8- لا يمكنها بناء أي مستقبل مع هذا الرجل ، لتطرد شبحه من ذهنها مرة والى الأبد : إنه لن يتوانى عن تدميرها وسحق آمالها الفتيّة ...
توقعت كوري درسا جديدا من التانيب والتعنيف ، وهي تسير مع فريزر في طريق العودة الى المخيم ، سيفرغ كل ما في جعبته من عبارات الإزدراء والإحتقار ، إنها على أهبة الإستعداد الآن لرد الصاع صاعين ، لن تدعه يهينها وهي تعرف أن بويد تحرّش بها ، وتعقّبها دون دعوة أو تشجيع منها.
ظل صامتا ، يراقب مارك وبويد يحثّان الخطى أمامه ، كان عليها شق طريقها وسط الأعشاب والنباتات الشائكة ، فتركته يتقدمها ، وتلكأت وراءه ، تابع سيره واثقا أنها لن تجرؤ على تحدّي إرادته ، فكرت في الإلتحاق بمارك ، لإغاظته وجرح كبريائه ، لكنها فضلت عدم إستفزازه ، والإنصياع للامر الواقع ، الم تتعلم من بويد وخضوعه لأوامر سيده ؟ أنه لا يقبل أي تجاوز لسلطته المطلقة .
وحلّق بها الخيال بعيدا ، وكانها تغرق في حلم جميل ومخيف في آن معا ، وللمرة الأولى فكرت في فريزر كإنسان مختلف ، نظرت اليه كزوج تحيا معه تحت واحد زوجة واما.
حاولت طرد هذه الأفكار من ذهنها ، إنها افكار مزعجة لا يجوز التوقف عندها ، لا... يستحيل عليها أن تكون له ، إن اية إمراة تتزوج فريزر ملوري ستعاني الأمرين ، وستقع تحت سيطرة رجل متحجر الفؤاد عديم الرحمة ، لا يرضى باقل من الطاعة العمياء.
منتديات ليلاس
وقررت أن المسألة لا تعنيها من قريب او بعيد ، إذ لا يمكن لها أن تكون تلك المرأة وهي تعرف مدى كره فريزر لها ومن الأفضل تركيز إهتمامها على أمور مجدية وعملية، وكان قد حان وقت الغداء ولا بد أن الرجال يتضوّرون جوعا.
ما أن وصلوا الى المخيم ، حتى توجهت كوري نحو المطبخ لتوها وفوجئت بفريزر يسالها :
" الى اين تتوجهين يا كوري؟".
ردّت بصوت يضج تحدّيا:
" ما هذا السؤال ؟ إنني بخير الان ، ولا حاجة الى شكر جهودك العظيمة".
فإقترح بهدوء:
" يمكنك شكر مارك ، تعالي يا كوري ".
ولمحت نظراته الشيطانية تعلن نواياه الخبيثة.
" الى اين؟".
" الى خيمتنا ".
تنهدت باسى ، يا لسذاجتها وطيبة قلبها ، إن فريزر لن يدع الأمور تمر بسلامة ، قالت بإستخفاف:
" ليس لدي ما أعمله في الخيمة ، وتنتظرني واجبات كثيرة في المطبخ ، اراك في وقت لاحق سيد فريزر".
فتحوّل وجهه الى كتلة من العداوة:
" لا يا عزيزتي ، ليست الأمور بهذه البساطة ، أريد مناقشة بعض المسائل معك ، وفي هذه اللحظة".
لا فائدة من المقاومة ، الم يجد بويد نفسه في وضع مماثل؟ وماذا كانت النتيجة ؟إن فريزر يصدر الأوامر وينتظر تنفيذها والإنصياع لها ، اطلقت آخر سهم في جعبتها :
" ليس لديّ ما اناقشه معك".
فتقوّس حاجباه بتهكم:
" إن لديّ أمورا كثيرة اريد مناقشتها معك".
لم ترغب في مشاكسته أمام افراد المجموعة ، إن حظها بالنجاح شبه معدوم ، فلتحتفظ إذن بوقارها وكرامتها ، وتنتظر فرصة أخرى.
اسدل فريزر ستار الخيمة وراءهما ، كان الجو حارا وقاتما وتبينت ملامحه القاسية الصارمة ، فسرت في جسمها قشعريرة خفية ، أشاحت بنظرها عنه ، ثم فكرت بالفرارا الى الخارج ، خانتها قواها فظلّت مسمرة مكانها ، مرت لحظات مشحونة بالتوتر العنيف الخانق ، وتمكنت بعد صراع نفسي مرير من النطق بكلمات متقطعة :
" ما الذي ... تنوي مناقشته معي؟".
أجاب بعنجهية:
" الم أوصيك بالحذر والإحتراس؟".
" أنا... انا لم...".
" ..... وبتفادي المتاعب؟".
إغرورقت عيناها بالدموع ، لا تدري أهي دموع الخوف والرعب أم الترقب وما يخبئه المستقبل المجهول...
إضطربت مرتعشة ويده تلمس ذقنها ، وتحتضن عنقها برشاقة ممزوجة بإصرار عنيد ، وجدت نفسها تحدق في وجهه تنتظر مفاجأة ثانية ، قال لها بصوت عذب رقيق:
" ماذا كنت تتوقعين عندما إبتعدت بمفردك عن المخيم؟"
" لم اتوقع.... أعني لم أعرف انب ويد سيتعقبني".
وإستطرد بصوته العذب:
" كنت تعرفين كل شيء".
قالت بصوت أقرب الى الهمس:
"لا ، عليك أن تصدقني".
فتبدلت لهجته :
" كفي عن التظاهر بالبراءة ، إن هذه الآلاعيب لا تنطلي عليّ ، كل منا يعلم من أنت يا كوري ، وبويد أكثر علما من غيره ، أما مارك فلا يزال غارقا في هيامه كالمراهق ، ويرفض رؤيتك على حقيقتك".
حاولت التملص منه ، فأحكم قبضته حول عنقها ، توسّلت اليه:
" دعني وشأني يا فريزر ".
" بعد أن أنتهي من إشباع رغباتك".
" أنت تسيء فهمي ، كل ما أريده هو الخروج من هذه الخيمة ".
شدّها نحوه:
" ما الذي حملك على التنزه وحيدة؟".
رمت براسها الى الوراء:
" لن اسمح لك بإهانتي ، أنت شاهدتني اقاوم بويد بكل قواي".
فإسترسل في إستهزائه المعتاد:
" ربما كنت تمثلين مسرحية جديدة".
فردّت بمرارة:
" أن بويد يثير إشمئزازي".
" وماذا عن مارك؟ هل كنت تنتظرين مارك في تلك البقعة المنعزلة؟".
وقالت يائسة :
" فريزر لا...".
قاطعها :
" انا آسف لتطفّلي ، وإفساد خطتك ، ولكن لا حاجة الى التوغل في الصحراء بعد الآن ، أنا هنا رهن إشارتك".
خالت أنها في كابوس مرعب ، إرتبكت كطفلة صغيرة ، زائغة البصر ، مشوّشة العقل ، لا تفقه ما يدور حولها ، تمنت في اعماقها لو ان فريزر رجل اقل فظاظة وخشونة ، لماذا لا يخاطبها بهدوء وروية ، ويعاملها بإحترام يليق بمشاعرها ؟ إنها تكن له إعجابا دفينا صادقا رغم تصرفاته وسلوكه ، ألا توجد طريقة ما تمكّنها من التفاهم معه ، وبحث كل الأمور بنضج وعمق ؟ هل كتب لها أن تستمر في عراك مرهق معه ، لا تتوصل الى اية نتيجة حاسمة؟
رأت وجهه يكفهر كليلة شتاء عاصفة ، وكادت عيناه تنفجران حمما ، لا سبيل الى إختراق هذه الحواجز الهائلة ، لتعتصم بالصمت والصبر ، والأمل بغد مشرق بعد هبوب العواصف وزمجرة الرعد.
غرز عينيه في وجهها ، ثم طوّقها بذراعيه ، فاطرقت برأسها توجّسا ، راح يعانقها عناقا طويلا صامتا ، إسترخت وهي تشعر ببعض الدفء ، وبحرارة منعشة مفاجئة ، ما اروعها لحظة ، وما اجملها وهي تذوب كقطعة ثلج ، وتنبت وردة مفتحة البراعم والأكمام تتيه بين أجنحة النسائم ،وتنثر عطرها مع إطلالة الفجر .
أفاقت من حلمها وهي تشعر به يدفع بها أرضا ، ويبتعد عنها ، أصيبت بالذهول ، مرتعدة الفرائص ، مضطربة .
خرج من الخيمة ، مسرعا ، لا يلوي على شيء.
ما هذا الجنون الذي إستبد بها ؟ سالت نفسها منهكة يائسة ، إنها تحب فريزر ولا يمكنها ان تحبه ، إنه يمثل كل ما تكرهه من صفات مشارب ، ومع ذلك ، كانت تتملكها مشاعر متضاربة إتجاهه تأججت في داخلها عواطف غريبة لا تمر بها وهي في صحبة مارك ، رغم إحترامها له ، وتقديرها لمواهبه.
وادركت كوري وهي تستلقي على أرض الخيمة أنها لن تقوى على طرد شبح فريزر من ذهنها حتى ولو الغت الرحلة ، واقفلت راجعة الى منزلها ، كانه قدر محتوم لا سبيل الى رده أو تجاوزه.
أهملت طعام الغداء ذلك اليوم ، ولم يبحث عنها أحد من الرجال ، حتى فريزر إختفى عن الأنظار ، وتركها وحيدة في خيمتها تضرب أخماسا بأسداس.
ومرت ساعة مرهقة ، مليئة بالقلق ، ثم سمعت صوتا يناديها من الخارج:
" كوري؟".
ثم أطل براسه ، فهتفت:
" مارك؟ ما هذه المفاجأة؟".
" هل أنت بخير ؟".
" نعم الحمد لله".
ظل واقفا خارج الخيمة مكتفيا بمد راسه عبر فتحة المدخل.
" تغيّبت عن الغداء".
فإستندت الى مرفقها:
" كنت أعاني من صداع أليم ، يمكنك الدخول يا مارك".
قال بإلتياع:
" لا... هل أنت متأكدة من أن كل شيء على ما يرام يا كوري؟ ألم يسبّب لك بويد بعض الأذى ".
فضحكت قائلة:
" أنت تكفلت بحمايتي ، ولم أشكرك على عملك النبيل حتى الآن".
أجاب وكأنه يعاني من قلق ما:
" كنت قتلته لو تجرأ على خدشك ، وماذا عن فريزر؟ هل عمد فريزر الى..( وتجمّدت الكلمات في حنجرته)".
قالت تطمئنه قدر المستطاع:
" أنا بخير يا مارك ، اقسم لك".
ومرت ثلاثة ايام باهتة ، عادية ، غير أن كوري ظلت متوترة الأعصاب حائرة ، كان فريزر يتجاهلها ويعتصم بالصمت أمامها، وواظبا على تقاسم خيمة واحدة ، يقضيان فيها ثماني ساعات من النوم لا تفصل بينهما مسافة تذكر ، ومع ذلك لم يشعر بوجودها ولو لحظة واحدة.
قامت كوري بكل ما يترتب عليها ، إلتقطت الصور وأعدّت وجبات الطعام ، وصرفت الأمسيات قرب نار المخيم تتحدث الى الرجال ، وكان مارك رفيقها الدائم، حيث حمدت الله أكثر من مرة على صداقته وإخلاصه ، وما ان تلتقي ببويد حتى تجده يشيح بوجهه عنها ، وكأنه ينفذ وامر فريزر بعدم الإقتراب منها ، وهو لا يفعل ذلك ، خاطبت نفسها ، حرصا على مصلحتها ، بل حماية لنفسه.
اصبح صمت فريزر طبيعيا ، إعتادت عليه وقبّلته ، وبدات تعامله بالمثل ، لا تتحدث اليه إلا عند الضرورة ، وبإختصار شديد ، وعندما يهبط الليل لم تكن توحي بأي إستياء أو أرق يقلق نومها .
وما ان تلفظ بإسمها في اليوم الرابع ، حتى أصيبت بالذهول والدهشة المريبة ، إكتفى بالقول:
" هل من جديد يا كوري؟".
كان ينظر اليها بإمتعاض ، ثم إنفرجت شفتاه عن إبتسامة شاحبة ولمحت في عينيه بريقا خافتا يزيده جاذبية ، وظهرت اسنانه بيضاء قوية ، تزين وجها لوحته الشمس بسمرة داكنة ، وبانت رقبته مستقيمة ، وسط ياقة إنفتحت عن صدر عارم عريض.
عجزت عن محو صورته من مخيلتها ، هجمت ملامحه بعفوية تلقائية وإستقرت في ذاكرتها ، خالته سيقترب منها ويلمسها برقة ورشاقة لم تعهدها من قبل.
كم حدّثت نفسها بتجاهله ودفن ذكراه الى الأبد خلال الأيام الفائتة ، لا يمكنها بناء أي مستقبل مع هذا الرجل بل ستجد نفسها تحيا بائسة ، تعاني الوحشة والشقاء والعذاب ، لتطرد شبحه مرة والى الأبد ، إنه رجل لن يتوانى عن تدميرها وسحق كل آمالها الفتية.
وصمت عقلها منزويا يجرجر اذيال الهزيمة ، ها هو فريزر يقف أمامها بكل رجولته وشخصيته الطاغية ، فإستسلمت لعواطفها وغرائزها ترمقه بعينين تشتعلان بلون بنفسجي حالم ، همست:
" مرحبا يا فريزر".
" يبدوعليك االإرهاق".
قالت بتمهل :
" لم أتوقف عن العمل لحظة واحدة".
" وإسترحنا من المشاكل ، والنزهات المنفردة".
تلقت سخريته بكبرياء وأناة ، كان يتمعن في وجهها يكبت قهقهته الشهيرة.
اجابته بعد طول عناء:
" انك على حق ، لم اقم بنزهة واحدة".
فتابع سخريته:
" لا بد أنك قررت الإخلاد للراحة ، والكف عن خوض المغامرات".
نظرت اليه بإستفزاز:
" وما الذي تعنيه بالضبط؟".
" أعني أنك تحتاجين الى تجديد نشاطك ، والقيام بنزهة قصيرة ".
سألته:
" هل ننوي الإنتقال الى موقع آخر؟".
" لا ، لم نستكمل عملنا هنا".
" إذن لا أفهم أي نوع من النزهة يا فريزر؟".
" نزهة الى قلب الصحراء ، ونبيت الليل هناك".
إضطربت قليلا وهي تستفسر :
" تريد إختيار مجموعة صغيرة للذهاب معك؟".
وقال بصوت عذب:
" يمكنك قول ذلك ، مجموعة مكوّنة من شخصين".
" تعني انا وأنت... ولا أحد سوانا".
" تماما".
إنطلقت الكلمات من فمها كطلقات نارية:
" لا ، هذا مستحيل ، ولماذا أنا بالذات؟".
" لأنني في حاجة الى مصور ".
هزت براسها معترضة ، محتجة:
" لا ، لن أذهب معك".
فالحّ قائلا:
" نعم ، نعم".
ارادت أن تصرخ ملء صوتها ، وتتوسل اليه ليعفيها من هذه التجربة المرة ، ألا يفهم هذا الرجل شيئا ، الا يدرك عذابها ، أم أنه يفهم كل شيء ، ويتمتع بتجريدها من كل اسلحتها وأسرارها؟ صاحت:
" يمكن لمارك أن يأتي معنا ".
وسمعت إصراره:
" انت وأنا فقط يا كوري".
لن يفوقها عنادا!
لوى فمه هازئا وقال:
" إذن أنت تموتين خوفا مني يا كوري لاتيمر".
إنها لم تكن خائفة منه ، بل ان مشاعرها وعواطفها هي التي كانت ترعبها وتقلقها ، كيف ستذهب معه وحيدة الى قلب الصحراء ، وتقاوم إغرائه وإنجذابها الى شخصيته ؟ لا ، لا يمكنها الذهاب ، لا لن تذهب ، شمخت برأسها معلنة :
" لا تخدع نفسك يا فريزر ، أنا لا أخاف منك ، كل ما في الأمر انني لا اشعر برغبة في لتنزه خارج المخيم.
تبدلت ملامحه ، ولمحت في وجهه هبوب عاصفة مدمرة ، عنيفة لا تبقي ولا تذر ، قال لها بإصرار حاسم :
" نغادر غدا مع شروق الشمس". |