رأت صبيا جاثيا في الغبار ، يتمد أمامه كبش ماعز هامد الجثة ، وأدركت ما جرى ، كان الصبي يسوق قطيعا من الماعز ، عندما إندفع الكبش نحو منتصف الطريق ، فدهسته العربة الأمامية وقضت عليه.
راح بويد ، سائق السارة ، يؤنب الصبي ، ويوبخه على إهماله وطيشه ، فأجهش بالبكاء وهو يسمع هذه اللهجة القاسية ، وهنا تدخل فريزر ، دافعا بويد جانبا ، ومتوليا زمام الأمور ، إنحنى ارضا ومر بيده فوق جثة الكبش ، ثم اشار لأحد الرجال بجره الى حافة الدرب ، وركز إهتمامه على الولد .
طغى على الصبي حزن عارم ، وكان عويله الذي إخترق أذني كوري حادا يشق الفضاء ، وعمد الى لطم راسه بالأرض مرتين ، وبقوة مؤلمة.
وقف الرجال حائرين ، مكتوفي الأيدي ، وتكلم فريزر الى الصبي ، حاول مخاطبته بالإنكليزية ولغة أفريقيا الجنوبية ، وبلهجتين عامتين ، لكن كلماته ذهبت سدى ، وإسترسل الصبي في عويله.
صاح بويد يتوقد غيظا:
" إنه يحاول إستدرار الشفقة ، والحصول على حفنة من الدراهم".
إستدارت كوري نحوه وقد إستبدت بها غريزتها:
" هل أنت عديم الإحساس الى هذا الحد؟".
ورد بضراوته المعتادة:
" هذه مسألة لا تعنيك أيها المغفل".
وبادر فريزر بالقول:
" إنه مجرد حادث ليس إلا ".
ورأته كوري يمد يده الى جيبه ، ويمسك بكف الصبي ويعطيه بعض الأوراق النقدية.
رفع الصبي الصغير وجهه الذي يكسوه الوحل والغبار ، وحدج النقود برهة ، ثم راح يعول مجددا ، قال فريزر باسى:
" أنا آسف لهذا الحادث ، ولكنني اعطيته أكثر مما يحتاج لشراء كبش آخر".
وإزداد بويد شراسة:
" الأفضل أن تتجاهله دعه يعول الى أن تجف دموعه".
ودفع فريزر بورقة نقدية الى اخرى الى يد الصبي معلقا:
" لا بد من إستئناف الرحلة ، ليرجع كل منكم الى عربته ".
" كلا ( صرخت كوري محتجة ، مستهجنة ) لا يمكننا ترك الولد في هذا الوضع".
ووجدت نفسها ، وبدون إنعام النظر ، تنحني لتضم الصبي الى صدرها غير عابئة بالاوساخ تلطخ ثيابها ولا بتاثير تصرفها على رفاقها ، لم تفكر إلا بذلك الولد البائس ، وحاجته الى العطف والطمأنينة ، أخذت تهدىء من روعه ، وتهمس في اذنه كلمات الحنان والشفقة ، ولا يهم انه لا يفهم معنى كلماتها ، فهو سيفقه نيتها وإهتمامها به.
وما لبث الولد ان سكن روعه ، وتوقف عن البكاء والعويل ، إنه مجرد طفل ، فكرت كوري ، طفل صدمته خسارة أعز ما لديه ، ولا شك ان الدراهم تمكنه من شراء كبش آخر ، لكن الوقت وحده والحب يشفيان الجرح الذي فتحه الموت المفاجىء في قلب ولد صغير.
إعتقدت كوري أنها قامت بواجبها نيابة عن الجميع ، فليتوجهوا الآن الى السيارات لمتابعة الرحلة.
رفعت بصرها ، كان الصمت يخيم على الجميع ، صمت غريب ، أليم ، مترقب ، جالت بنظرها من وجه لوجه ، فإنتابها إضطراب شديد ، كان الرجال يحدجونها بتمعن ، وعلت وجوههم إمارات الحذر والتساؤل ، وعلى نحو مباغت ، زم بويد شفتيه بخبث مخيف ، وبدا مارك عصبي المزاج ، اما ملامح فريزر فكانت كالحة قاتمة ، كان وجه فريزر يثير فيها الرعب أكثر من أي شيء آخر.
وقفت على قدميها ، متلعثمة ، تحاول إخفاء إضطرابها :
" يمكننا الذهاب الآن".
لم يجبها أحد ، ولم تبدر اية إشارة من احد ، اصيب راسها بالدوار وكررت كلماتها بلهجة اقل إقناعا:
" يمكننا الذهاب الان ".
رنّ صوت فريزر في أذنيها :
" بعد قليل ، تعال معي".
نظرت كوري الى مارك نظرة إستجداء ، لم ينبس ببنت شفة ، وخالته يهز برأسه مبديا اسفه ، وعجزه عن مساعدتها.
لم يكن امامها خيار سوى السير وراء فريزر ، وشعرت فجأة بالرعب الشديد ، ومع ذلك صممت على كبت مشاعرالخوف امام المجموعة ، مشت وراء فريزر برأس مرفوع ، كانت كل الأنظار مركزة عليها ، وهي تخطو خطواتها الوثيدة ، المرهقة.
جلست بجانبه في سيارة الجيب ، وإستعدت كوري للمعركة الحاسمة ، تتجاذبها مشاعر خفية ، غامضة اتجاه فريزر ، وكل ما يمثله من قوة ورجولة وجاذبية.
وأخيرا فتح فاه قائلا بتمهل مقصود:
" نعم يا سيد كولن لارسن !".
وتمتمت كوري :
" نعم يا سيد ملوري!".
وخرج صوته رقيقا ، ناعما ، ومغلفا بالخطر:
" أعتقد أن عليك إيضاح موقفك".
وسألته بخفة ، وكانها احست بإقتراب ساعة الإنفجار :
" تقصد تعويقي للرحلة ؟ لم يكن في اليد حيلة ، والولد في تلك الحالة السيئة".
وهز رأسه :
" حسنا".
" لم نتاخر كثيرا ( ردت متلعثمة ) وعزّ عليّ التخلي عن الصبي يعتصره الألم".
" ليس هذا هو الموضوع الرئيسي ، وأنت تعرف في أي مكان هنا ....".
وعاد يسالها مشددا على السم الول:
" هيا يا كولن .... هل ستخبرني الحقيقة أم تضطرني لإنتزاعها منك بالقوة؟".
رات في عينيه قساوة مدمرة تخمد النفاس ، فقالت متوسلة :
" إنك تسيء الفهم ".
ورد بفم ممتعض:
" اسيء الفهم ؟ لنتحقق من ذلك...".
ومد يده الى وجهها ، ونزع الشاربين بحركة سريعة.
لمست كوري شفتها العليا بانامل مرتجفة ، شاعرة بإنهيار حصنها المنيع.... حاولت أن تتكلم فخانتها قواها.
وإزداد فريزر غيظا.
" والان الى القناع الاخر ، هل تنزع النظارات ام أنزعها أنا؟".
وجدت نفسها تتضرع قائلة:
" سانزعها ،سانزعها".
وها هي الان تبدو على حقيقتها ، تلتهمها عينا فريزر بوقاحة ، وإنتقام ، وسمعته يبدي إعجابه:
" يا للجمال ، يا للجمال ، ما هذه الأفكار الجهنمية يا كولن؟ ( وبلع ريقه ) ولكنك لست كولن طبعا ، ما هو الإسم الحقيقي .... كارلا؟". |