01-02-2013, 10:26 AM
|
|
1 -1- غرقت معالم الغرفة بالظلام ، الجو الغائم هذه الليلة جعل رؤية أي شيء خارج النافذة مستحيلا. كانت تمطر أيضا ، و لا شيء إلى جانب ومضات البرق السريعة التي تشق السماء الداكنة كان يساعد ذلك المصباح المكتبي الصغير على إنارة المكان. بدا جسده جزءا من ذلك الظلام الذي يلفه ، و بثيابه السوداء كان لا يختلف كثيرا عن ظله الطويل الممتد على الجدار ، يتمايل مع كل حركة يبديها و يعكسها على نحو مبالغ فيه. وجهه فقط كان واضحا إلى حد كاف لتبين ملامحه ، انحناءت وجهه المتناسقة و أنفه المستقيم رسموا صورة ظل رائعة على الحائط بجانبه ، عيونه الزرقاء المنهكة كانت تلتمع بسبب انحناءه فوق الطاولة المكتبية قريبا من المصباح، و إن بدت رزقتها الغنية داكنة و ضبابية الآن ، ارتفع فوق حاجبيه المثاليين شعر حالك السواد تتلوى خصله الحريرية حول وجهه. لا تعبير مرتسم على ذلك الوجه الوسيم ، ليس بالأمر الغريب عنه. لم تكن هذه إحدى أفضل اللحظات بالنسبة لـ"زين سوينر" ، إنه الوقت حيث خطط للبدء بتلك الطقوس الخاصة به ، يحاول فيها التغلغل عميقا في ذاكرته ، و تجاوز تلك الأسوار المنيعة التي أقيمت دون أن يعرف كيف أو لماذا حول ذكريات العام الضائع من حياته ، ذلك العام الذي قضاه في المجهول و لا يذكر عنه تفصيلا واحدا ، العام الذي يعده السبب في اختلافه عن الناس من حوله ! و كما اكتشف زين مؤخرا فإن جلوسه على هذا النحو محاطا بالظلام و السكون يغلفه ، قد ساعد ذهنه على استحضار لمحات صغيرة من ذكريات تلك السنة الغامضة ، اسم شارع غريب .. عنوان على شاخصة .. اسم شخص غير واضح الملامح ، ذلك كان كل ما استطاع التوصل اليه حتى الآن. لكنه كان عازما على الاستمرار في المحاولة ، كان عليه أن يمسك بقلم كما يفعل الآن كي لا يفوته تدوين أي تفصيل صغير قد يقفز إلى ذهنه ، كما و كان عليه أيضا التركيز في آخر ذكرى لديه عن يوم اختفاءه. ذهنه الغريب يذكر تفاصيل ذلك اليوم حتى نقطة بعينها ، كان ذلك قبل أربع سنوات ، و كان صغيرا آنذاك ، ارتفعت الحرارة أكثر من المعتاد في ذلك النهار الصيفي ، و عدا ذلك كان يوما عاديا تماما ، يذكر انه خرج من البيت قاصدا الشاطئ القريب ليسبح كما كانت عادته ، كان يسير قاطعا المسافة القصيرة نحو البحر و بعدها .... لا شيء ، تتوقف الصورة في عقله هنا ، لا يستطيع تذكر شيء بعدها مهما عصر دماغه في المحاولة. إن الشيء التالي الذي يذكره هو استيقاظه في سريره في غرفته ، على صياح أمه و بكائها وهي تحتضنه بفرحة و عدم تصديق دون أن يستوعب هو أي شيء ! لقد قالت انه ظل مختفيا طيلة عام كامل و كانت مفاجأته كبيرة حين تيقن من صحة ذلك. كان الأمر الأشد غرابة حتى من ظهوره المفاجئ ذاك هو جهله لمكانه خلال تلك الفترة ، بل عدم تذكره لأي تفصيل مهما كان صغيرا. كان ذلك كفيلا بإصابة أي إنسان بارتباك و حيرة جنونيين. لم يكن أي من الأطباء الذين عرض عليهم ذوي عون حقيقي ! و الآن و بعد مضي سنوات على تلك الحادثة و تجاهله لها ، قرر زين اكتشاف لغز الماضي ذاك ، مدفوعا برغبته لمعرفة سر اختلافه عن الناس من حوله ، عل ذلك يمنحه إجابة شافية أو حلا لمشكلته الغريبة. لكن فقط الآن و الرعد يقصف بقوة بينما ومضات البرق التي تلتمع من النافذة القريبة تعكس ظلالا مهيبة على وجهه ، بدا الوقت مثاليا لنوبة أخرى من _مشكلته الغريبة_ ! صوت زخات المطر و هي ترتطم بنافذة غرفته كان الصوت الوحيد الحقيقي في المنزل الفارغ ، إلى جانب دقات قلبه التي بدأت تخفق على نحو غير منتظم ، لكنه أيضا بدأ يسمع هسهسة لا وجود لها قادمة من بعيد ، و ها هي الأصوات الشبيهة بمزيج من الهمسات و هدير عجيب لا يمكن للمرء تبينه ترتفع في أذنيه و تغدو أوضح فأوضح (لقد بدأت تلك النوبة اللعينة !) أدرك "زين" بيأس و يده اليسرى ترتفع سريعا إلى رأسه متخللة شعره الكثيف ضاغطة عليه بقوة ، بينما يده الأخرى التي كانت تمسك القلم قد صنعت ثقبا في الورق أمامه. كان قد خطط _عالما أن لا جدوى من ذلك_ باشغال نفسه و ارهاقها طوال اليوم سواء في كتبه و واجباته المدرسية أو في نشاطات جسدية شاقة كالجري و السباحة ، عل التعب يمنع هذا الإحساس المخيف من الزحف اليه من جديد ، فذلك كان آخر ما يريده في جلسة استعادة الذكريات الضائعة هذه ، لكن هيهات ! (سحقا .. كلا !) هتف من جديد و تلك الأصوات تملأ أذنيه صاخبة مرتفعة و كأنها صادرة من هذه الغرفة الصغيرة الخالية الا منه. كانت واضحة جدا و لو لم تكن أشبه بحديث عشرات الاشخاص في الوقت ذاته لكان بوسعه تبين الكلمات التي بدت كلغة لم يسمع بها هذا العالم ! لكن الإحساس المرافق لهذه الحالة التي يمر بها الآن قد بدأ و هو الأسوأ. فراغ .. هوة .. ثقب عظيم كامن بصدره يحاول ابتلاعه ، و شيء ما مدفون عميقا في قاع تلك الهوة يتحرك محاولا الخروج ، يحاول أن يطفو إلى السطح مطالبا بمكانه لملء ذلك الفراغ ، و كلما تحرك تناضل تلك الهوة بقوة عظيمة لابقائه حبيسا في قعرها .... صراع عجيب غامض الأطراف يدور في داخله ، يتركه مشتتا ضائعا في شعور بغيض أليم .... سيجن ! قبضت يد زين اليسرى على صدره هذه المرة لتضغط بقوة و كأنه يدفعها لأن تصل عميقا في صدره حيث ينبع هذا الإحساس الخانق لينتزعه خارجا. زفر زين و أسند جبهته بطاولة الكتابة التي يجلس أمامها دون أن يعي يده الممسكة بالقلم التي استمرت ترسم خطوطا عشوائية على الورقة البيضاء و على سطح الطاولة حولها أيضا. ظل على هذه الحال لفترة ، إنفرجت شفتاه و راح يتنفس بشكل مضطرب ، لايزال يسمع تلك الأصوات الهامسة و التي بدأ يميز فيها رنة عذاب من نوع ما ، إنها تبدو كأنين مستنزف من أرواح ما لكنها لا تشبه أي صوت بشري ... يا للبؤس و العذاب الذين تحدثهما تلك الأصوات ! مضى شهران و هو على هذه الحالة ، هو ليس مجنونا لكنه لا يعرف ما الذي يصيبه ؟ فلطالما كان بخير لا يشكو من شيء ، و مؤخرا فقط بدأت هذه النوبات الجنونية ، كانت تباغته مرة كل يومين أو ثلاث ، لكن المدة الزمنية الفاصلة بينها راحت تتقلص حتى أصبحت تنتابه أكثر من مرة في اليوم الواحد. فكر زين كثيرا خلال الشهرين الماضيين انه بدأ يفقد صوابه ، خاصة فيما يتعلق بالأصوات ، فسماع ما لا وجود له ليس مؤشرا جيدا أبدا ! لكن الإحساس بذلك الصراع الدائر داخله لا يمكن أن يكون وهما ، انه حقيقي جدا ، و قوي جدا و لم يعرف زين إذا ما كان مؤلما أيضا ألما جسديا ، لكنه كان شيئا قاسيا ممزقا و لو كان الصراخ أو التوسل لإيقاف هذا العذاب مفيدا لكان يصرخ و يتوسل الآن ، لكنه لم ينطق حرفا أو يصدر أي صوت فقد كان يعرف أن ذلك سيكون دون جدوى. ما كان زين قادرا على إخبار أحد عن ما يعاني منه ، فلطالما كان تواصله مع محيطه منعدما لسبب ما ، ناهيك عن عدم اكتراثه بهذا الوضع رغم صعوبته ، لم يكن مهتما في هذه اللحظة سوى في فك اللغز المحيط بغموض حياته و شخصيته ! كان إنسانا استثنائيا لا شيء في هذه الحياة يثير اهتمامه ، بل لا شيء يمكن أن يجعله يتفاعل معه كما الشخص العادي قد يفعل ، هو ليس شخصا عاديا .. هذه الحقيقة كانت تتضح في عينيه أكثر فأكثر حتى صار موقنا من صحة الأمر !خف ذلك العذاب الغامض شيئا فشيئا ، و بدأ زين يتنفس براحة و هو يحرك أصابع قبضته التي تيبست فوق صدره ، ثم رفع رأسه عن الطاولة ليتراجع و يسنده بظهر مقعده ، عادت يده إلى جانبه تاركة تجعيدة كبيرة على قميصه حيث كانت تقبض. لقد مرت ماذا ؟ عشرون دقيقة .. نصف ساعة و هو بهذه الحال ، لكنها بدت كدهر كامل. بدا وجهه الأبيض الوسيم شاحبا شحوب يكاد يوازي شحوب الموتى ، عب الهواء ملء رئتيه ثم راح يزفره ببطء. مما لا شك فيه أن تلك النوبات تصبح أشد عنفا في كل مرة ، و الراحة التي تعقبها رغم كل شيء تبقى غير كاملة ، فما تحرك داخله لايزال يهدر و يموج على نحو اهدأ فحسب ، اما الأصوات فقد تلاشت تماما ! أطلق زين تنهيدة عميقة و فكر لو أنه كان إنسانا عاديا لما تجاهل هذا الأمر أكثر من ذلك ، ففي أفضل الحالات قد تكون هذه بداية لمرض مقلق من نوع ما كما تشير اعراضه الشديدة ، لكن إحساسه تجاه تلك الأفكار القلقة منعدم تماما ، كحال أي أحاسيس قد تنتاب شخصا آخر في محله .. حدسه ينبئه بأن الأمر أكبر من ذلك بكثير ، ثم هناك هذا ... هذا الشيء الغامض الذي لا يستطيع وصفه ، هذه القوة القسرية التي تدفعه للابتعاد عن الآخرين ، أنها أيضا تمنعه من تجربة أي شعور طبيعي لفتى مثله ! فهو لا يعرف الغضب .. الحزن .. الفرح .. الخوف .. المرح و المتعة أو أي حالة شعورية يحس بها الإنسان ! حسنا .. هو كلما تعمق في الأمر اكتشف كم هو بعيد عن الإنسانية ، أقرب إلى الرجل الآلي ! اعتدل زين في جلسته فوقع بصره على الخطوط التي رسمها قلمه على الورق و على سطح الطاولة ، اتسعت عيناه بصدمة فتلك الخطوط كانت تشكل عبارتين واضحتين تتكرران مرارا ، و رغم خطه المشوه إلا انه كان بالإمكان قراءة "ساعدنا" و "نحن نموت" التي ملأت الورقة و سطح الطاولة بأحجام مختلفة ! بقي زين يتأمل تلك الكتابة و شعوره بعدم الارتياح يتصاعد ، إنه لا يذكر أنه كتب هذا ، لم يكن واعيا لذلك ، لكن هاتين العبارتين ... هاتين العبارتين ... نظر من جديد إلى الطاولة و إلى التكرار الملح : "ساعدنا" "نحن نموت" ، "ساعدنا" "نحن نموت" ،"ساعدنا" "نحن نموت" ! لماذا يشعر هكذا ؟! لماذا لديه هذا الإحساس بأن لهذه الكلمات علاقة بتلك الأصوات التي يسمعها ؟! أهي رسالة استنجاد فعلا ؟! و لماذا يهمه ذلك ؟! لماذا الآن عندما كون نظريات يسد بها ثغرات الغموض في حياته ؟! ألم يتوصل بعد زمن من التفكير و المراقبة إلى كونه فاقد للمشاعر و الانفعالات ؟ كي تأتي بعدها هذه النوبات الغريبة لتخالف كل تخميناته السابقة ! هو لم يعد يفهم شيئا ، هذا التيه الذي هو فيه ، إنه أسوأ عذاب ممكن ... سيختنق ! قلب زين الأوراق ليغطي تلك الاحرف التي تنادي عليه ، ثم نهض و تحرك نحو النافذة ، لينظر من خلف زجاجها إلى منازل الحي التي طمس الظلام معالمها ، كانت تمطر بشدة و الوقت متأخر ، لكنه شعر برغبة عارمة في الخروج عله يتخلص من شعور الاختناق هذا ! انعقد حاجباه و التقط معطفه الداكن الثقيل تنفيذا لرغبته ، الجو كان باردا و فصل الشتاء على وشك البدء ، لكن أيا من ذلك لم يهم زين الذي غادر الغرفة عازما التنزه تحت المطر الغزير *يتبعـ .. الرجــأء عدم الرد .. |
__________________ افتَقِدُني
music4 |