01-04-2013, 10:04 AM
|
|
6 -6-
أغلق زين إحدى عينيه بقوة و ضغط على أسنانه محاولا إخفاء الآلام الفظيعة التي تجتاح صدره ، بينما يجلس في الفصل و يخفض رأسه بهدوء ، يسمع تلك الأنات الصارخة بعذابها من بعيد ، و صوت أستاذه الذي يشرح الدرس بنغمة مرتفعة يسبب الألم لأذنيه ، حتى همس زملائه و وقع أقدام من هم في الخارج ... ما عاد بوسعه الإحتمال أكثر !
إن هذه النوبات تزداد سوءا ، فألمها لم يعد فقط ذلك الألم الروحي ، إن جسده يعاني أيضا و لا يعرف إلى متى يستطيع الصمود.
تأوه وهو يغطي أذنيه بكفيه حين ارتفع الجرس معلنا نهاية الدرس و مسببا ألما رهيبا لأذنيه ، لم ينتبه له أحد وسط ذلك الصخب الذي تلى رنين الجرس فالآن وقت استراحة الغداء.
رباه .. كم يكره هذا التضخم في الأصوات الذي يعاني منه ، إنه يجعل أذنيه حساستين تكادان تنفجران لأي صوت !
أطلق زفرة حارة وهو يريح رأسه فوق ذراعيه المعقودتين فوق الطاولة ، لقد بدأ الألم ينحسر و سرعان ما سيشعر بالتحسن الآن لكن عليه إيجاد حل لما يعاني منه. الإجابة و الحل سيكونان لديها بالتأكيد و لا مزيد من الانتظار ... مدفوعا بهذه الفكرة حاسما أمره ، تحرك زين بإنهاك و خرج من الفصل ، تجول في ممرات المدرسة باحثا عنها ،
و توقف أخيرا ليسند جسده المتعب على حائط الممر حين وجدها.
كانت لايزا تقف برفقة فتاتين أمام واحد من الصفوف ، و بيد إحداهن مجلة خمن أنها موضوع هذا الحديث الشائق الدائر بينهن.
كانت لايزا تهز رأسها وهي تتحدث بحماس فتترنح خصلتا شعرها العسلي على جانبي وجهها ، كم تبدو جميلة و مشرقة اليوم بذلك اللون الكرزي الذي ترتديه !
لا يدري لما شعر أن كل خلية في جسده راحت تتفاعل مع ضحكتها الصافية !
هز زين رأسه نافضا عنه هذه الأفكار ، و عقد ساعديه أمام صدره ينتظر أن يتحركن للأمام فتراه لايزا.
لكنهن بقين مجتمعات على شكل دائرة و انتباههن منصب فقط على حديثهن الذي استمر لدقيقة .. اثنتان .. خمسة .. سبعة دقائق ، ما كان يملك القدرة على الصبر هذا اليوم فتحرك هو نحوهن.
(لايزا ... )
نادى ما إن أصبح على بعد متر واحد منها و وقف مواجها إياها ، التفتت لايزا إليه.
(نعم .. ؟!)
قالت بإستغراب بريء فضيق عينيه بإنزعاج ، إنها تعلم أنه يريد مخاطبتها الآن لكنها تدعي الإندهاش كما لو أنها تراه للمرة الأولى ، قال :
(أريد التحدث إليكي في أمر.)
ارتفع حاجبا لايزا و قالت :
(آه .. أنا آسفة و لكني كنت على وشك ..)
لم يدعها تكمل عذرها الضعيف أيا كان :
(لن آخذ الكثير من وقتك ، إن الأمر هام جدا.)
هزت لايزا رأسها و تمتمت _غير راضية_ بالموافقة ، لم يعجبه كيف رمقته الفتاتان بتعجب و استنكار ، لكنهما على الأقل اعتذرتا و انصرفتا ليتركاهما يتحدثان على إنفراد.
سأل زين بصوته الخافت ما إن ابتعدت الفتاتان :
(ماذا الآن ؟ لماذا تتجنبينني ؟)
(لأنك ستطرح أسئلة لن أستطيع الإجابة عليها !)
قالت لايزا ببساطة و سره إلى حد ما توقفها عن تمثيلها السيئ للبرود ، قال :
(لن تريدي الإجابة عليها .. أنت تعنين !)
(و هل هنالك فرق حقا ؟)
(انظري في وجهي !)
طالبها زين فجأة بينما كانت تشيح بعينيها إلى أسفل بعيدا عنه ... ليس هذا ما أراد قوله !
هزت لايزا رأسها دون أن ترفعه و دون أن تجيب.
لم ترد التعرض لتأثير تلك العيون الزرقاء الغامضة رغم شوقها إليها ،
و لم ترد رؤية ملامحه الوسيمة _التي ظلت تطاردها طيلة الأيام الماضية_ بقدر ما تاقت لذلك !
كانت تشعر بنبضات قلبها تدوي لمجرد وقوفها أمامه ، مزيج لم تألفه من المشاعر يجتاحها كلما كانت بقربه ،
و هي لم ترد أن يكتشف هذا الضعف بنظرة من عينيه التين تخترقان روحها !
(لايزا ...)
ناداها بصوته المنخفض الجذاب ثم اقترب خطوتين واسعتين ، جمدت في مكانها ...
ما عادت قادرة على السيطرة على نبضات قلبها الثائرة بعنف ،
و تماما مثل تلك المرة عند الشاطئ لامست أنامله ذقنها ترفعه بلطف لتلتقي عيناها بعينيه ،
عينيه ... حتى و هما تبدوان منهكتين خاليتين من التعبير تملكان بريقا غامضا بين زرقتهما الغنية ، بريقا آسرا لا مثيل له !
وقفته هكذا .. قريبا منها بقامته الطويلة بينما ينحني لينظر في وجهها بتأمل أربكها ، جعلتها تنسى الكلمات و لا تملك سوى الغرق باستسلام في ذلك البحر العميق لعينيه !
كان شعره الناعم الذي يصل حتى عنقه مشعثا قليلا ، بينما يضيق عينيه بنظرة ثاقبة ،
انقبض قلبها و أصبح التنفس صعبا ... إلهي كم هو وسيم !
انفرجت شفتاه و هم بقول شيء ما ، لكن قاطعته شهقة دهشة
جعلت كلاهما يلتفتان إلى الفتاة المذهولة _و المحرجة من عدم قدرتها على كبح دهشتها_ التي وقفت أمام باب الفصل و راحت تنقل بصرها بينهما و كأنها تشهد تساقط الثلوج صيفا في الصحراء !
لم يفهم زين ما يجري حوله حتى التفت ليرى عددا من الطلاب متفرقين عند طرفي الممر يتابعون ما يحدث بينهما بقدر كبير من الفضول و عدم التصديق !
احمر وجه لايزا و انكمشت مبتعدة عنه حين أدركت كيف يبدو لهم الأمر !
ما كان ذلك مشهدا غير مألوف في الثانوية ، فهنا قد يرى شاب و فتاة في زاوية ما يقبلان بعضهما البعض ،
لكن كون زين سوينر _الغامض الجذاب الذي لا يخاطب أحدا و لا يكاد يرى أحدا_ جزءا من هذه المعادلة ، هو ما جعله أمرا مدهشا غير قابل للتصديق !
(لنذهب إلى مكان أكثر .. انفرادا !)
اقترح زين بهدوء معتدلا في وقفته ، ما كان يبالي حقا في من حوله أو ما قد يفكرون به ، لكنه علم أن حديثهما سيكون مستحيلا تحت هذه الأنظار ، قال :
(هيا بنا !)
سار أمامها دون أن ينتظر جوابا ما جعل لايزا تعقد حاجبيها و وجهها يحمر غضبا و خجلا ،
تبعته حتى آخر الممر و هي ممتنة لكون الطلاب قد عادوا للإهتمام بشؤونهم أو تظاهروا على أي حال !
فتح لها باب غرفة في الزاوية كانت مخزنا صغيرا و تركها تدخل بتردد قبل أن يتبعها و يغلق الباب من خلفه.
المكان كان ضيقا بالكاد يتسع لشخصين ، قابلته ملامح لايزا الغاضبة عندما استدار فسأل :
(ما الأمر ؟)
(أنت تعلم ما الأمر !)
قالت عاقدة ساعديها أمام صدرها وهي تزم شفتيها بعبوس.
(ما يعتقدونه ليس مهما ، و أنت تعلمين أني لم أكن ..)
(أنا لا أتحدث عنهم ، بل عنك أنت و الطريقة التي تصرفت بها هناك ، سرت أمامي كما لو أنك ألقيت أمرا و علي تنفيذه و ..)
(أنا لم أقصد هذا.)
قاطعها زين متمتما ، لكنها واصلت :
(أولا تتصرف بـ .. بسخف ! ثم تلقي بأوامرك و تجعلني أبدو كالبلهاء و أنا أتبعك لتحضرني إلى هنا ..)
مستشاطة من أحاسيسها الغير مفهومة ، أشارت بيديها إلى الجدران الضيقة حولها و الممتلئة بأوراق و أدوات غطاها الغبار ، و تابعت و وجنتاها تحمران من جديد :
(الجميع يعلم أن هذا هو المكان حيث .. حيث يأتي العشاق طلبا للخصوصية في المدرسة !)
ارتفع أحد حاجبي زين ، حسنا .. هو لم يعلم بذلك أبدا !
هز رأسه و حاول جاهدا أن لا يشتت بسبب الفكرة التي قفزت إلى ذهنه فجأة لتجعل نبض قلبه يتعثر ،
لايزا ... كيف سيكون الشعور بها بين ذراعيه و كيف سيكون الأمر إن تحركت أنامله مداعبة بشرة وجنتها الناعمة أو محددة تلك الشفاه الرائعة و .. و
و ياللكارثة إن كانت هذه بداية نوع آخر من النوبات !!
ظلا يتبادلان النظرات ..
يداه في جيبه و وجهه الوسيم خالي من أي تعبير عدا عينيه التين برقتا أكثر ،
أما هي فقد كورت قبضتيها إلى جانبها كما لو كانت تنوي أن تؤذيه فعلا على بروده !
(حسنا .. أنا آسف لهذا لم أعلم بذلك.)
اعتذر زين فأطلقت زفرة و هدأت ملامحها :
(حسنا .. تفضل ما الذي أردت أن تسألني عنه ؟)
(هل الفكرة فظيعة إلى هذه الدرجة ؟!)
قال زين ، و اللعنة من جديد ليس هذا موضوعه ، لكن لايزا رددت بحيرة :
(أي فكرة ؟!)
صار مضطرا للتوضيح الآن :
(الفكرة التي تدور في ذهن كل من يقف خارج هذه الغرفة منهمكا بتخمين ما يجري داخلها !)
(ليست كذلك .. !!)
هتفت لايزا سريعا قبل أن تفكر حتى ، فأخفضت رأسها محرجة و صححت :
(أقصد .. ليست مسألة كونها فظيعة أم لا ، إنه ليس ما يحدث و أنا لا أريد أن يتصور أحد شيئا غير صحيح عني !)
ثم رفعت رأسها تنظر إليه و قالت مغيرة الموضوع :
(لقد قلت بأنك تريد الحديث في أمر هام.)
أومأ زين برأسه إيجابا فشعرت بالارتياح لتقبله تغيير الموضوع.
استمعت إليه وهي تراقب التصميم الذي أطل من عينيه الزرقاوين وهو يخبرها أخيرا بما لم يكن مفاجئا لها ... !
¤ ¤ ¤
|
__________________ افتَقِدُني
music4 |