قبل سنة سافرت الى سوريا وبالتحديد عاصمتها دمشق .. كنت اتجول في سوق الحميدية .. أتأمل الناس وهم يتوافدون من أمامي ومن خلفي .. وعن يميني وعن شمالي، واستمع الى الباعة وهم يصيحون ببعض الجمل .. لدعوة الناس الى ابتياع حاجاتهم من عندهم، كان هذا المشهد من أروع المشاهد التي قد تمر عليّ .. قطع هذه اللحظة منبه صدر عن بطني يقول لي: يا هنري، انت جائع.
التفت حولي لعلي اجد شيئا يؤكل .. لمحت محلا يبيع الفواكه .. سعدت لهذا فأنا احبها، وقفت امامها افكر في النوع الذي سأختاره، تفاح وأناناس .. عنب وخوخ .. توت وفراولة وكرز .. وغيرها وغيرها، كلها لذيذة الطعم، احترت في أمري .. لكن، لم تطل هذه الحيرة سوى بضع ثوان .. فقد لفت نظري عدة صناديق .. فيها حبات بحجم عقلة الاصبع .. ولونها بني أسمر، أثارت فضولي بشدة .. فأنا لم ارَ مثلها في حياتي، سألت البائع وانا أشير إليها: عفوا، ما هذا؟؟
اجابني بابتسامة: هذا تمر.
قلت: هل طعمه جيد؟؟
أجاب: بالتأكيد، انه لذيذ جدا، وكل الناس هنا يحبونه.
قلت: اذا اعطني القليل منه.
قال: في الحال.
وضع بضع حبات في كيس صغير .. ثم ناولني إياه، اعطيته ثمن التمر وشكرته، لم أتحرك خطوة واحدة من مكاني .. بل أدخلت يدي في الكيس وأخرجت تمرة لأتناولها .. كان طعمها لذيذا جدا ومميزا .. لم أتذوق مثله في حياتي، لاحظت أن البائع ينظر إليّ باستغراب شديد .. سألته: ماذا هناك؟؟
اجاب: يا اخي، ألست صائما؟! ألا تخشى الله؟!
أثار كلامه استغرابي ودهشتي .. قلت: صائم؟؟!
أعاد البائع صياغة سؤاله وقال: أأنت مسلم؟
قلت: لا، لا لست مسلما، انا مسيحي.
البائع: آه.
تابعت سيري وأنا أتناول التمر .. كان الناس ينظرون إليّ بتعجب .. فسرت نظراتهم على أنهم مثل ذاك البائع .. لم أعر للأمر أي اهتمام، بعد ساعة تقريبا .. انهكني التعب .. فتوقفت واستندت على جدار أحد المباني لأرتاح قليلا، التفت إلى رجل كان واقفا على حافة الطريق وكأنه ينتظر شيئا .. بعدها بدقيقتين تقريبا .. اقبل إليه رجل آخر .. تصافحا مبتسمين .. ثم بدأ احدهما الحديث قائلا: رمضان مبارك.
رد عليه الآخر: علينا وعليكم إن شاء الله.
ثم سارا مبتعدين وهما يتحدثان، قلت في نفسي: رمضان؟؟ ما هو رمضان؟؟ ولمَ هو مبارك؟؟
وقع نظري على رجلين آخرين .. أحدهما ينشد بصوت جميل .. والآخر أمامه طبل يدق عليه، وحولهما أطفال يستمعون إليهما وهم فرحون .. فاستمعت إلى الانشودة انا ايضا، التقطت كلمتين تكررتا مرات عدة .. ألا وهما: "رمضان" و "الصيام" .. قلت في نفسي باستغراب: ما هو رمضان؟؟! وما هو الصيام؟؟! الجميع هنا يتحدثون عنهما وأنا لا اعرفهما!!
اعتدلت في وقفتي ومشيت في طريقي لعلي أجد جوابا لتساؤلاتي، مررت من أمام رجل عجوز .. كان جالسا على كرسي ويقرأ كتابا بصوت منخفض .. تمكنت من سماعه:
شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...
رمضان؟؟؟ هنا طفح بي الكيل .. قلت للرجل: عفوا، هل لي ان اسألك؟
اقفل الرجل الكتاب وقال: تفضل، اسأل ما شئت.
جلست على ركبتي مقابلا له وسألت بلهفة: ما هو رمضان؟؟!
أجاب بابتسامة حالمة: رمضان، ثلاثون يوما تقريبا، تكثر فيها العبادات، رمضان، شهر الإيمان، شهر الخير، شهر الجود والعطاء، شهر الطاعات، شهر المغفرة والعتق من النيران، وهذا اليوم، هو الأول من رمضان.
سألت بشغف: وما الصيام؟؟!
أجاب بنفس الابتسامة: الصيام، عبادة نقوم بها نحن المسلمون، فقط في رمضان، وهو الامتناع عن الطعام والشراب منذ طلوع الفجر، حتى مغيب الشمس، يجعلنا نتفكر في حياة الفقراء والمحتاجين الذين لا يجدون ما يأكلونه في كل يوم، ولا رداء يلبسونه في كل يوم، مما يجعلنا نحمد الله على نعمه.
قلت: ارجوك! حدثني بالمزيد!
قال لي الرجل أشياء كثيرة عن رمضان وعن الإسلام .. عندما انتهى .. احسست بكلامه يفتح قلبي بلا استئذان ويدخل إليه مباشرة .. شعرت بشعور غريب .. شعور لم اجربه في حياتي قط .. سرى في جسدي تيار كهربائي خفيف .. حرك لساني لأقول: اشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أن محمدا رسول الله.
راحة عميقة تغلغلت في أعماقي .. راحة عميقة غمرت وجداني .. حينما قلت هذه الكلمات، ابتسم الرجل بسعادة .. وأمطرني بالتهاني والتبريكات...
وهذا ما حدث معي يومها، بعدها بفترة قصيرة .. غيرت اسمي من هنري إلى محمد .. وقررت الاستقرار في دمشق .. المدينة التي اسلمت فيها .. كنت اذهب الى ذلك الرجل الطيب في كل يوم .. لأتعلم منه المزيد عن الإسلام، لم أعد رحالا، لذا اشتغلت في الحدادة...
وكما قلت في البداية .. انا سعيد جدا .. فاليوم يصادف مناسبتين مهمتين بالنسبة لي .. الذكرى الأولى لدخولي الاسلام .. والأول من رمضان .. اليوم الذي انتظره الكثيرون بفارغ الصبر طوال هذا العام .. وسينتظرونه بفارغ الصبر طوال الأعوام القادمة.
النهاية
ارجو ان تحوز هذه القصة المتواضعة على رضاكم واعجابكم
سلامي واحترامي