مازلتُ، منذ الصِّبا، أذكرُ تلكَ القصةَ عن الولدِ و أبِيه و حمارِهما مع النَّاسِ : رَكبا ، نَزلا ، رَكبَ أحدهُما ونزل الآخرُ و تداولا ذلك و لم يرضَ النَّاسُ .. مازلتُ أذكرُ دموعَ جارتي عندما اتهمتها امرأةٌ في شَرفِها .. مازلتُ أذكرُ قصصًا أخرى عن الذئابِ ..
نَضَوْتُ عَني أثوابَ الذِّكرى و خَرجتُ إلى النَّاس عاريًا إلا من لِساني .. غريبةٌ نفسي بينَهم .. مرَّ بي رَجُلان سألني أحدهما عن الساعةِ أجبتُه :" الخمسة و سبعة" عَاد إلى حديثِه مع مُرافِقه دون أن يُعنَى بِشُكري .. فشكرتُ نفسي و مضيتُ ..
لماذا نطلُبُ مِن الآخرين ما نستطيعُ تَحقيقَه بِأنفُسِنا ؟ اِنعَطفتُ نحو المقهى التي اتخذتُها مجلسًا ، كانت بائسةً و قذرةً و لذلكَ أعجبتني فلم تَكُن لِتجتذبَ كثيرًا من الذِّئابِ .. طلبتُ قَهوتي المعتادةَ و كثيرًا من السُّكرِ .. لم أكُن قادرًا على تحمُّل المَرارةِ حتى في ما أشربُه .. مرَّ أمامَ المقهى صديقٌ فاستخفيتُ منه بأن تظاهرتُ بالتمعنِ في الفنجانِ كما لو وَقَع فيه شَيءٌ ..لكنَّه لَمحني ، فسحبَ كرسيًّا و جلَسَ إلى جواري و انطَلَقَ في حديثٍ هراءٍ عن صِراعِه مع رئيسِهِ في الإدارةِ و قد كان يمنَعُه مِنَ التَهاوُنِ في العملِ ..كانت كلماتُه ثقيلةً في مسمَعي .. أتأمَّلُه باستغراب و هو يتحدثُ بحماسٍ ظَهَرَ في تناثُرِ البُصاق من فَمه .. كيف يستطيعُ رجلٌ أن يفتخرَ بأنَّه قال كلامًا بذيئًا لمن هو أكبر منه سنًّا ؟..
لم يكن بإمكاني أن أحتملَ هذهِ الوضاعةَ فاعتذرتُ بموعدٍ وَهمِيٍّ و تركتُ له قهوتي الحُلوةَ لعلَّها تغسلُ لسانَه ..
خرجتُ لا أَدري إلى أين .. سِرتُ في طريقٍ اختارَتْهَا قَدمَاي .. كان أمامي شابٌ يُلاحقُ فتاةً ، لم أهتم للأمرِ فما أكثرَ ما رأيتُ ذلكَ .. مَرَرْتُ حِذوهما مشغولا بما أنا فيه و إن اِنتَبَهتُ إلى ملابسِ الفتاةِ شديدةِ الإثارةِ فَعَوى بداخلي ذئبٌ، و لَكن فَاجأنِي التفاتُ وجهِها المحتقنِ إلَيَّ و ارتفاعُ صوتِها مُتوسِّلا :" بْرَبِّي خويَا .. كَلُّمو .. راهو يْقَلَّقْ فِيا ".. كدتُ أن أقول لها : أنتِ المسؤولةُ عن هذا ، لكني تراجعتُ فلم يَكُن الوقتُ مُناسِبًا للمَواعظِ ، تحرَّكَت بداخلي بقَايَا بَدَاوَةٍ.. التفتُّ إلى الشَّابِ و خاطبتهُ بصوتٍ هادئٍ فلم أَكُن مستَعدًا لخوضِ معركةٍ مع قِطٍ قد يستَأْسِدُ من أجل قِطَّتِهِ ، كذلك لم يكن يعنيني أن أظهرَ بطلا أمام الفتاةِ .. طلبت منه و أنا أنظرُ في عَينَيهِ أن يذهبَ لشأنه .. لكن حدثَ ما توقعتُه : قال بصوتٍ مبحوحٍ : "و إنت آش مدخلك ؟".. و اشتَبكَت أيادينا و لاحَظتُ من خَلْفِهِ انصرافَ الفتاةِ مسرعةً ..
..عبثًا بعدها حاولتُ إقناعَ ضابطِ الشرطةِ أن الشَّهامةَ كانت دافعَ تدخُّلي و أنَّ خُصومَتي مع الشابِ لم تَكن مُنَافسةً له على الفتاةِ مثلما ذكر هو في المحضرِ .. قال الضابطُ كلامًا كثيرًا عن الفسادِ و أمثالِنا و كَثرَتِنَا و متى ترتاحُ البلادُ منَّا ..
ها أنا في غُرفَةِ الإيقافِ .. أتجنبُ بصعوبةٍ ذئبًا شرسًا يفرضُ هيمَنَتَهُ على كُلِّ المَوقوفينَ .. لَديَّ مُتَّسَعٌ كبيرٌ من الوقتِ لأن أتذكرَ قصصًا أُخرى أَعرفُها عن الذِّئابِ ..
faycalmed@yahoo.fr