عرض مشاركة واحدة
  #79  
قديم 07-21-2007, 07:41 PM
 
رد: صحيفة عيون العرب

حقل البطيخ الذي سقته الدماء بدل الماء

كانت عناصر الضابطة القضائية تقوم بدورية روتينية عبر الدواوير التابعة لدائرة نفوذها حين لاح لها حشد غفير من المواطنين قد تجمهروا – على غير العادة – داخل حقل بطيخ بدوار الطواجنة الذي يبعد بحوالي 22 كلم جنوب مدينة الجديدة. لم يخامر رجال الدرك الملكي أدنى شك في وقوع حادثة ما جرى نحوها هذا الجيش من الفضوليين. رفع السائق من سرعة المحرك فانطلقت “الجيب” كالسهم نحو الحقل لمعرفة ما يجري هناك. ركن الدركيون سيارتهم جنب الطريق فأسرع نحوهم أحد المتجمهرين ليخبرهم أن أحد أبناء الدوار قد لقي حتفه وسط الحقل إثر طعنة قاتلة من سكين أحدهم عاث فسادا بالمنطقة دون أن تستطيع السنين التي قضاها خلف القضبان أن تحد من بطشه و جبروته فتثنيه عن ارتكاب المزيد من الحماقات. توجهوا مسرعين نحو الجثة. أزاحوا عنها غطاء ظل يحجب عنها نظرات الحاضرين فإذا ببقع دم حمراء تثير انتباههم متناثرة أسفل رجلي الهالك قبل أن يتراءى لهم جرح غائر على ركبته اليمنى. فرق رجال الدرك الملكي جمع الفضوليين و التقطوا عدة صور فوتوغرافية للجثة قبل نقلها إلى مستودع الأموات ليشنوا حملة تفتيش واسعة قصد العثور على أداة الجريمة، إلا أن جميع محاولاتهم باءت بالفشل، مما دفعهم إلى تسخير جهودهم في جمع المعلومات التي ستقودهم إلى الجاني الذي فر هاربا من مسرح الجريمة فور إدراكه خطورة ما اقترفت يداه. لم يكن المتهم سوى عبد الله الذي لا يتوانى في الإستنجاد بسكينه كلما وجد نفسه في معركة غالبا ما يتسبب هو ذاته في اندلاعها، مما دفع الضابط إلى تقسيم الدركيين المرافقين له إلى ثلاث فرق أملا منه في إيقافه بأقصى سرعة ممكنة مادام يدرك أنه لم يبرح الفضاءات المتاخمة لحقل البطيخ، فبادرت إحداهن إلى شن حملة تمشيطية بالحقول المجاورة، و انطلقت الأخرى للبحث عنه بمنازل أقاربه بالدواوير المجاورة، فيما شقت الفرقة الثالثة طريقها نحو منزل والدته حيث يقطن، إذ تسلمت معطفا من بين ملابسه عله يساعد كلابهم البولييسة المدربة في الوصول إليه، إلا أنها سرعان ما توقفت هي الأخرى على حافة الوادي الذي يخترق القرية الصغيرة بعدما انطلقت مسرعة من الحقل مسرح الجريمة. بدأ اليأس يتسلل إلى رجال الدرك الملكي بسبب اختفاء عبد الله الغريب، ففتحوا صفحات محضرهم للإستماع إلى ثلة من أقاربه و بعض الشهود الذين عاينوا الواقعة، عساهم يجمعون المعلومات الكفيلة بالوصول إليه، لكن دون جدوى، أقفلوا عائدين نحو المركز و تفكيرهم منصب على السبيل الذي سيوقع الجاني في قبضتهم قبل أن يرتكب أية جريمة أخرى لاسيما و أنه لا يتردد في استعمال السلاح الأبيض حتى في حق أقرب المقربين إليه. في الصباح الموالي انتقلت عناصر الضابطة القضائية من جديد إلى دوار الطواجنة إذ قضت ساعات طوال في البحث بين الحقول و أشجار الغابات الباسقة المنتشرة عبر ربوع القرية الصغيرة، قبل أن تصادف أحد السكان الذي أخبرها بأن عبد الله يتوارى خلف قصبات الذرة هناك بأحد الحقول المطلة على الوادي. أضاءت هذه المعلومة سماء رجال الدرك الملكي بمصابيح الأمل، بعد أن أعياهم البحث طيلة النهار، ففسحوا المجال لكلابهم البوليسية التي جرت لاهثة بين الحقول و الغابات، فاستطاعت أن تنهش الجاني الذي ترك مخبأه و هرول مسرعا يطلب النجدة ليسقط فريسة لأصفاد عناصر الضابطة القضائية التي ساقته نحو المركز و قد دنت الشمس من مغيبها. مرت ساعات معدودات ليجد عبد الله نفسه أمام المحققين و قد أطلق العنان للسانه مخبرا إياهم بأنه توجه ذاك اليوم نحو حقل أخيه الذي يشارك الضحية وشقيقه في زراعة البطيخ دون أن يدور في خلده أنه سيغادره و قد علقت به تهمة من العيار الثقيل كهاته، إذ ما إن وطأت قدماه الحقل – على حد تصريحاته – حتى طلب منه شقيق الهالك مغادرته خشية أن تعبث يده الجائرة بحبات الفاكهة التي لم يحن وقت قطافها بعد، مما أثار حفيظته فنشب خلاف بينهما دفع الأخوين إلى الإمساك بتلابيبه في محاولة لإبعاده خارج حقل البطيخ قبل أن يأتي على ثماره. اعتقد عبد الله أن المعركة لم تحسم لصالحه إذا لم يستنجد بسكينه فباغت الضحية بطعنة قوية على الركبة جعلت قوته تتلاشى شيئا فشيئا إلى أن خر أرضا يصرخ و يتلوى من فرط الألم بل و جرى أيضا وراء شقيقه (أخ الضحية) و كله أمل في أن يلقنه هو الآخر الدرس الذي لن ينساه غير أن صراخ هذا الأخير الذي أزعج راحة السكان في ساعات القيلولة، إذ خرجوا لتوهم من أجل استطلاع ما يجري بالدوار، حال دون ذلك فيما الضحية ظل يعتصر ألما من شدة الطعنة و ظلت دماؤه تنزف حتى "نضبت" آخر قطرة في شرايينه ليطلق صرخة مدوية صعدت عنان السماء أمام حسرة و اندهاش الجميع. أدرك عبد الله أن جريمته تلك ليست كسابقاتها التي ملأت سجله القضائي فأسرع نحو والدته العجوز التي ظلت تتحمل حماقاته منذ أن ولج عالم الإنحراف وأبلغها بالخبر الذي نزل على قلبها نزول الصخرة وسط بركة ماء، إذ كادت أن تفقد توازنها من شدة الصدمة و هو المشهد الذي لم يصمد أمامه الجاني طويلا، حيث ارتدى بعض ملابسه الصوفية التي من شأنها أن تقيه برودة الليل و هرع إلى الخارج هربا من نظرات أمه الحزينة. غادر المنزل إذن على غير هدى فتوجه صوب منزل شقيقته بأحد الدواوير المجاورة، و دون أن يخبرها بما اقترفت يداه تناول من مائدة غذائها كسرة خبز حاف وكأس شاي منعنع و راح يبحث عن ملاذ آمن يتوارى فيه عن الأعين.
__________________
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{...فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ}(الرعد : 17)
رد مع اقتباس