تقدمت لايزا من زين بخطوات مرتبكة ، كانت غاضبة لأنها وضعت نفسها في موقف كهذا ، لأنها كانت تطارد شابا غريبا لسبب خارج عن إرادتها ، و لأنها لا تستطيع أن تكون على سجيتها حين يتعلق الأمر بهذا الشاب.
(عليك .. أن لا تكون هنا.)
خاطبته محاولة إخفاء إحراجها قدر الإمكان و التحدث بصوت طبيعي ، كان هذا ناجحا إلى أن رفعت رأسها لتنظر في وجهه الوسيم و تسمع جوابه ، لقد تشتتت كل أفكارها لحظة اصطدامها بتلك العيون الزرقاء الجذابة .. كانت عيناه مثقلة بهم كبير .. باردة و خالية من الحياة على نحو عجيب ، و مع هذا تملك سحرا غامضا عظيم التأثير !
ظلت تغرق في ذلك البحر اللازوردي لعينيه و أنفاسها تضطرب ، حتى إنتشلها من حالة اللاوعي تلك قائلا بصوت واضح على الرغم من خفوته :
(عما تتحدثين ؟!)
(هاه !)
قالت لايزا و هي ترمش ، لكنها استعادت انتباهها سريعا و همت بإجابته حين وقع بصرها على الشيء الذي تحرك خلفه فابتلعت كلماتها !
جسم أسود كبير تزامنت رؤيتها له مع زعيق رهيب صدر منه .. فاتسعت عيناها مذعورتين !
إلتفت زين خلفه و فوجئ بكائن أسود ينقض عليهما من الأعلى ، امتدت ذراعه بحركة تلقائية سريعة لتطوق لايزا و لينخفضا معا جاثمين على الأرض ، تجنبا لهجوم الكائن الذي تبينا من خلال خفقات جناحيه وهي تمر من فوق رأسيهما انه نوع من الطيور الكبيرة ، الكبيرة جدا !
رفع زين رأسه و رأى الطائر الأسود المنعدم التفاصيل في الأعلى يضرب الهواء بجناحيه و يدور في دوائر. أطلق زعقة مدوية أخرى تردد صداها في أرجاء الغابة كلها و اندفع ينقض عليهما ثانية ، أخفض زين رأسه مجددا و تحرك ليغطي لايزا المرتعبة بجسده مدفوعا برغبة غريبة لحمايتها.
ارتفع الطائر الضخم من جديد و قد لامس هذه المرة شعرات من رأس زين ، أثار انقضاضه السريع الهواء من حولهما فتطاير شعرهما ثائرا و رفرفت ملابسهما ، يالضخامة جناحيه ! انتفضت لايزا تهتف وهي تتعلق به :
(يا إلهي .. يا إلهي ما هذا ؟!)
بدا الطائر العملاق الغير واضح المعالم مخيفا بسواده الشديد وهو يحلق في هذه الفسحة الدائرية التي تطل من خلالها السماء و قد بدأت تظلم شيئا فشيئا ، لم يفهم زين من أين جاء هذا الشيء فجأة.
(لنهرب !)
هتفت لايزا بذعر فالتفت إليها ، كان مايزال يحتضنها بذراعه ، رأسها على صدره مرفوع لأعلى ، عيونها الواسعة الخضراء غدت أكثر اتساعا حتى و هي تتابع حركة الطائر الضخم ، النظر إليها جعل أفكار _لا علاقة لها بالموقف الذي هو فيه_ تقفز إلى رأسه الغير طبيعي ، جميلة هذه الفتاة ... بل إنها تبدو أكثر جمالا وهو يراها من هذا القرب و إن كان ذلك تحت هذا الضوء الخافت ، توقفت عيناه الحائمتان في ملامحها البريئة عند شفتيها الناعمتين و المثاليتين ... و دون أن يدري لماذا ، شعر بحلقه يجف !
ماذا الآن ؟! ما الذي يصيبه في وقت كهذا ؟!
(انظر علينا .. علينا حقا أن نغادر هذا المكان !)
عادت لايزا تحدثه ، فأومأ برأسه ببطء ، وهو يرقب أي حركة ستصدر من الطائر الضخم العجيب اعتدل واقفا ففعلت مثله بتردد و دون أن تبتعد عنه. أصدر الطائر زعيقا آخر قبل أن يندفع نحوهما من جديد ، صاحت لايزا بذعر :
(لنجري !)
و أتبعت صيحتها بالفعل فسحبته من ذراعه و بدآ يركضان بين الأشجار عائدين إلى الشاطئ عبر الطريق الذي أصبح أكثر ظلمة ، كان الطائر الأسود المخيف في إثرهما و خفقات جناحيه الضخمين تملأ المكان صخبا فتجعلهما يبذلان جهدا أكبر ليسرعا.
أبطأ زين من سرعته عندما أصبحا بعيدين عن الغابة مسافة كافية ، لقد اقتربا كثيرا من الطريق الذي يفصل الشاطئ عن منازل حييهم ، سحب زين ذراعه من يدها بلطف ليمسك بكفها :
(اهدئي ..)
استجابت لايزا إلى صوته الخافت و لمسته اللطيفة سريعا فتوقفت وهي تلهث ، نظرت خلفهما ثم إلى السماء دون أن تجد أثرا لذلك الطائر.
(أين اختفى ؟!)
همست لايزا بتوتر وهي تلتفت حولها ، ثم أخذت نفسا عميقا لتهدأ و التفتت إلى زين ، كان أطول منها بمقدار الكتف و توجب عليها رفع رأسها لتستطيع النظر في وجهه الوسيم ، شعرت بشيء من الارتياح و هي ترى وجهه كما العادة خالي من التعابير.
(لا أعلم .. لقد بقي في الغابة ... كما أظن !)
أجابها زين بصوته الخافت ، ما كان أمر الطائر يشغله فعلا لكنه سأل :
(ماذا كان ذلك ؟)
(لا أعرف .. أعني هل رأيت حجمه ؟! لقد كان مرعبا.)
قالت لايزا بعفوية و تلونت عبارتها الأخيرة بنبرة ذهول و هي تتذكره ، لكنها هتفت فجأة :
(أنت لم تكن خائفا أو متفاجئا !)
قالتها وهي ترمقه بإبتسامة متعجبة لكن مسرورة ، و كأنها تحققت الآن فقط من معلومة غاية في الأهمية.غادرتها آخر ذرة خوف و هي تنظر في وجهه و عيناها الخضراوان تفضحان اهتمام صاحبتها العظيم.
غير معقولة .. تلك الخفة التي يشعر بها حين ينظر في عيني هذه الفتاة ، هز زين رأسه و قال بصوته الخافت :
(لم يكن سوى طائر !)
ما كان زين راغبا في شرح كيف أنه لا يعرف شيئا عن الخوف أو أيا ما كانت تلك المشاعر الإنسانية التي قد يشعر بها المرء ، لكن ... ألا يعرف فعلا ؟! ألا يعيشها الآن ؟!
شعر بذلك الدفء الذي يشع من هذه الفتاة يتسرب إلى أعماقه .. ذلك فقط لأنه يمسك بيدها الصغيرة الناعمة بين أنامله ، إنه مجنون فعلا !
كاد ينسى ما الذي أراد قوله وهو يتأمل ملامحها الخجلة و يقرأ في عينيها الواسعتين الجميلتين ذلك الإهتمام الدافئ الموجه نحوه ، مزيد من الجنون !
ترك زين يدها بهدوء ليسأل :
(قبل أن يظهر ذلك الطائر كنت تقولين أن .. )
قاطعته :
(لم يكن طائرا فحسب ... أعني ما من طائر بهذا الحجم ، أنت رأيته !)
(إنها غابة و تحوي الكثير من الحيوانات لذا فالمهم هو ..)
(و لكن .. جناحاه فقط كانا بطول ثلاث أو أربع أقدام ، إنه مخلوق ضخم و ليس مجرد حيوان عادي !)
(ما المغزى من هذا ؟)
(أنت تستمر بالتحدث كما لو أنه مجرد حمامة صغيرة ، لقد جعلني أرتعب و أنا لا أرتعب من حمامة صغيرة !)
عقد زين حاجبيه وهو يرمقها ، بدا هذا سخيفا ، لكن كان بوسعه رؤية أن للايزا طريقتها في تقرير الأمور.
تنهد زين قائلا :
(لقد كان طائرا متوحشا ضخما و عملاقا .. هل هذا أفضل ؟!)
نظرت لايزا اليه للحظة متحيرة فيما قال ، كلماته كانت ساخرة لكن صوته الخافت و تعبير وجهه الجامد أظهراه جادا. ثم قررت أن كلماته هي ما يهم فعلا فزمت شفتيها و هتفت بتحدي :
(بالطبع .. الدقة أفضل بكثير !)
مال زين برأسه جانبا و قال :
(جيد .. إذا هلا أخبرتني الآن لماذا كنت تلحقين بي طوال اليوم ؟)
اتسعت عينا لايزا و هتفت بارتباك و قد احمر وجهها :
(أنا .. لقد .. أنت لن تفهم !)
(ربما .. حاولي فقط !)
ترددت لايزا ، ثم تنهدت باستسلام قائلة :
(إنها جدتي !)
ارتفع أحد حاجبي زين وهو يردد :
(جدتك ؟!)
اندفعت لايزا تقول بشيء من الانزعاج ملوحة بيدها :
(لقد طلبت مني مراقبتك و أن أمنعك من الذهاب إلى الغابة لأن خطرا كبيرا ينتظرك هناك ، أنت لا تعرفها .. إن ما تقوله يكون حقيقيا دائما !)
هي صادقة ! .. كان بوسعه أن يعرف ذلك من خلال نظرته الخبيرة لكنها تخفي شيئا أيضا ، تمتم متسائلا بهدوء :
(غريب و لكني ما كنت لأذهب إلى الغابة لو لم أشعر أن شخصا يتبعني ؟!)
أطرقت لايزا بوجهها دون أن تجيب فقال زين :
(كما و لا أظن أن ذلك الطائر شكل تهديدا على حياتي.)
(كان بوسعه قضم رأسك ... أليس هذا تهديدا كافيا !)
(صحيح و أنت ..)
بأطراف أنامله و بلطف رفع ذقنها المنخفض ليستطيع النظر في تلك العيون الخضراء الدافئة من جديد ، غير مبالي بالدهشة التي علت وجهها من حركته ، قال :
(و أنت نفذتي تماما ما طلب منك و قمتي بحمايتي بشكل رائع هناك !)
(ليس .. ليس هذا ما عنيته !)
اضطربت لايزا و راقب كيف توردت وجنتاها بحمرة زادتها جمالا ، لقد تأكد من النظر في عينيها أنها تخفي نصف الحقيقة ، و هذا النصف الباقي من الحقيقة ما يجب عليه أن يعرفه ، فهذا الأمر متعلق به ، و هو ما عاد قادرا على تحمل المزيد من الألغاز حوله ، في الوقت الذي سيجن فيه للحصول على إجابة واحدة تخفف من حدة هذا الشتات الذي هو فيه.
أخذت لايزا خطوة للوراء و تحررت من دوامة المشاعر التي سببتها لها لمسته البسيطة ، قالت و ارتباكها الخجل لم يغادرها :
(أنا .. سأعود إلى المنزل الآن فقد تأخر الوقت !)
تمتم زين و هو يدس يديه في جيوبه و حاجباه معقودان بشدة :
(ليس قبل أن تشرحي لي بعض الأشياء ، مثلا .. كيف تعلم جدتك عن وجود خطر يتقصدني في هذه الغابة و تقرر أن ذلك سيحدث اليوم بالذات ؟ و ما معنى علمها بهذا الأمر ؟ لقد لاحظت أنك و رغم خوفك هناك إلا أنك لم تكوني متفاجئة ، فهل لهذا علاقة بما أخبرتك به جدتك و تصرين على إخفائه ؟!)
ظلت لايزا تنظر اليه بإرتباك متردد للحظات ، لكنها عقدت حاجبيها فجأة و بدت حازمة واثقة و هي تقول :
(آسفة .. أنا لا أستطيع إجابتك فلست أملك الحق في ذلك ، لكنك ستريد الأخذ بتحذير الجدة "مارغريت" و الانتباه لنفسك !)
(لماذا يصر الجميع على ترديد كلمات مبهمة و يتبعونها بعبارة "انتبه لنفسك" ؟ بحق الجحيم ما الذي علي أن انتبه منه ؟! ثم من يكون هذا الذي يملك الحق بالإحتفاظ بإجابات تخصني و جعل الآخرين يخفونها عني ؟!)
هتف زين بنفاذ صبر ، و لما لم يجد عند لايزا _التي عضت على شفتها السفلى مشيحة بوجهها_ أي استعداد للإجابة استدار بجسده جهة البحر و هو يصر على أسنانه راغبا بالإنفجار غضبا دون أن يستطيع !
(أنا آسفة !)
همست لايزا بحزن ، لم يلتفت أو يجبها ، و بقي واقفا بكدر شديد يسمع وقع خطواتها الخفيف و هي تبتعد ...
¤ ¤ ¤