السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. طاب يومكم بكل خير وأهلا بكل رواد قسم القصص وزواره في صفحاتي المتواضعة ..
الآن .و.بعد تلك المقدمة الطويلة التي طرحتها لكم في البداية ..جاء دوري لألقي( إضاءة خاصة )على بعض أشكال الفن الروائي( التي سنسرقها الليلة) بأسلوب عملي ملموس بحت يتضمن المعنى الجوهري بصورة مباشرة لا يعتليها غبار ..
لهذا جعلت الطبق الرئيسي لهذا الموضوع هو( مقارنة) !!مقارنة بين كاتبين عالمين مشهورين !
تتضمن كتابتهما أشكالا مختلفة للفن الروائي وصوره !
لكن الأهم من ذلك أن لا تفزعوا عندما أفصح عن اسميْ هاذين الكاتبين المتناقضين بشتى المقاييس ! فكل واحد منهما يشكل بعدا متناقضا لفنه عن الآخر ..
وليس غرضي من اختيارهما هو أن أعلمكم بمدى تناقض أذواقي ..وإنما لغرض آخر ستشفونه بأنفسكم
دعوني أبدأ من دون إطالة بالاسم الأول الذي سيكون ضحية لعميلة سطونا الأولى ..
اسم لا يخفى عن الأعين العاشقة للمجال البوليسي من غيرها أجاثا كريستي ؟!
سيتساءل البعض لماذا دائما أصر وأبقي على أجاثا كريستي كلما أشرنا إلى المجال البوليسي مع أن هناك كتاب خارقين غيرها في هذا المجال !
هذا هو الذي سأتحدث عنه هنا ...لماذا أجاثا كريستي تشكل بالنسبة لي (فنا) ليس كمثله فن !!
أو بسؤال أحرى ..ما هي أشكال وأبعاد الفن الذي تستخدمه أجاثا في روايتها لتجعلني مهووسة بها ؟
ذلك سبب كافي ليجعلني أضعها تحت المجهر لأحلل تلك المكونات ..
ها هو ذا ...إنه يظهر أمامي بصورة واضحة تحت المجهر إنها فنها الأساسي التي تعتمده والذي يجعلها تعتلي القمة !!
إن أعظم فن تستخدمه أجاثا في كتاباتها بلا شك هو (اختلاق الحبكات والألغاز ) بشتى أشكالها وأنواعها وليس فقط في المجال الإجرامي ،فهي يمكن أن تصنع لغزا من حبة بطاطا !! !!
بمعنى أنها لا تتعلق فقط بالنمط البوليسي وإنما تتعدى تلك الحبكات في شتى المجالات !
وكيف تجعلها مؤثرة ومقنعة وقوية وواقعية !
فهي لا تجعل من ذلك الذكاء الذي يغلف روايتها أمرا مستعصيا ومستحيلا !
وإنما تجعله يبدو (واقعيا كل الواقعية )
عفوي... طبيعي الحدوث !!
وهذا ما يصنع (ذلك التأثير الفتاك على القارئ ) عندما يتفاعل مع الأحداث التي تختلقها ويؤسر بها تماما! ..
أعطيكم مثالا صغيرا على أحد الحيل التي أعجبتني بشدة في أحد روايتها
لتعرفوا ماذا أقصد بالضبط بكيفية تحويلها (الذكاء الخارق والحيل العبقرية ) إلى (واقعة عادية و طبيعية الحدوث !) في ظل الظروف التي تضعها لها
كان ذلك في رواية (جريمة في بغداد) عندما وجدت البطلة نفسها محبوسة في أحد المنازل القديمة المبنية من (الطين) تنتظر مصيرا حتميا يهدد حياتها !!
كيف تتوقعين أن هذه البطلة هربت ؟
هل صنعت لنفسها من لحاف السرير البالي سلما معلقا على النافذة وتشقلبت في الهواء حتى وصلت إلى الأرضية؟أم أنها نادت الحراس الذين يحرسونها بالخارج لتضربه على رأسه بالمزهرية فيقفد وعيه وتلوذ بالفرار ؟
خطأ !!
كل ما فيه الأمر" أن البطلة كانت تتناول طعامها الذي جلبوه لها فاحتست بعض الماء (فمالت الطاولة المترنحة (بطبيعة المكان) عندما وضعت عليه دورق الماء مما جعل الماء يجري على الأرضية لتتشكل بقعة صغيرة من الطين السائل ...فخطرت الفكرة لعقل البطلة ..فخلعت حذاءها وسحبت منه النعل الجلدي الذي كان صلبا لأنها لم تجد أداة أنسب منه ونخزت خلال ثقب الباب فسقط المفتاح على الأرضية (الطينية ) واستخدمت البطلة الملعقة الكبيرة الموجودة في طبقها مع مساعدة أصابعها في جرف الطين السائل تحت الباب ..
ثم حررت المشبك الذي وجدته في (قميصها ) وهيأته على شكل خطاف وثبتته في (خبز العربي الموجود) لتمرره من خلال الحفرة التي تحت الباب حتى تصل إلى المفتاح ...انتظرت ظلام الليل ..وعندما خلد الحارس للنوم في الغرفة المجاورة وضعت (عباءة قديمة ممزقة على أعلى رأسها وخرجت وأقفلت الباب من الخارج لتلتمس طريق هروبها )
هل عرفتم ما أعنيه أن جعلت الأمر يبدو طبيعيا مع أنها حيلة غاية في الذكاء والخيال؟
(الإشارة إلى الطبيعي )هو استخدام البطلة للأشياء التي يكون وجودها في المكان الذي تحبس به(طبيعيا) ..كوسيلة للهروب ..
نعل الحذاء الداخلي !! دبوس القميص !! ملعقة الطعام ! خبز عربي (بما أنها في قرية عربية !!)
والأمر الذي يجعله واقعيا أن البطلة لم تستلهم هذه الفكرة من العدم أو فقط أو صحيح دعوني أجرب وأٍسكب الماء لأذيب الطين !
وإنما كان بسبب ميل طاولة مترنحة لينسكب الماء أي أنها لم تكتفي لاختلقاء حيلتها وإنما اختلقت الظرف المناسب لتصل إلى فكرتها الذكية ! وهذا ما أسميه فنا بحق فتلك كانت مجرد عينة صغيرة من الحبكة التي تصنعها أجاثا في قصصها!!
فهي خرجت عن المألوف واستخدمت ذرة من الخيال إلا أنها جعلت الأمر يبدو واقعيا ومؤثرا بقدر ما يمكن أن يكون مذهلا ومشوقا فائقا للتصورات !!
والآن ..... سنزود قوة التكبير الخاصة بعدسة المجهر لنرى المكونات الصغيرة التي تمتزج مع بعضها ..نعم هذا واضح واضح جدا !!
إنها النكهات الأخرى التي تخلطها مع فنها الأساسي لتشكل سحرها الخاص على القارئ فيمر بجميع الطقوس الممكنة !
فنجدها أحيانا تعطينا طابع الهزلية في شخصياتها وإن كان بطريقة غير مباشرة !فالهزلية يشكل فنا بحد ذاته ويمكن تعريفه ببساطة بأنه ( اظهار الأمور والعادات الروتينية المعتادة بنظرة تدعو إلى السخرية أو تثير شعورا بغرابتها حتى مع كونه أمرا شائع الحدوث !) وهذا يضفي نكهة مرحة على روايتها نكهة تجذبني حقا !!!
ماذا سنجد أيضا ...(فن اختلاق الشخصيات؟)إنها النواة المركزية بلا شك !!
شخصياتها بأنماطهم وطبائعهم المتنوعة وعادتهم المتفردة وردود أفعالهم المختارة بعناية، كل ذلك يجعلك متفاعلا معهم قريب منهم وخاصة أنها تصف الانطباع الذي يتركه كل شخص من شخصياتها عندما تراه لأول مرة ! وقد تتوقع ردود أفعالهم وكأنك تعرفهم شخصيا .!! وهي من أكثر الفنون التي أحبها في هذه الكاتبة وربما يكون من أِكثر الأمور التي تجعلني أفضل قصصها إطلاقا فأنا أعطي هذه النقطة أهمية عظمى!!
فمن منا لا يعرف مقدار السحر الذي يمكن أن يضيفه (ابداع اختلاق الشخصيات ) ليزيد من حلاوة الرواية وتأثيرها عليك ،فالشخصيات هي التي تتحكم بكل شيء وهي التي تستطيع تجسيد أفكارك من خلالها !!
(فن اختيارها للأماكن ووصفها لها ) : معروف بأن هذا الكاتبة تحرص على اختيار أماكن تبعث على الإثارة في نفسك وتحرص على اختلاق الرابط بينها وبين جرائمها ..
لكن الأمر المثير هو كيفية وصفها لهذه الأماكن !
وهذه تقنية رائعة تجعل الوصف (حيا في مخليتك !!) فهي لا تكتفي بوصف الأِشكال الهندسية والديكورات للأماكن !!
وإنما تصف الطابع الذي يترسخ في نفسك ومشاعرك عندما تصف مكانا ما !!
كأن تقول ( جزيرة توحي لك بالخيال )
( قلعة قديمة تبث الكآبة والهيبة في نفسك )
(مكان واسع تبعث أضواؤه على البهجة والسرور )
(مكان تجول به هالات شريرة )
بالتأكيد هذه الأسلوب البسيط يجعلك حقا في قلب الحدث وكأنك ترى المكان وتستشعر الانطباعات التي تتركها في نفسك ووصف المكان الحي له ميزة أيضا في أن ينشط حواسك ،فهو يؤثر على العقل اللاوعي الذي يؤثر بدوره على عقلك الواعي الذي يسنشط حواسك كأن يجعلك تسمع تلك الأًصوات المزعجة في المكان الذي تقام به الأحداث !! <<<نظرية قرأت عنها في أحد الكتب!!
وفي مختصر القول أن هذه الكاتبة تستخدم فنونا متعددة كل منها لها ـاثيره وسحره !فهي لا تعتمد فقط على براعتها في خلق الأحجيات والألغاز ،وإنما تحرص على غرقك فيها !!
تابع يرجى عدم الرد ..
__________________ للاسف اعتزال:"( |