عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 03-16-2013, 01:34 AM
 
حولت نظرها عن العربة الأمامية ، محدقة الى الصحراء الصامتة ، وتساءلت بإمتعاض : هل كانت مجنونة وهي تدخل هذه المغامرة ؟ من الصحيح ان قلب والدها يتقطر حزنا على رسوم الحيوانات ، ولكنه لم يرها في حياته ، كل ما في الأمر ان الوقائع التي يستند اليها جاءت نتيجة محادثة مع أحد المغامرين ذوي الخبرة الضئيلة ، سيفرح كثيرا لو عادت اليه بصور الرسوم ، التي طالما دغدغت احلامه ، وجعلته يؤجل نشر كتابه الذي شغل معظم عمره.
والان بعد أن سبق السيف العذل ، ويتعذر عليها التراجع ، إنحنت كوري باللائمة على نفسها لأنها سمحت لمشاكلها أن تدفعها الى الإلتحاق بالرحلة وفق أعذار كاذبة ، فهي كانت ستتغلب على غدر اريك آجلا أم عاجلا ، أما بالنسبة الى عرض الأزياء ، فكان من الفضل التخطيط لمهنة جديدة في أجواء أقل خطرا من الصحراء.
إنها تتبع نزواتها عادة ، لكن ليس الى هذا الحد المتهور ، إجتاحتها رغبة لتغيير مجرى حياتها فلم تتمعن في نتيجة قرارها المتسرع ، إختالت إعتزازا بقناعها الجديد ، فلم تحسب حساب مدى إمكانية نجاحها في لعب دور رجل لعدة أسابيع.
إن التحول الى الى رجل يتطلب أكثر من شارب ونظارات مظللة ، سيكون عليها قضاء الليالي في خيمة مشتركة ، حيث يخلع الرجال ثيابهم أمامها ، وينطلقون في أحاديثهم البذيئة ، وكيف ستخلع ثيابها هي وتستحم ، وتهتم بنظافتها كأنثى ؟ هل تحلم أن تعيش وسط كل هؤلاء الرجال ، وتخفي عنهم حقيقتها؟
نعم.... ومضت عيناها ببريق عزم مفاجىء ، إنها قادرة على إنهاء مهمتها ، وكما فات أوان التراجع ، تبخرت كل البدائل ايضا ، ستنهي مهمتها ولن يكشف أمرها احد.
توقفت القافلة بجانب منخفض طبيعي يشكل حوضا مليئا بالمياه ، وإنتصبت بعض الشجيرات الذابلة في الجهة المقابلة ، موفرة شبه ظل لإتقاء الحر ، والهم من ذلك تؤمن الشجيرات ملجأ من البرد الصحراوي حيث تفقد الصحراء حرارتها بسرعة مع غروب الشمس كما حدثها والدها ، ويصبح الليل قارسا كالجليد.
ولاحظت كوري أن الشمس توشك على المغيب ، بدت كتلة كروية مشتعلة ، تحضن الأفق المترامي ، ورغم رؤيتها المتكررة لجمال الغروب الأفريقي وجدت نفسها امام منظر اخاذ لا مثيل له ، إكتنفها بهاء الفضاء الرحب ، فلم تنتبه الى الرجال وهم ينصبون الخيم.
وسمعت صوتا يهتف وراءها :
" إنه منظر اخاذ اليس كذلك؟".
إستدارت كوري ورفعت نظرها لترى رجلا ينتصب شامخا أمامها كتمثال قديم ، تتدفق حرارة الشمس العارية في ملامحه الصخرية ، تجمد الدم في عروقها ، وحل في حلقها جفاف رهيب ، بلعت ريقها ، وهي تلمس أهمية إجابتها لئلا تثير الشبهات :
" إنها حقا أخّاذة".
رأت عيناه تتقلصان ، وكأنه ادرك مأزقها ، لكن صوته ظل عاديا :
" ماذا دهاك يا كولن؟".
وقفت وقفة ثابتة لأخفاء إضطرابها الشديد ، وتمتمت بصوت عميق منخفض النبرة:
" لا شيء البتة ، كنت أتخيل نفسي ألتقط صورة هذا المشهد الرائع".
" إنه مشهد يستحق لوحة زيتية ، وليس مجرد كاميرا ، علينا الإسراع في نصب الخيام يا كولن ، ما أن تغيب الشمس حتى تنتشر الظلمة بسرعة".
" طبعا".
وعندما إنضمت الى الرجال المتحلقين حول العربات ، أدركت كوري أنها إرتكبت أول أخطائها ، وخطأ بالغ البساطة أيضا ، إعتادت في حياتها القصيرة ان ترى الرجال ينصبون الخيام والنساء يتولين شؤون الطهي ، ولكنها تخلت الآن عن مهماتها كرجل ، وبدون وعي منها .
لا بد من الإحتراس الدائم ، خاطبت نفسها ، وهي تتقدم لتساهم في أداء دورها ، وطرق مسامعها صوت اجش:
" هل بدأنا بالتهرب من واجباتنا؟".
لم ترفع كوري عينيها ، عرفت ان صاحب الصوت يدعى بويد خبير الحوال الجوية ، ويكاد يضارع فريزر طولا ، وهو فظ وخشن الملامح ، وكانت عندما تعرفت اليه في الصباح لمست بعض الإزدراء في سلوكه ، حاولت آنذاك طرد هذا الإنطباع ، معللة نفسها بتوقع معاملة أفضل بعد زوال قلقها ، لكن لهجته الهازئة هذه المرة بانت واضحة لا شك فيها ، وأعاد الكرة:
" ما بالك أيها الرجل الهزيل؟".
ونتيجة خبرتها بالرجال ، فهمت كوري انه يتعمد إستفزازها ، قالت باعصاب هادئة:
" لم يخطر ببالي التهرب من واجبي".
فتابع إستهزاءه بفظاظة:
" إنك مغرم بمغيب الشمس ؟ اعرف نوعيتك يا لاسن ، لن يمكنك تحمل الصحراء طويلا".
وإقترب منها ، أحست بطبيعته العدوانية ، المجسدة في منكبيه العريضين ، وصفات الشقي المتنمر ، إستطرد ينفث كلماته:
" كيف حصلت على هذا العمل ؟ هل إنعدم وجود مصورين آخرين ام ماذا؟".
كان من السهل الظهور بمظهر رجل ، أما إنتحال جوهر شخصية الذكر ، فتلك مسألة أخرى ، ما هي ردة فعل رجل حقيقي على هجمات بويد ؟ تساءلت كوري بياس قاتل ، هل يخرسه بكلمات محكمة ؟ ام أن هذه طريقة إمرأة في مواجهة وضع كهذا ؟ ربما كان يعمد الى لطمه على وجهه بجماع قبضته ؟ حتى ولو خسر العراك الذي لا بد من نشوبه ، يكون أثبت مقدار شجاعته ، كان ذلك خيارا يستحيل عليها إنتهازه ، قالت بحذر:
" لماذا لا تبحث الموضوع مع فريزر ؟ إنه خير من يشفي غليلك ".
وبصق بويد بقرف:
" يا لك من احمق مغفل".
أصاب بعض الرذاذ خد كوري ، إستشاطت غيظا ، نسيت تلك اللحظة من هي ، وكيف عليها أن تكون ، ورفعت يدها ، غير عابئة بالعواقب لتصفع وجه بويد عندما قال صوت هادىء:
" دع الولد وشانه ".
كان الصوت صوت مارك ، لم تره كوري يقترب منها ، وهي تتأجج غضبا ، وإنتبهت الى يدها المرفوعة ، فأرختها ببطء ، محاولة كبت إضطرابها وقد صدمها الواقع الأليم.
كادت تصفع وجه بويد ، فيظنها صفعة رجل ، ويضطر لرد الصاع صاعين ، وكان إفتضح أمرها خلال ثوان معدودة .
إستدار بويد نحو مارك يتهدده:
" لا تتدخل فيما لا يعنيك".
ورد مارك العالم الهادىء ، الدمث ، بلهجة جازمة ، مما أثار دهشة كوري :
" كلا ، لا يجوز السماح لكما بالعراك في يومنا الأول ، وإفساد معنويات الجميع".
ظل بويد في ثورة من الغضب :
" هذا الولد معتوه ، يتيّمه غروب الشمس ونحن نقوم بكل الشغل ، لا مكان له بيننا ".
أجاب مارك بدون تردد :
" فريزر إختاره ، دعه وشأنه يا بويد ، لا يزال في مطلع العمر ، وسيتعلم شيئا فشيئا ".
نظر بويد الى كوري التي ظلت صامتة طوال الوقت :
" إياك أن تقترب مني أيها المغفل".
وعلّق مارك عندما هم بويد بالتحرك :
" إنه راي حكيم ، لا تقترب منه ، إنه يتقن عمله ، ولذلك تجده هنا ، ولكنه يحب إثارة المشاكل للآخرين ".
ووجدت كوري صعوبة في السيطرة على صوتها وهي تقول :
" ولكن لماذا لا يزعج أحدا سواي ؟".
طمانها مارك بنظرات ذات مغزى :
" لأن احد أصدقائه الأعزاء اراد الحصول على عملك ، ولكنك سبقته اليه ، ولا بد من الإعتراف أن بنيتك لا تساعدك كثيرا ، فتشجع اشخاصا مثل بويد لعرض عضلاتهم".
قالت كوري بإعتداد لا يمت اليها بصلة:
" إن ضربة واحدة كانت كافية للقضاء عليه ، ولكن أعتقد انك على حق يا مارك ، من الأفضل تجنبه قدر المستطاع".