظر هنا هو أن التدني فيفاعلية التطوع في معظم المجتمعات العربية يأتي في وقت هي أشد ما تكون فيه حاجة إلىتنشيط فعاليات العمل الأهلي كافة، وفي القلب منها فعاليات العمل التطوعي؛ وذلكلأسباب تعود إلى طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها من جهة، ونظراًلصعود موجة الاهتمام العالمي لما يسمى القطاع الثالث أو اللاربحي من جهة أخرى، معما يفرضه هذا الصعود من ضرورة التفتيش عما تملكه في مخزونها الثقافي والقيمي منمحفزات ودوافع لتنشيط العمل التطوعي وتطويره. يتحدث كثير من الباحثين والعلماء عنظاهرة "اللاتطوعية" في المجتمع العربي والإسلامي بصفة عامة، هذا بالرغم من أن ثقافةالتطوع في مجتمعاتنا ترتكز نظرياً علي نواة صلبة من عقيدة الإيمان بالله واليومالآخر وهي التي دفعت المجتمع الإسلامي على مر الزمن أفراداً وجماعات إلى المبادرةبفعل الخير، والسعي طواعية لتقديم العون للآخرين ابتغاء وجه الله تعالى. وقد ارتبطتبهذه النواة الصلبة للتطوع منظومة معرفية واسعة المدى من الأعمال التطوعية التيتبدأ بأبسط الأمور مثل "الابتسامة" في وجه الآخر، و"إماطة الأذى عن الطريق"، وتصلإلى التضحية بالنفس في سبيل الله. وتشتمل هذه المنظومة أيضاً على مفاهيم ومبادئوأخلاقيات تعلي من شأن عمل الخير والبر والإحسان وإيثار الآخرين على النفس،والاحتساب والجهاد بالمال والنفس وبالكلمة والرأي الذي ينتصر للحق. وبعض هذهالمفاهيم تحول إلى مؤسسات كان لها دور كبير في حياة المجتمع الإسلامي، ومن ذلكمفهوم الصدقة الجارية الذي نشأت عنه مؤسسة الوقف بتراثها العريق. والسؤال هو: لماذا هذا "التدني" فيفاعلية التطوع وفي جدواه الاجتماعية في عالمنا العربي؟ لا شك أن هناك أسباباً كثيرةيمكن ردها إلى أن "الثقافة السائدة" في هذا المجال تعاني بدورها من الإشكالياتالأربع السابق ذكرها، وقد نبتت تلك الإشكالياتبجملتها في مناخ الحكم الشمولي التسلطي الذي عانت منه معظم المجتمعات العربية علىمدى نصف القرن الأخير، حيث تشكل هذا المناخ في إطار فلسفة الرأي الواحد، والأمر منأعلى هرم السلطة إلى أدناه، والامتثال من قاعدة المجتمع إلى حد الإذعان التام، وهوما يتناقض مع فلسفة التطوع القائمة على المبادرة والاختيار الحر.
__________________ راقب أفكارك لأنها ستصبح أفعال راقب أفعالك لأنها ستصبح عادات راقب عاداتك لأنها ستصبح طباع راقب طباعك لأنها ستحدد مصيرك للتواصل عبر الاميل او الماسنجر اسف عل التاخير في الرد عليكم |