السياج الأخضر
استيقظ ((آدم)) من نومه فجأة ونظر إلى ساعته المنبهة فوجدها قد تجاوزت الرابعة صباحا ..
لم يتعجب كثيرا من استيقاظه في ذلك الوقت، تجهز وتناول حبوبه المغذية .. ثم نزل إلى الحقل الذي يحوط بمنزله الريفي الصغير وقام بفتح الاصطبل وأخرج جواده البني " سريع" ،، مسح على جبهته بلطف ثم اعتلاه وركض به خارجا من الحقل إلى الطريق الصغير الذي يفصل بين الحقول ..
سار يتأمل شروق الشمس وبديع صنع الإله في ذلك المكان الجميل حتى خرج من قريته إلى نطاق الغابة وظل متابعا سيره حتى طلع النهار وتوقف آدم أمام منظر بديع ... الخضرة تحيط بالبحيرة الصافية الزرقاء، هناك أشجار خضراء عملاقة تحيط بالمكان ومرتفعات تواريها .. هو فقط من يعرف هذا المكان وهو الذي يزوره ليتأمل الطبيعة الساحرة وينسى آلامه لبعض الوقت ..
ربما ... يستطيع أن ينسى آلامه، ترجل من فوق جواده وسار حتى وصل إلى البحيرة التي أطلق عليها اسم "وشاح الأمل الأزرق" .. انحنى بهدوء ولمس بأطراف أصابعه مياهها الدافئة واستنشق من الهواء الذي يحمل رائحة الورود البرية وتأثر كثيرا وهو يحاول النسيان ..
قال مخاطبا البحيرة الزرقاء بخفوت:
بحيرتي يا وشاح الأمل ... سأفتقدك كثيرا لأنني ربما لن أعود غدا ...
ثم وقف وهو ينظر إلى المكان و اغرورقت عيناه بالدموع وهو يودع أصدقائه من الأشجار العملاقة ولكنه تماسك حتى لا تشعر أشجاره بدموعه ثم اعتلى جواده سريع وعادا معا إلى القرية ..
كانت القرية قد استيقظت والناس يذهبون ويجيئون وكل مشغول في عمله بالبيع أو الشراء أو حراثة الحقول أو حتى التحديق بـ آدم بدون سبب يعرفه ...
عاد آدم إلى حقله وأدخل جواده إلى الاصطبل وعندما خرج شاهد شابا يقترب مبتسما وقال :
مرحبا آدم؟؟ كيف تشعر ... آمل أنك في تحسن ..
ابتسم آدم وتمتم :
أجل ...
متى سوف تعود للجامعة؟؟
لن .. أعود ..
صمت آدم قليلا بعد تلك الجملة ولكنه أردف:
لن أعود أبدا ..
حاول الشاب أن يبعد شبح اليأس عن آدم وقال وهو يضرب كتفه مازحا:
هيا يا رجل!! المدينة ليست بعيدة إلى هذا الحد ..
لم يعقب آدم على تلك الكلمة ونظر خلف الشاب فالتفت الشاب وشاهدا شقيقة آدم الكبرى "منى" وهي تصطحب معها طبيب القرية متوجهة نحوه فابتسم آدم تلك الابتسامة الجميلة التي تعطي الحياة لكل شخص يراها، واقتربت منى مبتسمة ثم قالت وهي توبخ آدم بلطف:
آدم! كم مرة علي أن أخبرك بأن لا تجهد نفسك ... أليست هذه وصية والدك رحمه الله التي لا تنفذ شيئا منها!
تنحنح الشاب وقال:
سوف أزورك قريبا آدم ... و ... اسمع كلام شقيقتك! إنها طبيبة وتفهم ذلك!
ابتسم آدم وقال وهو يراقب صديقه الوحيد يرحل:
حاضر يا أيمن، اسمع كلام والدتك واشرب الحليب!!
ضحك أيمن ولوح بيديه ثم خرج من بوابة الحديقة،، فقالت منى:
آدم! لا تعجبني تمضية أيامك في العمل وإرهاق نفسك ... يمكننا تولي أمر الحقل!!
ظل آدم مبتسما وهو يقول بهدوء:
دعيني أمضي ما بقي من أيام حياتي القليلة كما أريد ...
توقفت منى عن الكلام وهي تشعر بالأسف ثم تلكأت وهي تقول:
- لا .. لا تقل ذلك أبدا ... سـ .. سوف تكون بخير ..
تدخل الطبيب في تلك اللحظة قائلا بخبث:
انظري إلى وجهه الشاحب إنه يشرف على الموت، دعيه يفعل ما يريد ..
نظرت منى إلى الطبيب بغضب فقال الطبيب مبتسما وهو يتدارك كلمته الأخيرة:
الأعمار بيد الله ولكن لا تنسي أنه من وافق عمه المجنون على وضع ذلك الشيء داخل جسده..
حلت فترة صمت قصيرة وبدا التأثر على وجه منى ولكن آدم وضع يده على قلبه وتكلم بهدوء كعادته:
لا أحب أن أتشاءم ولكن، أشعر بأن تلك القطعة في صدري تؤلمني بشدة .. لقد مللت من الحقن المضادة لأنه لا داعي لها أبدا .. فأنا سأموت بأي حال ...
احتقن صوت منى وتجمعت الدموع في عينيها وهي تقول:
أرجوك يا أخي ... خذ الحقن لأرتاح!
قال الطبيب بعد أن تنحنح :
إنه محق،، لا داعي للحقن لأنه سيمـ ...
نظرت منى للطبيب نظرة حادة فتوقف عن الكلام وهو يبتلع لعابه بصعوبة ويحاول نسيان الأمر ..
قبل أن يدخل آدم إلى منزله توقف لحظة ثم قال:
كنت أود رؤية "آدم" الصغير اليوم ... إذا سمحت طبعا يا أختي، ولا تنسي أنني خاله ..
أومأت منى موافقة و حاولت أن تبتسم ولكن دموعها ملأت عينيها الجميلتين واستدارت حتى لا يلحظ آدم تلك الدموع المخفية ثم قالت بصوت مرتعش:
أرجوك .... خذ الحقن ...
توقف آدم واتسعت عيناه ثم استدار وهو يقول بدهشة:
هل تبكين يا أختي؟؟ هل تخافين من الموت؟؟
استدارت منى ودموعها تسيل على خديها ثم ضمت آدم بقوة وهي تقول:
أخشى أن أفقدك فعلا ... أرجوك!!! لن استطيع أن أتخيل حياتي وأنت لست فيها !!!
ابتسم آدم تلك الابتسامة الهادئة جدا ثم قال:
إن حياتك جميلة .. وهناك من يحتاجك جدا،، زوجك يوسف الذي تحبينه،، وآدم ابنك .. آدم الصغير ... سوف تكونين بخير، أنا مطمئن عليك ..
انهمرت دموع منى بشدة وشهقت محاولة التقاط أنفاسها ثم قالت بخفوت:
خذ الحقن ... أرجوك!
أجاب آدم:
حسنا ...
السياج الأخضر
استيقظت منى في اليوم التالي وأعدت الفطور بسرعة فسألها زوجها قائلا:
كيف حال آدم الكبير الآن ؟؟
لم تجب منى وظلت تطعم طفلها آدم بصمت فشعر زوجها يوسف بحزن يعتلي ملامحها فلم يكرر السؤال وقال بلطف:
ما رأيك أن نأخذه في رحلة؟ ربما تغيير المكان يجعل حاله أحسن ..
نظرت منى بسرعة نحو يوسف وتمتمت:
حقا .. هل سنقوم برحلة .. أ ..أقصد هل تعتقد أن تغيير المكان سيفيد حقا؟؟
أجل! أنا مؤمن بذلك ..
لكن .. أنت لا تأخذ إجازة وعملك مرهق .. هذا لن يصلح ..
توقفي عن هذا يمكنني أن آخذ إجازة ..
دمعت عينا منى وتحشرج صوتها ولكنها انتبهت لآدم ذلك الطفل الذي لم يتم الثلاثة أعوام وهو ينظر إليها بحزن ويشعر بحزنها العميق فوقفت وقالت وهي تتوجه إلى الأعلى وتمسك دموعها:
سأعود بعد دقائق ..
تمتم آدم بلهجة الأطفال البسيطة:
- أمي تبكي..
نظر يوسف إلى ولده الصغير وابتسم بصعوبة قائلا:
لقد دخلت بصلة في عينيها ...
ضحك آدم وردد:
تبكي من البصلة ؟
أجل .. أنت ولد ذكي ..
ترك يوسف الطاولة وصعد خلف زوجته بسرعة .. وعندما وصل إلى الدور الثاني رأى منى تبكي قرب النافذة وتحاول تجفيف دموعها التي لا تريد التوقف فقال يوسف بهدوء وهو يمسك بكتفيها بحنان :
أعلم أنه شقيقك الأصغر الذي أحببته أكثر من نفسك، لكن .. أرجوك تماسكي قليلا ..
قالت منى بألم :
كل ما يحزنني أن جميع الناس يتمنون موته ... لماذا!!!
صمت يوسف قليلا ثم قال وهو يناول زوجته منديلا آخر :
كل ما أعلمه أن عمه خبأ في صدره سرا ما ... يريد الجميع معرفته ... وهناك من يعرفه بالفعل ويريد الاستيلاء عليه ..
زادت دموع منى وصاحت منفعلة:
وهل هذا السر أغلى من حياة إنسان ...
ربت يوسف على كتفها برقة وقال:
لا تنسي أن ذلك الشيء أثر على صحته وتصرفاته منذ طفولته ، وجعله منطويا ووحيدا ... إنه قوي حتى يتحمل ذلك الشيء حتى الآن ... قوي جدا ..
نظرت منى لزوجها وقالت:
هل تقصد أنك تتمنى موته؟؟
تفاجأ يوسف من كلامها وقال بسرعة:
بالطبع لا ... ولكن .. ولكن ما من طبيب يستطيع إخراج ذلك الشيء .. إن حالته ميئوس منها وهو يعاني ليلا ونهارا من آلام مبرحة .. يجب أن لا تكوني أنانية .. الموت أفضل له ...
صرخت منى باكية:
أنتم تكرهونه لأنه أرق وأجمل شخص في الوجود ... تحقدون عليه لأنه أفضل منكم .. لأنه مختلف ولأنه وسيم وذكي ... أنتم حقدة ..
ثم تركته وركضت نحو غرفتها فسار يوسف خلفها وهو يقول:
صدقيني أنا لم أقصد تمني الموت له ... لم اقصد كل هذا الكلام .. أنت تعرفين أنني أحبه مثل أخي وأكثر .. لا يمكنني أن أحقد عليه أبدا .. أنـ .. أنا ..
التفتت منى ثم ارتدت معطفها ومسحت دموعها و قالت:
أنا آسفة .. لم أقصد الكلام الذي وجهته إليك ...
لا بأس .. أنا أيضا آسف ..
سأسرع الآن لأنه لا يأخذ دواءه إلا بعد إلحاح مضنٍ .. كما أنه علي التوجه إلى المستشفى بسرعة لأن هناك حالة ولادة بانتظاري ..
تابع يوسف زوجته الجميلة وهي تنزل درجات السلم ثم هتف:
فكري بأمر الرحلة .. أنا مستعد لكم ..
لوحت منى بيدها باسمة ثم أمسكت بيد آدم الذي كان يلعب وقالت:
آدم .. ستذهب معي إلى خالك اليوم ..
نظر آدم ببراءة نحو أمه وقال:
هو ذهب .. لن أراه ..
اتسعت عينا منى مفزوعة وأمسكت بآدم من يده وركضا معا إلى الخارج .. ركضت منى وركضت ولكن آدم الصغير تعب فحملته حتى وصلت إلى المنزل ...
كان باب الحقل مفتوحا وتركت منى طفلها ليسير ثم شاهدت سريع يركض في الحقل كالحصان البري فانطلقت نحوه وأمسكت بلجامه وهي تقول:
ما الأمر يا سريع .... لماذا تبدو خائفا .. أم إنها أنا الخائفة؟؟
ظل الحصان يصهل ويتحرك يمينا ويسارا فتركته منى وهي تسحب آدم خلفها ودخلت إلى المنزل وهي تنادي بهستيريا:
آدم ... آآدم أجبني بالله عليك...
بحثت منى في كل ركن ... ولكنها لم تجد أثرا لـ آدم .. فعادت إلى الحقل وقالت تحدث حصان آدم :
سريع ... خذني إلى آدم بسرعة ... أين هو ..؟؟
----------------------------------------------------------
اعتلت منى الحصان وحملت صغيرها أمامها فركض بها الحصان وعبر القرية .. ثم خرج ودخل إلى الغابة المهجورة .. فبدأت منى تشعر بالخوف ...
ظل سريع يركض ويركض حتى وصل إلى غابة آدم ذات الأشجار الملتفة والبحيرة الزرقاء النقية ..
سارت منى منبهرة بجمال ذلك المكان وعندما نظرت إلى البحيرة شاهدت آدم هناك .. ملقى على شاطئ البحيرة وإحدى يديه تنغمس في المياه الدافئة ...
هل مات آدم ؟؟؟
ركضت منى مفزوعة نحو أخيها الملقى بلا حراك ولكنها عندما اقتربت سمعت صوت أنفاسه المتلاحقة .. فتنفست الصعداء ..
وعندما اقتربت أكثر شاهدت الكثير من الدماء على شفتي آدم وجسده وعلى حشائش الغابة، كانت الدموع تملأ عينيه فأمسكت به ووضعت رأسه على حجرها وقالت :
آدم ... ماذا تفعل هنا... لماذا لم تهدأ وترتاح ... لم أنت مجروح هكذا؟؟
لم يستطع آدم الكلام ونزلت دموعه ، فبكت منى وقالت:
أنت قوي ... لم أرك تبكي هكذا من قبل .. بماذا تشعر؟؟
تمتم آدم بصعوبة :
لـ .. لقد .. حزن أصدقائي .. لقد رأوا دموعـ .. ـي .. التي خبأتها عنهم ... لسنين ...
كان آدم الصغير يراقب ذلك بصمت وتساءلت منى:
أصدقاؤك؟؟
تنفس آدم بصعوبة وتكلم ودموعه تسيل على وجهه:
عندما أموت ... لا تدعيهم يعبثون بجثتي أرجوك ... إ ..
قاطعته منى وهي تبكي هي الأخرى :
لن تموت يا آدم أرجوك ..
تابع آدم :
ادفنيني .. هنـا .. بـ . ... بالقرب من أصدقائي .. و ... أرضـ ... ـي ...
ثم مـدّ يده ببط وكان ممسكا بشيء ما وقال:
- أعطي لأيمن هذه! و ... خذي حذرك على آدم الـ .. الصغيـ .. ـر ..
لم تستطع منى قول أي شيء وابتلعت دموعها وبكت حتى لم تعد ترى وجه آدم بوضوح ولكنها أمسكت بتلك العلبة الصغيرة ...
مد آدم يده الأخرى بصعوبة نحو آدم الصغير فاقترب وأمسك بها .. ابتسم آدم الكبير فخرجت بعض الدماء الأخرى من فمه وسالت على وجنته .. ثم .. سكنت أنفاسه ومالت رأسه ...
مسحت منى دموعها ونظرت إلى وجهه وهي لا تصدق أنه توفي ..
لقد مات آدم بهدوء ... بعيدا عن القرية .. وبعيدا عن كل الناس ..
بكت كثيرا عندما تذكرت الرحلة التي كان يوسف ينوى إعدادها من أجله ...
لكنها تلك المرة كانت أكبر قوة وشجاعة ..
خلعت معطفها المليء بدماء آدم ووضعته على وجهه، ومن ثم عادت إلى المنزل واتصلت بزوجها ليأتي ... لم يتأخر يوسف كثيرا، لأن بكائها كان يوحي بأن مصيبة حدثت ..
كان يوسف مفزوعا عندما دخل من باب البيت ولم تستطع منى الكلام بينما قال آدم ببراءة الأطفال:
آدم الكبير مات ...
نظر يوسف نحو منى مصدوما وتكلم بخفوت:
هل هذا صحيح ؟؟
أومأت منى بالإيجاب فضمها يوسف إلى صدره وتمتم:
إنا لله وإنا إليه راجعون ...
ثم نظر إلى وجه منى وقال:
أين هو الآن ...
في مكان بعيد ..
قال يوسف بسرعة:
يجب ألا يعلم أي شخص بمكانه حتى لا يحاول العبث بجثمانه ..
ساعدني على دفنه ..
دمعت عينا يوسف وضم منى مجددا وهو يحاول التخفيف من ألمها ..
جففت منى دموعها حتى لا يلحظ السكان،، وتركوا آدم الصغير عند جده والد يوسف، ثم توجهوا إلى الغابة الملتفة ..
كان المكان كئيبا وكأنه حداد على موت آدم ..
كان آدم مستلق إلى جانب البحيرة ، بدأ يوسف بحفر قبر في ذلك المكان البديع، كانت الرمال رطبة ..
ظل يوسف يحفر وهو يمسح عرق جبينه .. ودموعه التي سالت على خديه على الرغم منه ..
قبل أن يدفنه، لاحظ يوسف أن هناك جرحا بليغا أحدثه آدم في صدره ولكنه لم يقل شيئا خشية أن تعتقد منى أنه قتل نفسه ... وتعيش في ألم طوال حياتها ..
دفناه والألم يعتصرهما وقبلت منى جبينه قبل أن يهلوا عليه التراب ،، ثم بنا يوسف حول قبره سياجا من خشب الأشجار حتى يوحي للرائي بأنه لا يوجد قبر هنا ..
كانت منى تعتبر موت آدم .. هو موت قلبها الصغير ، ومرت الليالي تعيسة ..
حتى بدأ أهالي القرية يلاحظون اختفاء آدم ...
السياج الأخضر
بعد مرور أسبوع على وفاة آدم استيقظت منى من النوم بسرعة ووضعت الفطور لزوجها كالعادة ..
كان الحزن مازال يخيم على أرجاء المنزل .. واستيقظ آدم الصغير وابتسم بلطف فحل جو من الألفة قليلا وبينما يتناولون إفطارهم سمعوا طرقا على باب منزلهم ..
ذهب يوسف ليفتح الباب وفوجئ بطبيب آدم يقف أمامه ومعه بعض من أهالي القرية وقال الطبيب متسائلا:
أين آدم ..؟؟
صمت يوسف للحظات ثم قال:
لقد مات ...
ماذا .. ؟؟ وأين وضعتم جثته ..
أجاب يوسف ببرود:
لقد أحرقناها ..
ثم أغلق الباب بعنف في وجوههم ..
عاد يوسف إلى طاولة الإفطار وقد عفت نفسه الطعام بسبب البشر الذين لا رحمة في قلوبهم ..
تساءلت منى:
من كان هناك؟؟
فنظر لها يوسف ولم يقل شيئا فعادت متسائلة:
من كان بالباب يا عزيزي؟؟
لا شيء مهم .. لا تشغلي بالك ..
تساءلت مجددا:
متى سيمكنني زيارة آدم ؟؟
تمتم يوسف:
ليس الآن .. لا أريدهم أن يعرفوا مكانه ..
صمتت منى وخرج يوسف متوجها إلى عمله، سار بضعة أمتار خارج المنزل حتى ابتعد عنه وقبل أن يركب سيارته ، خرج عليه رجال ملثمون وقاموا بضربه بعنف بالعصي و البنادق حتى فقد وعيه ..
عندما بدأ يوسف يفيق شعر أنه مبلل وأن هناك رائحة .. بنزين ..
فتح عينيه جيدا وهو يشعر بألم رهيب في رأسه،، ثم نظر حوله فرأى عدة رجال من بينهم طبيب القرية ورجل يرتدي قميصا أسود غريب الشكل ، وسأله الرجل :
أين جثة آدم يا سيد يوسف؟
ابتسم يوسف ساخرا وقال:
لقد أحرقتها ....
عاد الرجل يقول وكأنه لم يسمع رد يوسف:
البلورة التي وضعها عمه العالم في صدره ... لي .. وأود استعادتها ...
نظر يوسف للرجل ولم ينبت ببنت شفة .. فتابع الرجل:
بصريح الكلام أستطيع أن أقول أنني من وضع تلك البلورة في صدر آدم، لكنني لم أقصد قتل الفتى، وإذا كنت قد أحرقت جثته فأظن أن أخذ البلورة قد أصبح يسيرا .. لأنها لا تحترق ..
تنفس يوسف بصعوبة فأمسك الرجل قميصه بعنف وصاح:
أين رماده إذن؟؟
لم يتكلم يوسف .. فأخرج الرجل قداحة من جيبه وتمتم:
لست الشاهد الوحيد ... ربما عندما أحصل على البلورة، يمكنني زرعها بصدر ابنك آدم ...
صاح يوسف:
وماذا تستفيد من ذلك ؟؟ لماذا؟؟
ابتسم الرجل بخبث وضحك الطبيب وتمتم الرجل مجددا:
هناك امرأة جميلة تعرف مكان آدم سواء أكان جثة أم كان رمادا .... الوداع أيها الحقير ..
قبل أن يقوم يوسف بفعل أي شيء أشعل الرجل قداحته وقذف بها إلى صدر يوسف ليشتعل بكل ما حوله وسمع الرجال صراخ الموت من خلف النيران وهم يخرجون من المكان ببرود وكأنهم لم يفعلوا شيئا ...
*******
ركض آدم الصغير حول والدته بمرح فابتسمت قائلة :
انت تشبه والدك حقا ...
ظل آدم يلعب حول والدته التي كانت تغسل الأطباق وسمعا فجأة طرقا على باب المنزل فغسلت منى يديها وتركت صغيرها خلفها يلعب ثم توجهت لفتح الباب، ورأت عند الباب شابا صغيرا كان صديق شقيقها آدم وهو في مثل سن آدم ويدعى أيمن ..
عندما رأت وجهه تذكرت العلبة التي وصاها آدم أن تعطيها لأيمن قبل وفاته ولكن يبدو أنها فقدتها مع الحزن أو أنها سقطت في مكان ما من الغابة الملتفة ..
كان أيمن شابا لطيفا، لديه عينان سوداوين وشعر بني داكن .. وكان قصيرا بعض الشيء ولديه شخصية مرحه وعفوية ..
تكلم أيمن قائلا بخفوت:
سيدة منى، يبدو أن عليك أخذ حذرك ...
ظهر الاستغراب على وجه منى وتابع الشاب بنفس نبرة الصوت:
هذا الصباح رأيت زوجك وقد أخذه رجال أشرار يبحثون عن آدم ..
شهقت منى مفزوعة وهي تحاول كتم خوفها وقبل أن يقول أيمن أي شيء آخر توقفت ثلاث سيارات أمام منزل منى فسحبها الشاب بسرعة إلى الداخل وركضا معا ومنى تصرخ مفزوعة ،، حمل أيمن آدم الصغير وهتف بسرعة:
يجب أن تهربوا ... إنهم أشرار ..
صرخت منى وهي تفتح باب المنزل الخلفي:
ماذا يريدون منـّا ؟؟
عندما فتحت باب المنزل وجدته أيضا محاصرا مما دفعها للصراخ ،، ولكن بعض الرجال أمسكوا بها فصرخت منى:
أيمن ،، ولدي يا أيمن!! أرجوك ...
فهرب أيمن إلى الأعلى وهو يحمل آدم ...
اختبأ أيمن ومعه آدم وكان آدم سيبكي ولكن أيمن أشار له بالصمت، وكان طفلا ذكيا فاستجاب لذلك وصمت ..
السياج الأخضر
مضت أربعة عشر عاما ... تحولت في تلك الأعوام القرية إلى مدينة .. مدينة صاخبة بالناس بعد أن توحدت القرى التسع لكن ظلت الغابات الملتفة كما هي ... لم تتغير ولم تمس ...
سرت الإشاعات بأن من يدخلها يكون الموت والضياع من نصيبه، وأطلق عليها اسم الغابات المحرّمة ..
اليوم،،
هو يوم ميلاد آدم السابع عشر ..
لقد أصبح آدم شابا وسيما وقويا،، وقف أيمن يتطلع إلى تلك الحفلة الصغيرة التي دعا آدم إليها أصدقائه من المدرسة الثانوية ...
انتهت الحفلة في وقت متأخر ... وجلس آدم يشاهد الهدايا التي أحضرها له أصدقائه،، فخرجت فتاة صغيرة من أسفل الطاولة وأطاحت بجميع هدايا آدم على الأرض فقال آدم ضاحكا:
لماذا لم تحضري الحفل يا شروق؟ هل انت خجلة؟؟ الخجل ليس من طبعك أبدا ...
وقفت شروق وعدلت من وضعية فستانها ثم قالت بغرور:
لم احضر حفلتك لأنني دخلت إلى الصف الخامس هذا العام ، وأصبحت آنسة رقيقة ولا أستطيع أن أدخل إلى غرفة مليئة بالأولاد كما تعلم ...
ضحك آدم وقال :
تريدين أن تصبحي آنسة عنوة؟؟ مازلت في العاشرة من عمرك ...
شعرت شروق بالغيظ وقالت بغضب:
أولا أنا في الحادية عشرة من عمري .. ثم .. أنت أيضا لست شابا ... مازلت ولدا، سأقول لـ ياسر يا أخي الغالي .. مع أنه أقصر مني .. ولن أقول لك يا أخي الكبير لأنك أصغر مني ..
حقا؟؟ لكنني أطول منك بكثير ..
أجل .. ليس مهما فأنت أطول من أمي ومع ذلك هي أكبر منك ...
ضحك آدم وصفق لها وهو يقول :
انت ذكية لكن لماذا لا يكون ياسر أكبر منك مع أنك أطول منه؟؟
تركت شروق المكان وانصرفت غاضبة وهي تقول:
لن أعطيك الهدية التي أحضرتها لك،، سآخذها لنفسي مع أنها سوف تكون كبيرة عليّ ومع أنها لن تلائمني كآنسة و ...
شروق فتاة صغيره في الحادية عشرة من عمرها تمتلك ملامح أمها الجميلة وشعر والدها البني الناعم،، وهي قصيرة بعض الشيء وتبدو أصغر من عمرها الحقيقي بكثير ..
واختفى صوتها وهي تبتعد ودخل أيمن مبتسما وقال:
كل عام وأنت بخير يا عزيزي ..
ابتسم آدم وعانق أيمن وهو يقول:
شكرا يا أبي ...
مضت فترة صمت قصيرة، فدخلت زوجة أيمن السيدة نوال .. ثم اقتربت مقبلة جبين آدم وقالت بسعادة:
أتمنى لك عمرا مديدا وعيشا سعيدا بني ..
ابتسم آدم بسعادة فسلمته السيدة نوال علبة صغيرة فتمتم آدم:
ما هذا يا أمي ..؟
قالت السيدة نوال:
افتحها يا آدم ..
فتح آدم تلك العلبة الصغيرة برفق فوجد خاتما فضيا يعتريه لون أسود وكأنه احترق، أخرج الخاتم ونظر به جيدا ثم قال:
إنه خاتم زواج قديم ..
قال أيمن بهدوء :
إنه خاتم والدك الحقيقي ..
وكأن آدم تذكر شيئا فجأة فقال:
لقد سألتك عنهم،، قلت لي أنهم ماتوا في حادثة .. و .. وأنا أتذكر أمي وهي ترتدي ثوبا أحمر ..
ربت أيمن على كتف آدم وقال:
لقد أعطيتك إياه ليكون ذكرى !
ابتسم آدم وقال:
نعم .. شكرا لك يا أبي ..
سار آدم نحو غرفته وهو يحدق بالخاتم ولكنه انتبه وتوقف ثم استدار قائلا:
تصبحون على خير ..
ابتسم الوالدين وقالا:
تصبح على خير يا آدم!
دخل آدم وأغلق خلفه الباب ثم فتح إحدى أدراج مكتبه ووضع الخاتم فسقط الخاتم على صورة قديمة ...
إنها صورة زواج أيمن ونوال وآدم يجلس أمامهما عندما كان طفلا صغيرا لم يتم الخامسة من عمره،، ابتسم آدم والتقط الصورة وحدق بها جيدا،، وهو يتذكر معاملة أيمن الحسنة له وتربيته له حتى أصبح شابا يعتمد على نفسه ...
تمنى لو يرى والديه،، إنه لا يتذكر سوى الفستان الأحمر .. ترتديه امرأة لا يستطيع تذكر وجهها بوضوح ..
كان لديه خال يدعى آدم ..
أين هو ؟؟
بدل آدم ملا بسه وارتدى ثياب النوم وهو مازال يفكر في ذلك، لا بد إن كان خاله على قيد الحياة أن يبحث عنه أو يخبره أيمن عن مكانه حتما ..
حاول آدم النوم ولكنه لم يستطع، بدأ ذلك الشيء يشغل تفكيره حتما .. أليست لديه عائلة، عم أو عمة ... هل هو "آدم يوسف" هل هذا كل ما يعرفه عن نفسه وعن والديه ...
وقف مجددا وعاد إلى درج مكتبه ثم أخرج خاتم زواج والده،، كان اسم منى ما يزال محفورا بداخله على الرغم من الحريق الذي أصابه ..
تساءل آدم ما إذا قضى والده في حادث سيارة؟؟
لقد احترق حتما ، وهذا هو الدليل ..
في الصباح استيقظ آدم مبكرا كعادته مع أنه يوم العطلة ورأي شقيقته الصغيرة شروق تجلس على الطاولة وترسم و إلى جوارها علبة مغلفة بورق تغليف رائع فاقترب آدم بدون أن تشعر واقترب كثيرا ثم قال بخفوت:
شروووووووووووووووووووق!
صرخت شروق فزعة وسقط القلم من يدها بينما ارتمى آدم على الأرض من الضحك .. فنظرت شروق وقالت غاضبة وهي تلملم أوراقها وأقلامها:
حسنا!! أقسمت أنني لن أعطيك الهدية التي أعددتها لك لأنك لا تستحقها!
قال آدم وهو يخطف العلبة:
سأفتحها ..
صرخت شروق ووقفت على الكرسي وهي تحاول أن تمسك بالعلبة قبل أن يعرف آدم ما بداخلها ولكنها سقطت فجأة من فوق الكرسي ووقعت على وجهها ...
سقطت العلبة من يد آدم وركض مفزوعا نحو شروق التي وقعت على الأرض بلا حراك وحملها آدم وهو ينظر إلى وجهها برعب ثم حركها بلطف وقال:
شروق، هل أنت بخير .. أرجوك! إن كانت هذه لعبة من ألاعيبك فلا داعي لأن تطول لأنني على وشك أن أصاب بـ ..
توقف آدم على الكلام وهو ينظر إلى الدم الذي يسيل من أنفها، وعينيها المقفلتين بلا حراك فلا يبدو أنها تمثل أبدا ...
صرخ آدم:
شروق ... أجيبي بالله عليك ... أجيبي!!
لم تتحرك شروق وحاول آدم أن يسمع دقات قلبها ولكن توتره أثر عليه فلم يسمع شيئا .. دمعت عيناه وحملها بسرعة وهو يصرخ:
أبي ... أبي ي ي ي ي ي ي ..
ثم خرج من المنزل وهو يحملها وركض بها نحو المستشفى القريبة ...
كان مستشفى صغيرا ولكنه أفضل من لا شيء، دخل بسرعة حاملا أخته فالتقطتها الممرضات النشيطات على سرير متحرك إلى الداخل ووقف آدم عند رأسها والطبيب يفحصها، فنظر الطبيب وقال:
ماذا حدث؟
لقد .. لقد سقطت من فوق الكرسي وهي تحاول أخذ شيء من يدي ..
صمت الطبيب قليلا .. ثم تابع:
أخشى أننا مضطرون لنقلها إلى المستشفى الكبير في شرق المدينة لأن الحالة ...... خطيرة.
بهت آدم ونظر إلى أخته وهو يكاد يبكي ...
السياج الأخضر
في داخل الإسعاف، استغرق الطريق النصف ساعة، وكان هناك ممرض بداخل العربة يقوم بإعطاء شروق الأكسجين عن طريق أنبوب للأنف، أما آدم فكان يراقب ذلك بصمت وحزن عميق ...
لم يدخل آدم المستشفى الكبير من قبل، كان كبيرا حقا ويستحق ذلك الاسم عن جدارة ، دخلت أخته إلى الطوارئ بينما جعلوه ينتظر خارجا، تحرك آدم بقلق ولكنه رأى من الواجب أن يتصل بوالده .. لكن ..
ماذا سيقول له ؟؟
سار آدم واقترب من إحدى الطبيبات ثم قال:
مرحبا ... مـ .. من فضلك ..
كانت الطبيبة تبدو في أوائل العقد الرابع من عمرها،، ابتسمت وقالت:
نعم؟
هل يمكنني إيجاد هاتف هنا؟؟
نظرت الطبيبة إلى آدم جيدا ثم قالت:
لم أنت متوتر هكذا يا بني؟؟
تنهد آدم وتجمعت الدموع في عينيه ثم قال:
أخشى أن يصيب أختي مكروه ، لأنني السبب فيما حصل لها ..
ابتسمت الطبيبة بهدوء وربتت على كتف آدم وهي تقول:
أشعر بشعورك،، إنها أختك بأي حال ... لكن أدعو الله أن يشفيها ..
شكرا يا سيدتي ..
لقد سألتني عن الهاتف؟
انتبه آدم وقال:
أجل ..
اتبعني إذن ..
سارت الطبيبة وصعدت الدرج فصعد آدم خلفها فتساءلت الطبيبة:
لم تخبرني عن اسمك ..
آدم ..
توقفت الطبيبة عن السير ونظرت في وجهه جيدا ثم قالت:
آدم؟؟ آسفة لأنني تفاجأت ولكن هذا الاسم يبعث ذكرى غريبة في نفسي .. كـ .. كما أن اسم آدم غريب بعض الشيء .. فهو نادر قليلا هنا، والكثير من الناس يعتبره لعنة ..
لم يقل آدم شيئا وتابع السير ودخلت الطبيبة إلى عيادتها وأشارت إلى الهاتف وقالت:
تفضل ..
نظر آدم وقال ممتنا:
شكرا يا سيدتي ..
رفع آدم سماعة الهاتف وطلب رقم منزلهم ورفع أخوه الأصغر ياسر سماعة الهاتف:
مرحبا ..
ياسر! أريد أبي حالا ..
أبي يبحث عنك ..
إذن أين أمي؟
قبل أن يكمل السؤال سمع آدم صوت والدته التي قالت مفزوعة:
آدم يا عزيزي هل أنت بخير ..
تلكأ آدم قليلا ثم قال:
لقد سقطت أختي من فوق الكرسي لكن لا تقلقي أنا هنا في المستشفى وأخبروني بأن حالتها ليست خطيرة ..
أي مستشفى؟؟؟
المستشفى الكبير في شرق الـ ..
آدم .. هل هي بخير؟؟
أجل يا أمي لا تقلقي ..
سيكون والدك عندك بعد قليل ..
حسنا، مع السلامة
أغلق آدم السماعة ونظر إلى الطبية ثم قال:
شكرا يا سيدتي ..
قالت الطبيبة وهما يسيران بهدوء عائدين:
ما هو اسمك بالكامل؟؟ أ .. أقصد أريد أن أعرف اسم والدك ..
صمت آدم قليلا ثم قال:
أدعى آدم يوسف ولكن والدي يدعى أيمن ..