البارت الرابع و العشرون
................. " أمي ؟؟ هل أنت بخير؟؟ "
سمعت آيريس تلك الكلمة وهي تفيق وأثناء غياب والدته عن الوعي تعرف جاميان إلى جدته وخالته اللتان غمرتهما الفرحة، قالت خالته بيريزا :
- انت تشبه والدك كثيرا ولذلك صدقناك من فورنا ...
ابتسم جامي وعاد ينظر إلى والدته التي فتحت عينيها ببطء فقالت الجدة العجوز وهي تمسح على شعر ابنتها في حب :
- آيريس يا عزيزتي أخيرا سوف يلتم شملك بعد كل هذه السنوات ..
لم تصدق عينيها وانتفضت من فراشها لتعانق صغيرها الذي أصبح رجلا قويا .. أخذت تمسح على وجهه وتنظر في عينيه غير مصدقة أنه ذلك الرضيع الذي تعتقد انه مات منذ تسعة عشر عاما ..
- جامي يا قلب أمك .. هل انت بخير؟؟ ووالدك هل أصبح عجوزا مثلي ؟؟ واختك تانوها ؟؟ هل أصبحت في العشرينات؟؟ هل تزوجت؟
كانت تسأل بفرحة ولكن جاميان صمت قليلا ثم قال :
- لقد فقدنا تانوها منذ أعوام كثيرة .. حتى انا لم أعرفها يوما ..
أصيبت الأم بخيبة الأمل .. ولكنها لم تكف عن الابتسام في وجهه وسألت :
- ووالدك؟ لقد اشتقت إليه كثيرا ..
- إن أبي كاد يصاب بنوبة قلبية عندما أرسل جيرودا الرسالة التي تخبرنا فيها بانك بخير ..
- جيرودا ؟؟ هل قابلته ؟؟ كيف التقيتما ؟؟
قص جاميان عليهم كل ماحصل وانه بالفعل لم يقابل جيرودا فعليا، وقال جاميان :
- إن اخي ذكي جدا لأنه عرفني وتصرف بتلك الطريقة .. أنا سعيد جدا لأنه شقيقي الأكبر ..
كان على جاميان الرحيل في ذلك اليوم ليلحق بموكب السفراء العائد إلى بانشيبرا وكان قد أخذ كل أوراق الهوية المزيفة لوالدته ولكن ردها احبط جاميان :
- جاميان الوقت ليس مناسبا لكي أعود على بانشيبرا .. أخوك كيف سيعود ولن يجدني ؟
رد جاميان بعصبية :
- لا يا أمي ستأتين معي وجيرودا سيلحق بنا فيما بعد!
نظر جاميان إلى خالته وجدته متستغيثا، فقالت جدته تكلم آيريس :
- آيريس ماهذا السلوك .. هل ترفضين الذهاب إلى عائلتك ، وديوفري الذي لم نكن ننام الليل بسبب بكاؤك عليه .. ألا تودين رؤيته ..
أجابت آيريس وهي تنظر إليهن بحزن :
- ولكن هل سأترككن في الحرب هكذا ؟
- أنت ستعودين إلى منزلك يا آيريس ونحن لا تخافي علينا تعلمين أن أخوك إلى جانبنا دائما ...
صمتت آيريس في استسلام وقفز جاميان يعانق جدته وخالته ويصيح :
- شكرا لكن، صدقاني سأعود مجددا لزيارتكن وسأصطحب معي عائلتنا الجديدة..
فرحت الجدة ومسحت على شعره ثم تساءلت :
- لكن يابني، رغم أن أخوك يكبرك بعام وحد إلا أنني أراه أكبر منك بكثير وانت تبدو لطيفا ووديعا كقط صغير ! أنا خائفة فعلا عليك!
ضحك جاميان وقالت آيريس :
- يا أمي الشكل ليس مهما أبدا .. وأظن ان جامي قوي مثل أخيه ..
وبعد أن ودعت آيريس والدتها وشقيقتها وذرفت الدموع انطلقت مع ابنها الصغير عائدة إلى بانشيبرا مع موكب السفراء ..
وبالفعل كانت الخطة محكمة جدا ودخلوا مع الموكب إلى حدود بانشيبرا بسلام وعندها قال جاميان :
- الآن سوف نرى والدي أكيد أنه سيستقبلنا..
وضعت آيريس يدها على قلبها وقالت بسعادة:
- أنا خائفة أن أموت قبل هذا اللقاء ..
قال جاميان مازحا:
- سأرى مراهقين يلتقيان بعد غياب .. هههههههههه
- ولد !
ضحك جاميان وهو يمضي بصحبة أمه وقتا ممتعا وعندما وصلوا إلى العاصمة بانشيبرا ورأت آيريس ديوفري ينظر بشوق إلى مركبة جاميان ..
فتح ديوفري باب آيريس وظل يحدق بعض الوقت بآيريس بنظرات لا مثيل لها تحمل الحب والشوق واللهفة والانتظار .. حتى إن آيريس أغلقت عينيها الدامعتين ..
نظر جاميان بفرح إلى والديه ثم فتح باب مركبته وانطلق بعيدا ...
قالت آيريس تحرك الجو المشحون :
- لقد أصبحت رائعا يا ديوفري، تعجبني تلك الخصلات الفضية التي ظهرت في شعرك ..
التف ديوفري حول المركبة وجلس مكان جاميان ثم قال باسما :
- وانت ، رائعة كما كنت لم تتغيري أبدا ..
شعرت آيريس بالفرح .. وكأنها عروس صغيرة في ليلة زفافها ...
ومن بعيد ألقى جاميان نظرة خاطفة على مركبته .. وابتسم لأن تلك المهمة كانت الأفضل والأخطر على الإطلاق ..
كان جاميان لا يعلم أي شيء عن أخيه جيرودا ، ولكن بعض الجنود من بانشيبرا تشاجروا مع جنود تيمالاسيا مما أدى إلى مقتل بعض الجنود فعادت الحرب مجددا، سئم الكل من وضع الحرب ... حتى جاميان نفسه ..
صار الأمر معضلة حقيقية وقال جاميان لوالده ان على الجنود الا يتحاربوا ويقتلوا انفسهم من اجل الملوك ..
كان حلم توقف الحرب قد استمر قرابة العشرين عاما ... وظل الحلم يتلاشى حتى قرر ملك تيمالاسيا العجوز احتلال بانشيبرا ...
المظاهرات تملأ الشوارع سكان بانشيبرا ينددون بالحرب التي طالت والقرارات الغير مسؤولة ، سكان تيمالاسيا لا يستطيعون الاحتجاج خوفا من حرب أهلية داخل المملكة الكبيرة بين مؤيدين ومعارضين ..
صار الموقف بين الجيشين سيء جدا ... مات الكثير من الشباب هدرا..
وكان ذلك اليوم الذي ذهب فيه ديوفري لقيادة الجيش الرئيس المتوجه إلى حدود برودجيا ..
عين جاميان جنديا مساعدا في الجيش الثاني ، كان تواقا لأن يذهب إلى الحرب مع والده لكن الحظ لم يحالفه ..
بعد أن ودع ديوفري عائلته الصغيرة، إنطلق ...
وشعرت آيريس أنها بشعور سيء جدا ..
بعد القليل من الوقت كان جاميان يتجهز للذهاب مع الجيش الثاني، قال قائد الجيش بصرامة لجاميان:
- ايها الجندي .. هناك أوامر ببقاءك مع المهندسين في غرفة الاتصال، لقد عينت مساعدا غيرك ..
بكل الغيظ والحقد والانفعال والغضب كان على جاميان أن يطيع الأوامر، هكذا هو الجيش ، وعاد جاميان إلى غرفة الاتصالات ضيفا عليها وجلس وهو على وشك البكاء فقد كان يعتبر تنحيته من القتال تشبيها له بالأطفال ..
قال رئيس الإتصالات يحدث جاميان الذي احتقن وجهه من الغيظ :
- لا تقسو على نفسك ايها الشاب ، لقد خاف عليك والدك من المعركة الأخيرة.
نظر جاميان بذهول إلى مهندس الاتصالات الذي عاد إلى عمله ..
وفي الحال كان شعور جاميان خوف يعتصر قلبه على والده، هل هذا بسبب كلمة المعركة الأخيرة؟؟
وفي خلال دقائق كان جاميان قد هرب خارج الثكنة العسكرية المغلقة ، لم يجد جاميان أي مركبة تقله إلى أرض المعركة ولذلك فضل الركض السريع حتى يصل إلى موقف مركبات الجيش ..
لم يهتم بأنه خالف القوانين فقد كانت روح والده بين عينيه ..
وعندما وصل إلى أرض المعركة .. كان الأوان قد فات بالفعل ..
أشلاء جيش بانشيبرا تنتشر في كل مكان، كان هناك الكثير من قتلى تيمالاسيا لكن البانشيريون ماتوا بالجملة ..
صرخ جاميان :
- لاااااااا ... لاااااااااااااااا
لم يكد يصدق عينيه وهو يرى الجند قد طحنوا بعضهم بتلك الطريقة .. وظل يبحث بين الجثث ..
- أبي ... أين أنت ؟؟ أعلم أنك لست هنا اليس كذلك ؟؟؟
كان صدى المدافع يضرب بعيدا .. نعم الجيش الثاني .. أين هو؟؟ ربما انضم لفلول الجيش الأول ..
أبي هناك .. أسرع يا جاميان ..
هكذا قال جاميان في نفسه ..
ولكنه تعثر في الجثث وسقط وكانت المفاجأة الأعنف في حياته بانتظاره..
كلم نفسه بهستريا مسموعة وهو يرى أحدى الجثث :
- هذا ليس أبي .. لا إنه لايشبهه ..
اتحشدت الدموع في عينيه على الرغم منه وصرخ بأعلى صوته وهو يضم والده بقوة .. أبــــــــي .. لااااااااا
أمسك جاميان بوجه والده ودموعه تغسل وجهه ..
- لماذا يا أبي ؟؟ لماذا لم تجعلني أموت معك ..
سقطت دمعات حارة على وجه ديوفري الذي ودع الحياة فأسالت بعض الدماء الجافة ورأى جاميان والده يمسك بالصورة القديمة التي طالما نظر إليها ،، لقد امتلأت بالدماء واختلفت معالمها ... صرخ جاميان بحرقة ...
و بقي وهو يضم والده ويبكي وقتا طويلا .. بكى مثل الأطفال وكانت الريح جافة شديدة كصفعات متتالية على وجهه ..
وبكل الحقد والحزن الذي حمله جاميان توجه إلى أرض المعركة وقبل ان يصل هناك حدث أمر رهيب جدا ... لم يكن في الحسبان ..
جنود تيمالاسيا يقفون على الحدود محاولين حراسة أراضيهم وهذا الولد النحيل جاميان يقترب من بعيد ..
ودارت رحى المعركة الأعنف في تاريخ جاميان وحوله تجمع عشرات الرجال الذين لم يستطيعوا النيل منه .. لم يتخيل أحدهم أن القوة الداخلية تفوق أي شيء ..
بعد ساعات من القتال لم يتعب جاميان وتوقف في الوسط حيث تنتشر الأشلاء حوله لم يشفى غيظه بعد وفعل مافعل .. كان مصابا ولكنه لم يعد يرى أمامه فقد أعمى الغضب بصيرته ليكتشف قوته الحقيقية ..
في تلك الأثناء كان الجيش الثاني قد نال من التيماليين ..
وكان جيرودا يقف على حدود برودجيا عندما تلقى رسالة نجدة لا سلكية من أحدهم .. وعندما توجه إلى هناك حيث صنع جاميان جسرا مفزعا من رؤوس التيماليين ..
شهق جيرودا غير مصدق لما يراه من الأجساد التي لا تحمل رؤوسها وعندها رأى جاميان يقف بتعب على ضفة جسر الرؤوس الأخرى ..
لم يستطع جيرودا تجميع أي فكرة عما يحصل لكن برأيه أن الأمر كان مروعا وكأن جيشا بانشيريا كان هنا ..
صرخ جيرودا بكل قوته :
- هل أنت جاميان ديوفري؟؟
حدق جاميان بتعب ومر من فوق جسر الرؤوس الذي صنعه .. وعنما رأي جيرودا لم يعرفه وأخذ سيفه وهو يقول بغيظ :
- أقسمت أنني لن أترك أي تيمالي ..
كان جيرودا يحاول قول أي شيء ولكن جاميان انقض عليه كالنمر المفترس ...
عندها لم يتمكن جيرودا إلا أن يدافع عن نفسه.. لأن جاميان لم يعطه أي فرصة للكلام ..
كان جيرودا قويا جدا ولم يسمح لجاميان بأن ينال منه .. وعندها تعثر جاميان في حجر وسقط وبسرعة فأخذ جيرودا سيفه ورماه بعيدا ..
وصاح قائلا :
- إنه أنا أخوك ، أنا جيرودا ..
نظر جاميان حوله وكأنه أفاق فجأة من حلم غريب وعندما نظر إلى شقيقه احتشدت الدموع في عينيه وقال وصوته يرتعش :
- لقد قتلوه ... قتلوا والدنا يا جيرودا ..
اعتلت الصدمة جيرودا الذي آمل أن يرى والده ويعيش معه كان يتمنى أن يشعر أن له أب أخيرا يضمه ويفتخر به بعد ان تربى يتيما ..
انعقد لسان جيرودا وفقط نزل إلى أخيه المنهار وضمه بقوة محاولا منع دموعه من النزول ... |