البارت الخامس 5- حدّقت في الظلام الدامس قلقة ، لم يكن يتبادر الى ذهنها انها معرّضة لأي خطر حقيقي عندما رنّت كلماته في أذنيها ثقيلة ، مخيفة :" الى اين تذهبي؟".
عندما إنضم مارك وكوري الى المجموعة، كان احد الرجال يعزف القيثارة ، مداعبا أوتارها بحنان ، أبدى الرجال ترحيبهم بكوري متهللي الأسارير ، مخلّين لها أقرب بقعة من كومة الحجر لتوهجة ، ولاحظت أنهم كانوا يناقشون امرا ما ، وتوقفوا عن الكلام فجاة مع وصولها ، لكنها لم تمتعض وبدا عليها الإرتياح وهي تلمس وجود جو طبيعي ، لا توتّر فيه.
بدأ لاعب القيثارة يعزف لحن عادي ، وإنطلق الرجال يغنون اغاني بسيطة ، طالما سمعتها كوري حول مواقد النار وفي العشايا ، غمرتها موجة من السعادة وهي تصغي الى الأصوات المتناغمة، إنها تحب طريقة العيش هذه ، بعيدا عن جلبة المدينة ، والأجواء المزيفة التي عملت فيها.
بدت الحياة في المخيم الصغير ،على أطراف صحراء كلهاري الشاسعة ، اصيلة ذات جوهر واضح ، ما أروع منظر النار الدافئة ، وما أشهى نكهة اللحم المشوي وعبق الفحم المتوهج ، ويا لروعة الفضاء يتلألأ بالنجوم اللامعة ، ثم تلك المصابيح الخافتة تتوزع هنا وهناك ، مرسلة نورا يضيء جنبات المخيم ، وتمتد بعد ذلك ستائر الظلام ، يغلفها سر غامض ، فتلفّ اقاصي الصحراء النائية.
إن لنار المخيم سحرا عجيبا ، يدب في قلوب الرجال وعقولهم ، ياسرهم ويولد فيهم حنينا لا ينطفىء ، فكرت كوري في والدها يجلس وحيدا مع كتبه وأوراقه في ذلك المنزل الصغير فوق منعطف الجبل ، فإجتاحها حزن كئيب.
منتديات ليلاس
جلس مارك بقربها ، ن وجوده قربها يريحها ويدخل الطمأنينة الى قلبها ، تمت بينهما أواصر الصداقة عندما كانت لا تزال كولن ، ولم تتبدل صداقتهما بعد أن أصبحت كوري ، لم يشعر بالإهانة لتسترها وراء قناع خادع ، إنه صديق مخلص ، يعتمد عليه ، تأكد لها وهي تراقب وجهه الذي تضيئه النار أنه اقرب شخص الى نفسها من بين المجموعة كلها.
ثم عاودتها الشكوك ، وما هي مشاعرها أزاء فريزر ؟ إنها لا تنكر إعجابها به في البداية ، أما الآن فتغير الوضع ، إنه يتمتع بشخصية فاتنة ، ولكنه متعجرف وعديم الرحمة ، لا ، إن فريزر ملوري لا يحوز على إعجابها بعد تجربتها المريرة معه.
تنبهت الى نسيم الليل البارد يغزو مسامها ، فأدركت أن ساعة النوم قد إقتربت.
فكرت في مشكلاتها العملية الراهنة ، إستطاعت حتى الآن تدبر أمرها وهي تشاطر الخيمة مع ثلاثة رجال ، ولكن الوضع يختلف في هذه اللحظة ، كيف ستصرفون بعد أن إكنشفوا هويتها الحقيقية؟ خالت مارك يغرق في حيرة مماثلة ، وهناك بويد وبيتر ، شريكها الرابع في الخيمة، ماذا يدور في مخيلة كل منهما؟
وما أن نهضت تريد الإنسحاب الى الخيمة ، حتى سرت الهمهمات بين الرجال يبدون تمنياتهم لها بقضاء ليلة سعيدة والتمتع بنوم هنىء.
لم يتبادر الى ذهنها أنها معرضة لأي خطر كبير ، لن يجرؤ أحد على لمسها ، حتى بويد نفسه ، وأخيرا خاطبت مارك:
" أعتقد أنه حان وقت النوم".
وبدا مارك متوتر الأعصاب ، وسمعته يردد إسمها:
" كوري.... كوري".
حبست أنفاسها تحسبا لأمر طارى:
" نعم؟".
" لا شيء البتة .... لا شيء".
وإضطرب صوتها:
" مارك... ما بالك؟ لم يتغير شيء".
وتلعثم:
" كوري...".
قاطعته بسرعة:
" من فضلك يا مارك دعني أوضح موقفي ، بالنسبة الي ، كنت اعرف طوال الوقت أنني إمرأة ، وأنكم رجال ، وإستطعت تدبر أمري ،ولم أتعرض للإهانة أو لصدمة ( وخانتها الكلمات فإكتفت بالقول) أعترف أنه وضع غير طبيعي".
وعلق مارك بجفاف:
" وبأقل تعديل".
خالت ان مارك يتحول ضدها ، وهذا يعني وقوفها وحيدة ، لا بد لها من إكتسابه الى جانبها ، وقالت بعد لحظات مشحونة بالتوتر:
" ما أحاول قوله هو أن الأمور ما زالت كما هي ، قضينا معا ثلاث ليال ، ولم يعبأ بي أحد لأن هويتي كانت سرية ، ولا اجد أي سبب للتصرف بشكل مختلف ، أنا لست كولن ، ولكن لم ازل انا نفسي الشخص عينه الذي شارك الخيمة معكم سابقا".
وإستطرد مارك بلهجته الجافة:
" تريدين منا أن ننظر اليك وكانك كولن وليس كوري".
" أريدك ان تحافظ على موقفك مني".
ومر مارك بأصابعه فوق وجنتها:
" انا افهم ما تعنين ولكن لا اخالك تفهمين نفسك يا كوري".
" أنا أفهم نفسي تماما".
قاطعها:
" أنا رجل ، وكذلك بويد وبيتر ، وأنت إمرأة ، إمرأة جميلة للغاية، ولا يمكن لك تجاهل مشاعرنا عندما ننام وإياك تحت سقف واحد".
وقالت متمهلة:
" اعترف أنني كنت غبية ".
فداعب وجنتها قائلا:
" غبية؟ قلت لك من قبل أنك شجاعة".
" كان عليّ التصرف بطريقة مختلفة".
أجاب بهدوء:
" هذا صحيح ، ولكنك لم تفعلي ، أؤكد لك أن ضغط دمي الليلي سيرتفع كثيرا".
تأوّهت باسى:
" ما هذا الهراء يا مارك ؟ إنك ستظل صديقي الوفي ".
وإرتسمت ملامح الإستغراب على محياه:
" صديقك؟ أنت في واد وانا في واد يا كوري ، مع ذلك ، اعدك بانني سأظل صديقا لك".
واطرق مارك راسه متجهم الوجه ، شعرت كوري أنها تجلس قرب إنسان غريب ، غامض ينذر مظهره بالخطر.
حدقت في الظلام الدامس حزينة ، قلقة ، لم تكن تتوقع كل هذه التعقيدات ، وصارت عاجزة عن التصرف بحكمة ، وتكوين راي واضح حول ما يجري.
ربما كانت الأمور أقل تعقيدا مما تصورت ، الم تقرر تجاهل بويد ، والإحتفاظ بهدوء أعصابها امامه ؟ فلتتعامل مع فريزر بالأسلوب نفسه ، وتتغاضى عن غروره الطائش ، ولتجد طريقة معقولة للتفاهم مع مارك ، إنه يختلف عن الآخرين ، وهي لا ترغب في إيذاء مشاعره.
نظرت الى مارك وهو يغرق في صمت عميق ، كان صمته ينبىء بتوتّر دفين ، وأزمة حادة تضج في فؤاده ، ما اصعب هذا الموقف ، إنعقد لسانها فلم تنطق بكلمة واحدة.
تمنت ان يزول التوتر مع صباح اليوم التالي ، فلتذهب الى الخيمة الآن ، وتاوي الى فراشها قبل غيرها ، إستدارت وتوجهت صوب خيمتها.
" والى اين تذهبين ؟".
رنّت الكلمات في أذنيها ثقيلة ، مخيفة ، كان فريزر يقف وراءها بقامته الشامخة.
قالت بعجلة :
" الى الفراش".
" اعتقد أنك تسيرين في إتجاه خاطىء".
أجابت بحذر:
" لا ، لا أظن ، هل نسيت أن هذه هي الخيمة التي أتقاسمها مع مارك وبويد وبيتر؟".
خالت كوري أنها في كابوس رهيب وهي تصغي الى جوابه:
" أنا لا أنسى شيئا ، تلك كانت خيمة كولن ، وليست خيمة كوري".
بدا فريزر في تلك الظلمة الداكنة شبحا مخيفا ، يبيّت نوايا خبيثة ، إن كلماته المبطنة تنذر بخطر داهم ، ولكن لن تدعه ينجح في تنفيذ خطته ، عليها الإحتفاظ برباطة الجأش ، وإفشال مؤامرته الجديدة.
سالته بهدوء:
" هل لديك خيمة أخرى؟".
" نعم".
" أية خيمة؟".
تعمد تأجيل جوابه ، ليختلق جوا من الترقب والقلق ، جمدت في مكانها ، مصممة على عدم التفوه بحرف واحد لئلا تحقق مأربه.
وما لبث أن قال بسخرية لاذعة:
" خيمتي بالطبع".
أجاب بوقار وكياسة:
" شكرا على تلطفك وكرمك".
وجلجل مقهقها :
" تلطفي وكرمي؟".
" لا شك أنك تضحي كثيرا عندما تقرر النوم مع الآخرين، وإخلاء خيمتك من اجلي".
بلغت سخريته حدا لا يطاق :
" يا عزيزتي كوري ، من قال لك انني أنوي التخلّي عن خيمتي ؟".
إصطكت أسنانها ذعرا:
" لأنك ..... لأن المسألة واضحة ، أنت قلت....".
قال بعنجهية:
" انا قلت أنك ستنامين في خيمتي ، وسأكون أنا هناك ايضا ".
وصاحت بإضطراب:
" كلا".
فردّ بلهجة الآمر الناهي:
" نعم ".
" لا ، لن أنام في خيمتك".
حاولت أن تفر منه وتلجأ الى مارك ، صديقها الذي سيدافع عنها ويحميها .
قبضت على معصمها اصابع فولاذية ، وخالتها تكاد تمزق جلدها الطري وهي تنتفض محتجة:
" دعني وشاني".
" ستاتين معي".
تملكها الغضب الشديد ، ولم تعد تبالي بشيء ، فصاحت:
" لا يمكنك إجباري على الذهاب".
فشدّ على معصمها بقوة:
" يمكنني إجبارك على فعل أي شيء ".
وراح يجرّها من يدها ، فلم يعد أمامها غلا طريقة واحدة لإنقاذ نفسها ، سيهرع مارك الى نجدتها إذا ما صرخت بأعلى صوتها ، وكذلك بيتر ، وربما بعض الرجال الآخرين.
همّت بالصراخ ، ولكنه أحبط محاولتها ، مطبقا بيده الغليظة على فمها الصغير ، والحّ قائلا:
" هلا اتيت معي بهدوء؟".
هزت رأسها بعنف ، فعلّق واجما:
" سأجبرك بطريقتي الخاصة ، وإياك ان تحتجي بعد ذلك".
أرخى قبضته عن معصمها ، وإنحنى يرفعها عن الأرض كدمية خفيفة ، كان مفتول العضلات صلب الصدر ، عريض المنكبين ، أصيبت كوري بالدوار من الرجولة الخارقة، وسحر البطش الماحق ، ولم تلبث ان إستردت وعيها ، مدركة معنى ما يجري.
فتحت فمها مرة اخرى تهم بالصراخ ، ولكنه خنق صوتها بقبضته العنيفة السريعة ، قاومته بكل قواها ، راحت تلكم بيديها ، وترفس يقدميها دون فائدة ، شدّها الى صدره ، فهبط قلبها في داخلها ، وهي تراه يهصر جسمها الطري هصرا ، وكأنه يريد أن يؤلمها ويعانقها في آن معا.
وتمكنت أخيرا من عضّه ، فصاح:
" يا لك من قطة شرسة!".
امسك اطرافها بإحكام وحملها الى خيمته الغارقة في العتمة ، أغمضت عينيها وجلست مذهولة لا تقوى على الحراك ، القى بها ارضا ، كخرقة ممزقة ، وسمعته يقول:
" حقا إنك إبنة جون لايتمر ، تصارعين حتى النفس الأخير ".
إرتسمت إبتسامة شاحبة فوق شفتيها:
" لا أعتقد أن والدي نال شرف عضك مثلي".
أجاب بمرارة:
" لا لم يعضّني باسنانه ، لكن لسانه عضّني مئات المرات ، لم يكن يتراجع عن رأيه حتى ولو أدرك أنه مخطىء".
إرتسمت أمام كوري ، لبرهة خاطفة ، صورة والدها الهزيل ، تحيط به كتبه ، لقد فاته القطار الان ويعجز عن مواجهة رجل شاب قوي ، يفور نشاطا هكذا ترسخت قناعتها بضرورة تنفيذ مهمتها .
قالت:
وانا لا أتراجع عن رايي كذلك!".
فكر فريزر مليا ، ثم إنحنى ورفعها على قدميها ، وصاحت:
" دعني وشاني".
" سمعا وطاعة ، ولكن بعد أن اوضح بعض الأمور".
قرات في صرامة صوته عقلية لا تقبل أقل من الخضوع التام ، إنها تدرك مدى تطفّلها ، وفرض نفسها على شخص لديه مفاهيم محددة حول دور النساء ، ولكن لا يحق لفريزر إهانتها على هذا النحو ، لا لن تدعه يدوس على كرامتها ، وأكدت له:
" أريد الحصول على صور الرسوم مهما كلف الأمر".
" لا مانع لدي ، هذا إذا ما حسّنت سلوكك ... وإذا كانت الرسوم الصخرية موجودة".
شمخت بأنفها:
" أنا متأكدة من وجودها ".
" لا شيء يثبت وجودها سوى عناد والدك ، وشهادة أحد عابري السبيل".
" إن والدي يثق بعابر السبيل ، الرسوم الصخرية موجودة ولن أعود قبل تصويرها".
قال بإمتعاض :
" إنك اسوأ من والدك ، كم هو عمرك يا كوري؟".
" إثنان وعشرون عاما".
" أكبر مما توقعت".
وسالته وقد هدأ روعها قليلا:
" إذن لديك فكرة عني؟".
وإستانف لهجته الساخرة:
بكل تأكيد ، أعرف عنك الشيء الكثير يا كوري لايتمر ".
قضمت شفتها حائرة ، ها هو يعود الى الغمز واللمز ، لتغيّر مجرى الحديث :
" كنت تنوي مناقشة مسالة معينة معي؟".
ضحك هازئا :
" أناقش؟ ليس عندأي مناقشة يا كوري ، بل مجرد أوامر ، أوامر نافذة ، نهائية".
قالت بمرارة:
" تعتقد أنك تستطيع معاملتي كيفما تشاء".
فإنفرجت اساريره :
" بالضبط ، إصغي اليّ جيدا يا كوري لايتمر ، والويل لك إذا رفضت ، سأعاملك مثل أي شخص آخر ، لا يهمني انك أنثى كما سبق لي القول ، وسوف تدعين رجالي وشأنهم ، وهو ما قلته لك أيضا ، إياك إستغلال عواطفهم ، يكفي ان مارك وبويد يتنافسان عليك".
فضّلت تجاهل إستفزازاته:
" ألهذا السبب نقلتني من خيمتهما ؟ لا شك أنك مهتم بسلامتي؟"
فإستطرد ساخرا:
" لا تكوني ساذجة ، إن لهما مطلق الحرية ، ولن اتدخل في شؤونهما الخاصة ، إن فتاة تلتحق برحلة كهذه لا تستحق تأمين سلامتها ".
لاحظت أنه يتعمد جرح كبريائها بإستمرار ، نظرت اليه متعجبة :
" ماذا إذن ؟ ما هو مبرر إخراجي من الخيمة؟".
" إنتظر قليلا وقال:
" لم أكن مهتما بسلامتك ، كل ما يهمني تامين راحة رجالي ، علي إتخاذ الإجراءات اللازمة قبل أن ينفجر الوضع بين بويد ومارك".
ردت بإستهجان :
" انت لا يمكنك تخيّل رجل بدون غرائز وضيعة مثل غرائزك ".
" غرائز وضيعة ؟ لا يا عزيزتي ، إنها غرائز الرجولة ، وكلنا سواسية الحمد لهل".
إلتهب الغضب في جوارحها :
" أنت ابغض رجل رايته في حياتي ، ولا توجد قوة في الأرض تجبرني على النوم في خيمتك الليلة".
هدّدها بفظاظة:
" تعرفين ان لا فائدة من عصيان أوامري".
" لا ، ليس هذا صحيحا".
خطت الى الوراء مذعورة ، عازمة على الفرار ، سدّ باب الخيمة ، لا مجال للهرب ، قال لها:
" لا مانع لدي ، من إثبات رأيي ثانية".
كانت هذه المرة على اهبة الإستعداد عندما تقدّم نحوها ، قاتلت بشراسة القطة المحاضرة ، خمشت ، خدشت ، وكشفت عن أنيابها ، ولكن دون فائدة ، ظل كالطود الشامخ ترتطم فيه موجة ضعيفة .
وسالها :
" لماذا تقومين هكذا ؟ انصحك بالرضوخ وإطاعة اوامري ".
فصاحت رافضة:
" آه كم أكرهك ".
" تكرهينني ؟ ما هذه المسرحيات ؟ هل عدنا الى عالم الأزياء ؟ أهكذا كنت تتصرفين مع أريك هوغن؟".
رمت كوري براسها الى الوراء:
" أريك ؟ من أخبرك عن أريك؟".
" إن صحف مدينتكم ليست غريبة عليّ رايت بعض الصور المثيرة لكما معا".
بلعت كوري ريقها ، إذن لقد رأى صورتها مع اريك ، في المطعم ، كم كانت حياتها آمنة آنذاك ، يا لسخرية الأقدار كيف تبدّل كل شيء ! وظل فريزر يحملق في عينيها وهي في حالة من الإرتباك الشديد. |