الهجرة سنة كونية من سنن الله تعالى
مضى ألف و أربعمائة و ثلاثة و عشرون عاما على هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم و صحابته الكرام .. و كل عام يمضى يحيى فينا ذكرى ما قرأناه و علمناه عما تعرض له الرسول الكريم و المسلمون الأوائل من معاناه .. و كم أنهم ضحوا بأهليهم و أموالهم و أنفسهم لنصرة هذا الدين الحق .
و تساءل البعض .. لماذا الهجرة من مكة و هى بلد رسول الله صلى الله عليه و سلم و هى أطهر بقاع الأرض و التى بها أول بيت لله ؟ ... و لماذا الهجرة إلى المدينة المنورة دون غيرها من بقاع الأرض ؟ .. لماذا .. و لماذا ...؟
و تناسى هؤلاء أن الهجرة كانت بوحى إلهى من الله تعالى لنبيه الكريم ... و أنها كانت قبل ذلك سنة الله تعالى مع أنبيائه و عباده الصالحين على مر العصور .. و سوف تظل سنة الله مع عباده المؤمنين إلى ما شاء الله تعالى .
فما من نبى إلا و هاجر و ترك قريته الظالم أهلها بعدما استنفد كل أسباب الدعوة إلى الله تعالى ..
فها هو نبى الله نوح عليه السلام يصنع الفلك بوحى من ربه .. و سط استهزاء قومه ، و حين جاء أمر الله .. حمل فيها من كل زوجين اثنين و من آمن معه من المؤمنين .. لتكون عاقبة الظالمين الغرق فى الطوفان .. .. و كذلك ينجى الله المؤمنين
ثم عاد قوم هود عليه السلام .. و من بعدهم ثمود قوم صالح عليه السلام .. ثم أصحاب مدين قوم شعيب عليه السلام ... كل ُُ ُ كذب الرسل فمنهم من دمرته الريح العقيم .. و منهم من أهلكوا بالرجفة ... و منهم من أخذته الصيحة .... و نجى الله أنبياءه و الذين آمنوا معهم بعدما تركوا القوم المكذبين .
كذلك هاجر سيدنا ابراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ} الصافات : 99
و الآية فى تفسير القرطبى : قال هذا حين خلصه الله تعالى من النار ؛ فقال إنى ذاهب إلى ربى أى مهاجر من بلد قومى و مولدى إلى حيث أتمكن من عبادة ربى فانه سيهدينى إلى الصواب فهاجر مع لوط عليه السلام إلى أرض الشام ، و قيل أيضا ً :أى ذاهب بعملى و عبادتى و قلبى و نيتى الى الله تعالى .. فعلى هذا يكون ذهابه بالعمل لا بالبدن و الله أعلم .
و كذلك أوحى الله سبحانه إلى نبيه إلياس أن يترك القوم الظالمين الذين كانوا يعبدون بعلا ً من دون الله تعالى .. فهاجر الى ربه و استقر فى جبل .. فاتبعه قومه فدعى الله مخلصا أن ينجيه منهم ، فأرسل الله عز و جل عليهم نارا ً فأحرقتهم .. فبعدا للقوم الظالمين
و لقد جاء موسى عليه السلام بالبينات إلى فرعون .. فتكبر فرعون .. و ادعى لنفسه الربوبية .. فأغرقه الله تعالى هو و جنوده فى البحر جزاءا ً لتكبرهم .
و الهجرة كذلك كانت من قبل هى سنة الله تعالى مع عباده الصالحين على مر العصور .. و القرآن الكريم يحكى لنا قصة أصحاب الكهف و هم فتية آمنوا بربهم و لم يكونوا أنبياء و لكنهم أرادوا النجاة و الفرار بدينهم .. فذهبوا إلى الكهف{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } الكهف : 16 ، فأنامهم الله تعالى ثلاثمائة و تسع من السنين لينجيهم من قومهم .. و كذلك ينجى الله عباده المخلصين .
و المتأمل فى كون الله .. يجد بعض الكائنات تهاجر من بلد إلى بلد كبعض أنواع الطيور مثل طائر السنونو الذى يهاجر فى جماعات عند إقتراب موسم الشتاء قاطعا مسافة 1000 ميل تقريبا فوق البحر.
كذلك تهاجر بعض أنواع الجراد فى جماعات فى أوقات محددة من السنة .. وأيضا فإن بعض أنواع ثعابين الماء تهاجر من مكانها الأصلى قاطعة آلاف الأميال فى المحيط .
و خلاصة القول نستطيع أن نقول بأن الأحداث السابقة اشتركت جميعها فى نقاط عدة و هى :
-جاءت الهجرة من بعد مجاهدة فى الدعوة إلى الله تعالى ؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل يدعو قومه طيلة ثلاثة عشر عاما ً فى مكة ؛ و كم اتهم بالجنون و بالسحر .. و كم أوذى مع المسلمين الأوائل ، و كذلك فعل أنبياء الله جميعهم ، فمنهم من أوذى و منهم من قتل .
- جاءت هجرة الرسل و الأنبياء بوحى من الله تعالى ، و على نهجهم اقتدى الصالحون من بعدهم ، أما نبى الله يونس عليه السلام فقد ذهب مغاضبا و ظن أن لن يؤمن له قومه بعدما أخذ يدعوهم أعواما ً كثيرة ؛ فترك قومه بغير أمر إلهى .. و لهذا يقول المولى جل و علا لرسوله الكريم سيدنا محمد صلوات الله و سلامه عليه {فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ *فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} القلم : 48 - 50
- الخير كان فى الهجرة للمؤمنين ... و كان البلاء على الظالمين .. ألا بعدا ً للقوم المجرمين .. فهم مبعدون عن رحمة الله تعالى لأن البعد هو الهلاك .... يقول تعالى {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } الإسراء : 76-77
يقول الشيخ الشعراوى فى تفسير هذه الآيات : أى و إن كادوا ليجعلونك تخف إلى الخروج من مكة ليخرجوك منها ، و لو حدث ذلك فلن يلبثوا خلافك إلا قليلا .. و صدق الحق سبحانه فيما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبعد عام من الهجرة حدثت موقعة بدر و انتصر المسلمون انتصارا كبيرا و قتلوا سبعين من صناديد قريش و أسروا سبعين آخرين فلم يتمتع المشركون بمكة بعد خروج الرسول و أصحابه منها .. لم يتمتعوا بالأرض و لا بالنعيم و لا بالسيادة التى كانوا فيها .. فهذه هى سنة الله تعالى .. فلماذا لم يعتبر هؤلاء القوم بما حدث للأمم السابقة الذين كذبوا رسل الله و آذوهم فكانت عاقبتهم البوار و الخسران ؛ و السنة هى العادة التى لا تتغير .. ( و لن تجد لسنة الله تبديلا ) .
فالخير إذا ً فى صحبة الصالحين .. فاحرص على ملازمتهم و عدم مفارقتهم .. و فى هذا يقول المولى عز وجل
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} الكهف : 28
معنى الهجرة
يعرف العلماء الهجرة بأنها الإنتقال من بلد الشرك والخوف إلى بلد الإسلام والآمان ... أو هى الإنتقال من حال إلى حال ... ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فى أول البعثة المحمدية حيث قال لهم " إذهبوا إلى الحبشة فإن هناك ملكا لايظلم عنده أحد " فكانت هذه هجرة إلى دار أمن، أما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان .
قال ابن حجر : و الهجرة ضربان :- ظاهرة و باطنة ؛ فالباطنة هى ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء و الشيطان ؛ و أما الظاهرة فهى الفرار بالدين من الفتن
و لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم " المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده ، و المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " أخرجه البخارى .
و يقول ابن القبم الجوزية : - الهجرة الى الله و رسوله هى فرض عين على كل أحد فى كل وقت و هى مراد الله من العباد .
و يقول أيضا ً : الهجرة هجرتان : الأولى هى هجرة بالجسم من بلد إلى بلد و هذه أحكامها معلومة
و أما الثانية فهى هجرة بالقلب إلى الله و رسوله و هذه الهجرة هى الهجرة الحقيقية و هى الأصل و هجرة الجسد تابعة لها .... فهى هجرة من و إلى الله تعالى .. فالمهاجر يهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته سبحانه .. و من عبودية غيره إلى عبوديته جل و علا .. و من سؤال غيره إلى سؤاله تعالى ، و هذا بعينه معنى الفرار إليه فى قوله تعالى ( ففروا إلى الله ) ..... فرار من المكروه الذى أوجبته مشيئة الله إلى ما تقتضيه رحمته و لطفه و احسانه .
و من تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم " و أعوذ بك منك".. و قوله أيضا " لا ملجأ و لا منجى منك إلا إليك " .. ففى ذلك افراد الله عز و جل بالألوهية و الربوبية .
إذا ً فالهجرة قبل أن تكون من مكة الى المدينة أى هجرة من مكان إلى مكان آخر ، فهى أولا ً كانت هجرة إلى الله تعالى بالإنقياد له بالطاعة و اخلاص العمل له عز و جل ( قل إن صلاتى و نسكى و محياى و مماتى لله رب العالمين )
و هى أيضا فريضة على هذه الأمة .. باقية الى قيام الساعة لأن الرسول الكريم يقول " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه أبو داود ، فهنا اقترنت الهجرة بالتوبة ، فكأنما التائب من الذنب كلما يجدد توبته فهو يجدد بذلك هجرته إلى الله تعالى أيضا ً .
أما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم " لا هجرة بعد الفتح " أى الهجرة من مكة تحديدا إلى المدينة تحديدا أى أن تكون مقصورة على مكان بعينه .
اتمنى ان تكونوا قد استفدتم المصادر : - زاد المهاجر لإبن القيم الجوزية
- السيرة النبوية للشيخ الشعراوى