الرحيل الرحيلُ .. يا الصابرونَ على الهمِّ ، ضاقَت عِندَ العُمر أُمنِياتي ، و ذَاقَت نَفسي وَجَعَ الفَجائِعِ .. من جَنوبٍ كان الرحيلُ يومًا .. باردًا يومًا .. لكن لهيبًا ما يلفحُ وَجهي ، و شتاتٌ مُبعثَرٌ مِني تعبثُ بِهِ رياحٌ شتى ، تقفُ أُمي عند عتبةِ البابِ و بيدها إناءُ ماءٍ لِتَصبه ورائي حتى أعودَ إليها ، و في عَيْنَيْها بريقُ ماءٍ آخر .. لَم تَقُل شيئًا لكن تمتمات تصدرُ مُبهمةً عن شَفَتَيْها ، خمنت أنها أدعيةٌ بالحفظِ و العودةِ .. أخي الصغير واقفٌ حذوها بقميصهِ المتهدلِ و إصبعه تعبثُ بِأنفِهِ ، ينظرُ بغرابةٍ إلينا ، فهو لا يَعلم بعدُ معنى الرحيلِ .. مِنَ النافذةِ الخشبية الزرقاء تُطل أختي و هي تُلقي بين الحين و الآخر بنظراتٍ جزعةٍ إلى داخلِ الغرفة ، هنالك أبي على فراشٍ سقيمًا ، مرضٌ داهمَه فلازَمَهُ فأقعَدَهُ .. تحسَّنت حالُه قبلَ يومين فأخبرتُه بموعدِ الرحيل ، لَم يقُل شيئًا لكني أحسستُ في صمتهِ الرهيبِ توسلا بالبقاءِ .. و مِن عَينَيْهِ اللتين تهدَّلت عليهما الأجفان صَرَخَ استجداءٌ مزلزلٌُ بعَدَمِ الرحيلِ .. و لكن أنّى لي ذلكَ و لَم أبلُغ فرصة َ السفرِ هَذِهِ إلا بعناءٍ قد لا أستطيعُه ثانيةً.. كذلك الحصولُ على تأشيرةِ سفرٍ إلى البلاد التي أقصدُ ليس متيسرًا دومًا .. و يتَعَثَّرُ تدفق الدم عَبرَ الشرايين فأدركُ أن اِنخِسافَ الأرضِ بمَن عليها ليس دائمًا أشدَّ المَصائِبِ .. ارتفع صوتُ مُحَرِّكِ السيارةِ المتوقفةِ أمامَ البيت ، فقد ضغطَ السائقُ على دَواسةِ البنزين لِيَستَحِثَّني ، بابُ العربةِ مفتوحٌ يطلُبُني إلى حياةٍ جديدةٍ .. حياة رسمَتها أحلامٌ و أوهامٌ .. هنالك بعيدًا خلفَ سفرٍ طويلٍ إلى أرضِ الوُجوهِ الشقراء و المالِ الوفير و المباهجِ .. ينفتحُ بهدوءٍ بابُ منزلٍ مُجاورٍ تخرجُ مِنه فتاةٌ اتفقَت عائلتان يومًا على تزويجي مِنها فهي ابنةُ خالي .. لم تَكُن الفتاةُ قبيحةً حتى أرفضَها زوجةً بل على النقيض مِن ذلك كانت من ذوات الحُسنِ خاصةً مَعَ ابتسامةٍ ساذجةٍ تُذكِّرني كثيرًا بابتسامةِ أبيها الطيبِ .. لكني كُنتُ أرفُضُ ذلكَ الارتباطَ الذي يَشُدُّني إلى حياةِ البُؤس هنا، تمسَحُ أمي أنفَها بِطَرَفِ ردائِها و أَلحَظُ غيابَ أختي عن النافذةِ . يُصبِحُ التقاطُ الهواءِ إلى صدري عمليةً أكثرَ صعوبةً ، تذَكَّرتُ كلامَ أبي الكثير عن كَوني رجلَ الدارِ بعدَه فكنت أُجيبُه بأن أدعوَ له بطولِ العُمرِ فيُجيبُني : يَطولُ العُمرُ أو يَقصُر فلابد للإنسانِ أن يُقبَر .. تداخَلَت الصورُ أمامي مِن صبيٍّ أسمرَ يَلهو عند مَشارِف الصحراء إلى شُقرِ الوجوهِ في بِلادٍ ثلجيةٍ و اختلطت الألوانُ في مزيجٍ غريبٍ ، أفقدُ كلامًا كثيرًا كان مِنَ المُمكِنِ قوله في هذا المقامِ ، فلا أجِد ما أقول فأصمتُ، لم يَكُن للحظةِ و لا للزمنِ غير معنى واحدٍ مُختَلفٍ لا يعرِفُهُ الساعاتِِيّون .. و أخشى انفجارًا بداخلي فأُلقي حَقيبَتي الصغيرة على المقعدِ الخَلفي و أهُمُّ بإلقاءِ نفسي داخلَ السيارةِ و لَكن.. يسقُطُ إناءُ ماءِ على الأرض فقد كان ولدي الصغيرُ قد أوقع قدحًا من يَدَيْهِ .. تمامًا مثلما سَقَطَ إناءُ الماءِ من يَدَيْ أمي يومَها عندما ارتفَعَ صوتُ أختي مِن النافذةِ الخشبيةِ الزرقاء بصيحةٍ مجروحَةٍ تُعلِنُ وقوعَ الفادحةِ .. تنحني زوجتي تُلَمْلِمُ شظايا القَدَحِ و تبتَسِمُ بطيبةٍ ساذجةٍ تُذَكِّرُني بخالي الطيب. فيصل الزوايدي |