جلس في ركن منزوي من المطعم -الذي يملكه والده في مدينة ديربورن في ولاية ميتشجان وتعتبر أحد ضواحي مدينة ديترويت والتي تشتهر بصناعة السيارات - يراقب الضيوف وخاصة العرب منهم وهم يتحدثون العربية فكان شغوفاً بتعلم هذه اللغة وكثيراً ما لام والده على ذلك ! .
كان من السهل على والده أن يلحظ نظرة الحزن التي تعتري وجه صغيره ذو الثمانية أعوام في هذا اليوم على غير عادته , فكان يحيي يحب أن يساعد أباه بعد خروجه من المدرسة رغم اعتراض والده على هذا خوفاً من تأثير ذلك على تعليمه .
عاد الأب بذاكرته للوراء وهو يقدم يقدم جواز سفره لضابط مطارا لقاهرة الذي نظر إليه نظرة متفحصة حينما لمح كلمة ( هجرة ) بجواز سفره وكأنه لص هارب من جريمة ارتكبها ! لم يكن قرار الهجرة أمراً سهلاً عليه فهو يترك حياته كلها بحلوها ومرها وحبه الوحيد الذي ملأ عليه حياته البائسة ,لم يكن الفراق سهلاً , ودعها بعين دامعة وقلب مكسور لكن ما خفف عليه وعليها أن وعدها أن يجمع شملهما مرة أخرى هنا أو هناك في الأرض أو السماء ..
لم يكن الأمر كما تخيله أو كما يتخيله الكثيرون حينما يهمون بالسفر للخارج بل كان شقاء وعذاب فرغم الحرية التي شعر بها منذ الوهلة الأولى لكن لغته وجنسيته ودينه وقف سداً منيعاً لأن يتحول لمواطن أميركي بكل ما تعنيه الكلمة , فلقد ظلّ في أعين الجميع ارهابياً يجب الحرص منه ! حتى من عامله بلطف وتودد كان يشعر بأنه نوع من المجاملة !
فقط هىّ من اقتربت منه بصدق ورأى فيها الماضي الجميل , ووقفت إلى جانبه حتى بدأ يجني ثمار الغربة المريرة , وكانت أروع الثمار هي قدوم ولده ( يحيي) فلقد رأى نفسه من جديد وعزم على أن يبث فيه الماضي والمستقبل دون أن يطغى أحدهما على الآخر , لكن دوامة الحياة مزقت وعده وأصبح الماضي شبحاً يطارد الصغير في كل مكان .
ارتمى يحيي بين يدى والده وهو يصارع دموعه فلقد تشاجر مع شاب اميركي ونعته بأنه مسلم ارهابي ! ربت الوالد بحنان على كتف صغيره واحتضنه بقوة وهو يقول له " كن فخورك بدينك يا بني فهو خير الأديان وقابل الاساءة بابتسامة ولا تدعها تؤثر عليك , فلن تكون المرة الأخيرة .."
أخذه من يده وذهب به إلى المسجد القريب وعلمه كيف يتوضأ ثم أسر إليه أن يفعل مثلما يفعل تماماً , وشعر يحيي بقشعريرة غريبة تسري في أوصاله عندما سمع المنادي ينادي " الله أكبر .. الله أكبر " والناس سفدون من كل فج عميق يتراصون في سلاسة ويفعلون مثلما يفعل والده .. وعندما انتهوا من الصلاة شعر براحة كبيرة وهو يسلم على المصلين وخرج يده بيد والده وابتسامة كبيرة على محياه وهو يصرخ بأعلى صوت " الله أكبر " .