عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 03-16-2013, 01:52 AM
 
9- حاولت أن تنسى انها تغرس نبتة شقائها مع هذا الحب ، سيكون لها متسع من الوقت لتفكر بذلك ، أما الآن فعليها إقتناص هذه الليلة النادرة مع من تحب.

إنبلخ الفجر يضيء أطراف المخيم المتثائب ، ووقف بيتر بجانب سيارة الجيب لتلقي تعليمات فريزر الأخيرة ، فهو سيتولى مسؤولية الإشراف على العمل في غياب القائد ، وبرز مارك من خيمته يحوم حول السيارة ، كالح الوجه ، كئيب المظهر ، أحست كوري أنه يتمنى لو يستطيع منعها من الذهاب ، لكنه إختفى بإلقاء تحية الوداع ، موصيا إياها بالإحتياط والحذر.
كان الفضاء يستحم بشعاع يوم جديد عندما غادرت السيارة المخيم ، شعرت كوري بلسعة برد خفيفة ، فتلحفت ببطانية زوّدها بها فريزر ، جلست صامتة على الطرف الأقصى من المقعد ، لا تدري ما تخبئه لها الأيام المقبلة ، وخامرها إحساس غريب بتطورات جديدة ستقلب حياتها رأسا على عقب .
إعتصم فريزر بالصمت أيضا ، يقود السيارة فوق منبطح متعرج مليء بالحفر ، يحتاج الى تركيز تام ، وراحت كوري بين الفينة والأخرى تختلس النظرات اليه ، بدا كما توقعته دائما صارما ، حازما ، مسيطرا على زمام الأمور.
منتديات ليلاس
فكرت في الحياة الزوجية معه ، وبما تنطوي عليه ، لم يخامرها شك أنه سيكون الشريك المهيمن ، ولكن زوجته ، إذا كانت تحبه ، ستجد سعادة في العيش مع رجل بهذه الصفات ، إذ أن شخصيته المهيمنة تعني أيضا الأمان المادي والنفسي ، والإطمئنان الى قدرته على معالجة أية مشكلة طارئة.
هل تقبل زوجته الجانب السيء من طبيعته ؟ ولم تتردد كوري في الإجابة على سؤالها بنعم كبيرة ، إنه يخفي وراء هذا التفوق العالي حنانا عميقا ، حارا ، اوهكذا إرتأت كوري أن تتصوره.... زوجا محبا ، يفيض عاطفة وحنانا.
" هل تستغرقين في أحلامك؟".
رن صوته كالجرس في تلك السكينة ، فنظرت اليه مندهشة ، كانت واثقة من إنهماكه في التركيز على الطريق الصعب ، فلم يتبادر الى ذهنها أنه يعبأ بها ، يا لقوة ملاحظته وحدة ذكائه.
قالت له:
" كنت أفكر في هذه الصحراء وغرابتها".
علّق يطمئنها:
" إنها حقا صحراء غريبة ".
ولم يفت كوري ان الحديث لم يكن يدور حول الصحراء ، القت نظرة من النافذة وقالت:
كل هذه الأعشاب ، والمستنقعات ، كنت اتوقع مجرد بحار من الرمل".
قال متمهلا:
" وتوجد رمال أيضا ، وبكثرة وغزارة ، ولكن من الصحيح القول أن التنوّع هو سمة هذه الصحراء ، وهذا ما يعجز عن فهمه اللذين لم يسبق لهم المجيء الى هنا ".
إستطردت ، وهي ترى سربا من الظباء يعدو فوق العشب اليابس بحركات منتظمة:
" كم كان والدي سيعجب بهذا المشهد".
فوافق بصوت هادىء ، متعاطف :
" لا شك في ذلك".
سألته دون ان تلتفت اليه:
" أنت لا تكرهه إذن؟".
" لم اكرهه في حياتي ، إختلفنا في الراي ، ولكن إحترامي له ظل كما هو ( ولمست يده ذراعها ) إنظري يا كوري ، هل شاهدت ذلك الفيل؟".
بلعت ريقها :
" ما اغباني ، خلته في البداية صخرة من الصخور".
" إنه فيل".
إزدادت إهتماما :
" هل هو خطر ؟".
" في بعض الأحيان ، إن خطره يتوقف على كيفية تصرفنا".
هل يحدثها بعبارات مبطنة مرة أخرى ؟ لم تعد تبالي ، إنها تعرف الآن مدى إعجابها به ، ورغبتها في إختراق اسراره الدفينة ، وهي تعيش لحظات مليئة بالمفاجآت والإبتهاج والتوقع.
وشعرت باصابعه تلتف بقوة حول ذراعها وكأنه يقرأ أفكارها :
" تمتعي بهذه الأيام النادرة يا كوري".
ولاحت إبتسامة خفية فوق شفتيه ، فسرت في فؤادها غبطة عارمة :
" هذا ما أنوي فعله".
وتبدلت الأجواء بعد ذلك ، لم يعد محتما عليها الإستمرار في الحديث بل اخذت الأمور تبدو طبيعية ، عفوية ، وزال أي توتر أوشعور بالضغط والتكلف ، كان فريزر يعرف الصحراء جيدا فراح يدلّها على اشياء جديدة من الصعب أن تتبيّنها وحدها .
إزدادت الشمس سطوعا ، ترسل أشعتها الحارقة فوق الشجيرات والأعشاب والرمال ، وتوالت المشاهد الطبيعية أمام عيني كوري ، زرافات وفيلة ، ظباء ، وقطعان من الوعول ذات القرون الحادة ، القوية.
وتراءى في البعيد صف من التلال الواطئة، تعانقها أكوام هائلة من الصخور ، وبدا فريزر يتجه مباشرة نحو الصخور ، هتف بعد قليل :
" هل الكاميرا جاهزة؟".
أوقف السيارة على مقربة من الصخور ، وامسك بيدها يساعدها على السير فوق الرمل الناعم ، لم ترفض مساعدته ، مع انها كانت قادرة على تدبّر أمرها.
وها هو بثقة عارمة جازمة يشير الى الرسوم الصخرية ، تلك التي داعبت أحلام والدها ، وشغلت ايامه ، وملكت جوارحه ، حبست كوري أنفاسها ، وهي لا تكاد تصدق عينيها.
إنها تراها الان كما هي منحوتة ، بارزة، رائعة ، توقفت طويلا امام المشهد الأول ، الذي يظهر مجموعة من الصيادين يطاردون جاموسا.
كانت هناك رسوم عديدة ، يروي كل منها قصة مختلفة ، ولم تتمالك من إبداء إعجابها بمهارة هذا الفن القديم وهي تمعن النظر بدقة وكأنها في حلم جميل .
مضى بعض الوقت قبل ان تتذكر آلة التصوير المتدلّية من كتفها ، وإنكبت تلتقط الصور بلهفة وشغف وحماس.
وحان وقت إستئناف الرحلة ، حيث توغّلا في قلب الصحراء أبعد فابعد ، وعثرت على مزيد من الصخور والرسوم ، وتابعت إلتقاط الصور بينما كان فريزر منهمكا في امور أخرى.

إلتفتت كوري حولها ، منتبهة الى إقتراب المساء ، وإمتداد الظلال ، سيهبط الظلام بعد فترة وجيزة وهما على بعد أميال من المخيم ، كانت تعرف منذ البداية ، انهما سيقضيان الليل وحيدين في الصحراء ، ولكن معرفتها أصبحت الان واقعا ملموسا داهما.
أوقف فريزر السيارة قرب كومة من الصخور ، واطفأ المحرك ، وأعلن :
" سننصب الخيمة ، ونبيت الليلة هنا ".
وافقت بوجّس :
" نعم ، إنها بقعة ملائمة ".
حدجها قائلا :
" ماذا دهاك ؟ يبدو عليك القلق يا كوري".
ردّت بسرعة:
" لا تكن سخيفا".
قالت مبتعدة عنه:
" نعم ، لا يوجد ما يدعو الى القلق ، الم يسبق لنا ان تقاسمنا خيمة واحدة ؟ يكاد الظلام يداهمنا ، فلنبدأ بنصب الخيمة يا فريزر".
راته يكبت ضحكة خبيثة ، إنه يفهم مشاعرها ، فكّرت بحزن ولا سبيل االى إخفائها عنه.
وسمعته يقول موافقا وهو يتجه نحو السيارة:
" إنها فكرة صائبة".
نصب الخيمة بسرعة فائقة ، وأوقد النار لإتقاء لسعات البرد ، بدت الخيمة صغيرة ، موحشة معزولة ، فوق بقعة شبه قاحلة ، تحيط بها الرمال من كل جانب ، رمال مترامية في كل إتجاه الى ما لا نهاية .
حمل فريزر صندوقا ثقيلا من السيارة ، ورماه بجانبها ، عرفت كوري أنه يحتوي مآكل متعددة.
كان الليل يرخي سدوله ، وهما يتناولان طعامهما ، وفوجئت كوري بشهيتها ، وإلتهامها الأكل إلتهاما ، رغم إعداد فريزر لهذه الوجبة المرتجلة ، المكونة من لحوم المعلبات المالحة.
غمرتها الطمأنينة ، وهي تجلس قرب النار ذات الهسهسة المتناغمة والسنة اللهب المتراصة ، إنها ليلة ستظل محفورة في ذاكرتها مدى الحياة ، غدا عندما تعود الى منزلها ، والدها والمدينة وضوضاءها ، ستحملها أجنحة الخيال الى هذه البقعة بخيمتها الصغيرة ، ونارها الدافئة ، وستغرورق عيناها بالدموع وهي تستعيد قصة حبها الجامح ، المجنون.
نعم ، إنها تحب فريزر ، وهي تدرك ذلك الآن ، منعها عنادها وكبرياؤها من الإعتراف بهذه الحقيقة قبل هذه اللحظة ، خالت مشاعرها في ذلك الحين مجرد نزوة عابرة لا تلبث أن تزول ، إنها تحب فريزر ليس لانه شخص جذاب فقط ، بل لأسباب أخرى كثيرة ، تعشق قوته ، وحنوّه ، وتحب عقله الحاد الذكاء وإستقامته وأمانته.
تحبه كما لم يسبق لها أن أحبت احدا من قبل ، كم تبدو علاقتها بصديقها أريك سطحية وتافهة أمام هذا الحب الجارف ، الصادق ، لم يعد اريك أكثر من ظل باهت لا يحتل حيزا من وجودها.
ستحب فريزر الى الأبد ، هذا ما أدركته الان ، وأدركت أنها تغرس بنتة شقائها مع هذا الحب ، إذ أنها لا تعني له شيئا ، لم يبادلها عواطفها ، ولا يفكر إلا في رغباته الخاصة.
حاولت طرد شبح الشقاء من مخيلتها ، سيكون لديها متسع من الوقت لمعاناة كل ذلك في المستقبل ، أما الآن فعليها إقتناص هذه الليلة النادرة والتنعم بوجودها مع الرجل الذي تحب.
راحا يتجاذبان أطراف الحديث ، وإكتشفت كوري صفات كثيرة مشتركة تجمعهما، كلاهما يحبان العيش في الهواء الطلق ، والتمتع بجمال الطبيعة ، يستمتعان بالألحان الموسيقية نفسها ، ويهويان مطالعة الكتب عينها ، حدّثها فريزر عن مشاريع بالنسبة الى مزرعته ، ومتاعب تربية الأغنام وإيجابياتها أيضا ، وظلت صامتة تصغي بينما يروي لها أحلامه وآماله ، وجدت غبطة عارمة في الإصغاء اليه يسترسل في الكلام ، فتمنّت لو تمكث معه قرب النار الى الأبد.
ثم كف عن الكلام ، غارقا في تفكير عميق ، وسمعته يسالها برقّة:
" وما هي مشاريعك يا كوري؟ لا بد انك تتوقين الى إستئناف عملك ، والعودة الى عالم الأضواء والتالق".
همست ، تخنق غصّة:
" هذا ما يراه الجمهور من عالم الأزياء ، ولا علاقة له بالواقع".
ألحّ قائلا:
" أنت تتوقين الى العودة".
أرادت أن تقول له : ( كلا ، لا أرغب في العودة ، وعلى الأقل ليس الى العالم الذي عرفته ، اريد الذهاب معك الى مزرعتك والعيش وإياك طول العمر ) كيف ستكون ردّة فعله ؟ هل يحتقرها ويسخر منها ؟ أم يتجاهلها ويمضي في سبيله لا يلوي على شيء ؟ لا تستطيع تحمل تجاهله وإنقطاعه عنها ، وقالت بصوت مرتفع:
" هذه هي مهنتي يا فريزر".
تمهّل في الجواب ، ورأته يحمل قطعة من الخشب ثم يرمي بها فوق لهب النيران ، وخرجت الكلمات من فمه بتأن وأسى ، فأدركت إساءة فهمها لنواياه وعواطفه :
" نعم عليك الإهتمام بعملك كما عليّ الإهتمام بعملي".
وسألته وكأنها لا تدري مغزى عبارتها :
" هل تظن أننا سنلتقي ثانية؟".
نهض واقفا ، يحدق في البعيد:
" أنا لا أتردد على معارض الأزياء ، تقدّم الليل يا كوري ، هيا بنا الى النوم".
سبقته الى الخيمة ، تلك كانت عادتها ، وكان يتمهل قليلا في الخارج الى أن تخلع ثيابها وتأوي الى فراشها ، أما في تلك الليلة فلم تشعر باي دافع الى لإسراع ، والحذر من العيون المتربصة ، تعمّدت أن تخلع كل قطعة من ثيابها ببطء وهدوء ، وكأنها وحيدة في غرفتها لا يقلقها أحد ، ولا تتوجس خيفة من هجوم مفاجىء ، وسمعت وقع خطواته الوثيدة تقترب من الخيمة ، وها هو يدخل ويمضي الى زاويته ، إستدارت صوبه ، لم يتحرك ، وباشر بإعداد فراشه رابط الجاش فاتر الأحاسيس ( يا له من ثعلب مخادع) خاطبت كوري نفسها ، إرتدت ملابس النوم ، وهو مطرق الراس ، يرفض رفع بصره أو الإيحاء بأي إهتمام.
إقتربت منه بدلال أنثوي ، وقلب خافق ، كادت تلتصق به ، توقعت أن يذوب الجليد ، ويجذبها نحوه بحنّو وشغف ، لكنها سمعته يزمجر صارخا:
" عودي الى مكانك ، كفى خبثا ومراوغة".
وصاحت بصوت جريح:
" ما الذي تعنيه يا فريزر؟".
" أنا اعرفك جيدا ، وأعرف مؤامراتك والاعيبك ، تآمرت عليّ ، وتسللت الى رحلتي في ثياب رجل ثم دبّرت مكيدة للإيقاع بين مارك وبويد ، وماذا تحيكين الآن من مكائد ؟".
إسودّت الدنيا في وجهها ،وهتفت:
" يا لك من وغد وقح ، أخرج من الخيمة الان ".
وراته يندفع الى الخارج كالثور الهائج.
لم يعد الى الخيمة إلا بعد أن تكومت في فراشها ، وظن انها تغط في نوم عميق ، وأحست به ياوي الى فراشه بهدوء ، ظلت مستيقظة يؤرقها قلق عاصف ، يا لها من فتاة غبية ، ها هي تتعرض للغهانة ، مرة تلو المرة ، ومع ذلك يضطرم حبه في فؤادها ، وتهيم عشقا برجل فظ ، متحجر القلب.
وشعرت بحركة خفيفة حول فراشها ، بإنزلاق شيء ما ، حملقت في الظلام ، وكادت ان تصرخ مذعورة لولا أن صوتا في داخلها منعها من إرتكاب حماقة كبرى.
كانت أفعى طويلة ملساء تتمدد قربها ، إنها افعى سامة تدعى الكوبرا.
عليها الإحتفاظ بهدوء اعصابها ، عن اية حركة ستؤدي الى عواقب وخيمة.
هل توقظ فريزر ؟وكيف دون أن تجفل الكوبرا ؟ لا بد لها من التصرف بحذر شديد إذ أن زلّة واحدة تقضي عليها إلتفّت الأفعى منزلقة نحوها ، فتجمد الم في عروقها ، ارادت أن تمسك الأفعى وتقذفها بعيدا ، أرادت ان تصرخ ملء حنجرتها ، ولكنها كانت تدرك مغبة أعمال طائشة كهذه.
همست :
" فريزر".
إستيقظ لتوه ، نظر اليها مستفهما.
" ماذا؟".
تابعت همسها ، مشيرة الى الأفعى:
" صه ، كوبرا".
تمتم بهدوء:
" لا تتحركي ، سأتولى أمرها".
تناول عصا كان يحتفظ بها ، وإنقض على الفعى يشبعها ضربا ثم رماها عن الفراش وسحق رأسها على الأرض ،وحملها بطرف عصاه الى خارج الخيمة جثة هامدة.
وعاد بعد قليل وكوري لا تزال ترتجف ذعرا ، سألها بلهجة حارة صادقة:
" هل أنت بخير يا كوري؟".
نظرت اليه ، وفغرت فمها لا تستطيع التفوه بكلمة ، سقطت ارضا مولولة ، محطمة الأعصاب .
رفعها بيديه القوييتين ، مردّدا :
" كوري.... كوري ، لا تخافي ، لا حاجة الى كل هذا الآن"
كان وجهه باهرا ، نبيلا لا أثر للإزدراء أو السخرية في ثناياه ، وتمتمت:
" ليلة البارحة..".
" اعرف ، تصرفت بغضب".
سالته بإستغراب:
" لماذا غضبت؟ ماذا فعلت لأثير غضبك؟".
" لا شيء يا عزيزتي ، كنت رائعة وجميلة كعادتك".
" وماذا بعد؟".
" سأشرح لك كل شيء في وقت لاحق".
وعانقها بحرارة وكأنه يكفر عن كل ذنوبه ، ويعتذر لها مبديا أسفه لعنجهيته ، وتصرفاته الفظة ، وكلماته النابية ، وتهمه الباطلة.
نهضا صباح اليوم التالي إنسانين جديدين ، وجلسا يتناولان طعام الفطور ، ويحتسيان القهوة ، والشمس تطل براسها فوق الافق البعيد ، مرسلة اشعة دافئة ، منعشة ، لم يتبادلا سوى بعض العبارات المقتضبة ، كان الحب الذي يجمعهما أبلغ بيانا وأرقى تعبيرا من أية كلمات ، مهما سمت معانيها.
وتأكدت كوري أن الندم لن يزورها بعد الآن ، ولن تعرف للأسف مكانا في قلبها.
ولم يتبادر الى ذهنها ، إلا بعد وقت طويل ، ان فريزر لم يقل لها انه يحبها بعد أن أعترفت بحبها له.
تابعا رحلتهما وسط الصحراء، وإنطلقت بهما العربة فوق كثبان الرمال والنباتات الشائكة ، وفجأة أطفأ فريزر المحرك وترجل من السيارة ، إعتقدت كوري أنه يبحث عن شجيرات وارفة الظلال لإتقاء الحر الحارق الذي أخذ يندلع من تلك الشمس الساطعة وهي تتوسط الفضاء ، قال لها :
" إنتظري هنا ، ساعود بعد لحظة".
راته يحث الخطى نحو أجمة من الشجار ، ويدور حولها كأنه يفتش عن شيء ، ولم يلبث أن قفل عائدا ، وفتح لها باب السيارة لتترجل ، نظرت اليه مندهشة ، لا تجرؤ على الإستفسار عن معنى كل ذلك
مشت وراءه الى الأجمة، وكانت الحرارة حارقة تكوي نعليها كيّا ، وتابع فريزر المسير غير عابىء بظل شجرة عارية ، ففطنت الى أنه لا يفكر في الحر الخانق الان.
لم يقع نظرها على الصخور الى أن أصبحت على بعد خطوات منها ، إستدار فريزر وأومأ اليها بالتقدم .
لم يقل شيئا ، لكن عينيه تألقتا ببريق غريب ، اثار إستغرابها وزادها حيرة ، جمدت مكانها تجيل النظر حولها ، هدا روعها وغمرها شعور عارم بتوقع مفاجأة سارة طالما حلمت بها ، أمسك فريزر بيدها ، ليعبرا ممرا ضيقا بين الصخور ، يؤدي الى كهف شبه مظلم.
كانت أكوام من الحجارة تحجب المدخل ، فكادت تتعثر وهي تتبين معالم درب ضيق كسته العشاب والنباتات الشائكة ، ضغط فريزر على يدها يساعدها ، ويجرّها الى الأمام.
وها هما يقفان داخل الكهف ، خفق قلبها دهشة ، مبهرة لا تصدق عينيها.
كانت رسوم الحيوانات الصخرية مطابقة لوصف والدها لها... منظر صيد يغطي حائطا باكمله ، وأدركت سر توق والدها ، وهيامه بهذه الرسوم وهي تلمس الدليل القاطع لمس اليد.
وراحت عيناها تتنقلان بين رسوم حيوانات متعددة ، متنوعة ، بارزة الأطراف ، واضحة التفاصيل ، تكاد تقفز من مكانها بعفوية طبيعية رشيقة الحركة ، سريعة العدو.



رمقت فريزر ببصرها ، كان يراقبها وفي عينيه ألف سؤال ، عجزت عن النطق أو التعبير عن مشاعرها الجياشة ، تبدلت ملامحه وإرتسمت فوق ثغره إبتسامة دافئة ، عذبة ، وطوق منكبيها بذراعه مؤكدا إعتزازه بها، وإغتباطه بمشاطرتها هذه اللحظات النادرة.
عاد الى العربة لجلب ىلة التصوير ، وإلتقطت كوري عددا هائلا من الصور ، وتمنت لو تستطيع الإتصال بوالدها ، وإبلاغه نبأ إكتمال حلم حياته وعمله.
جلست في العربة تطير فرحا وسعادة ، ترقب فريزر وراء المقود متوجها بها في طريق العودة ، تململت في مقعدها ، تسأله وهي تعرف الجواب سلفا :
" هل أتيت بي الى هنا للعثور على الرسوم الصخرية؟".
" نعم".
إستطردت:
" إذن كنت تؤمن منذ البداية بوجودها؟".
فأجاب مبتسما:
" إن والدك رجل عنيد يا كوري ، وهو ايضا حكيم وداهية ، كنت واثقا من نظريته وبعد نظره ، ولم يخب ظني ".
وصلا الى أطراف المخيم ، ورات فريزر يوقف العربة وسط دائرة من الأشجار ، طلب منها إلتقاط بعض الصور في تلك البقعة دون ان يوضح لها مغزاها او اهميتها ، وإنكبت على عملها وهي مدركة أن الفيلم في الكاميرا شارف على نهايته ، ووقف فريزر يدلي برايه ، ويشير عليها بإلتقاط هذه الصورة أو تلك.
وفجأة سمعت حركة ثقيلة ، ووتا عميقا كالبرق ، إلتفتت مذعورة فرأت فيلا هائجا يهجم عليهما ، أسرع فريزر يجرها من يدها للفرار قبل فوات الأوان.
وأطلقت ساقيها للريح راكضة صوب العربة ، سقطت آلة التصوير من يدها فوق خرة ناتئة ، وتناثرت شظاياها فوق الرمال ، أرادت ان تعود لعلها تنقذ الفيلم الذي يضم شريطه حلم والدها ومحور حياته وعمله ، غير ان فريزر دفعها الى الأمام ، وهو يعرف أن تعرّض الفيلم للضوء قضى عليه وافسده.
ابدى فريزر أسفه وهو يدير محرك السيارة ، لم يكن في وضع يسمح له بالعودة الان ، بدأ الطقس يتغير ، وتجمعت سحب قاتمة تنذر بعاصفة رهيبة ،وهما قرب المخيم الان ، وكادت الرحلة تنتهي ، لن يهدر فريزر مزيدا من وقته الثمين ، ويريد مغادرة الصحراء قبل أن يقع ضحية تطوّرات مباغتة.
إنضما الى الرجال في المخيم ، وإنصرف فريزر الى اعماله المتعددة، لاحظت إهماله وتجاهله لها ، وغرقه في أحاديث خاصة مع المجموعة ، يا لبؤسها وشقائها ، ماذا تفعل الآن ؟ وقعت في حب رجل غريب الأطوار ، وأعترفت له بصدق مشاعرها الدفينة ، وها هو يمر أمامها وكأنها شخص عادي ، لا يعبأ بها ، ولا يبالي بأعابها المرهقة ، وإضطرابها وقلقها.
أوت الى فراشها في وقت مبكر ، ولم يزرها النوم إلا برهة وجيزة ، ظلت مؤرقة ، تشعر بالم موجع وعذاب نفسي طاغ ، ودخل فريزر الى الخيمة في ساعة متأخرة حيث خلع ثيابه بسرعة، وغط في نوم عميق مطمئن البال ، لا يعكر صفو ليلته شيء مطلقا.
نهضت باح اليوم التالي ، فاخبرها الاخرون ان فريزر ذهب قبل إنبلاج الفجر الى مكان ما خارج المخيم ، ظلت امتة ، تتأجج في داخلها نيران الغيظ والحيرة.
تقدم منها مارك يلقي التحية بخجل وإحترام ، ودعاها للسير معه في نوهة قصيرة ، لم ترفض بل قفز قلبها فرحا ، إن مارك صديق مخلص تعتمد عليه ، وترتاح الى رفقته ، وما أن سارا بضع خطوات حتى توقف فجأة ، واطرق براسه ، وبغريزة الأنثى توقعت كل كلمة سينطق بها ، وما لبث أن سالها بعفوية مدهشة:
" كوري.... كوري هل تتزوجينني؟".
أجابته بلطف وكياسة:
" مارك ، يا صديقي العزيز ، اتمنى من أعماق قلبي أن أقول نعم ، ولكنني لا أستطيع".
إحتضن يدها برقّة:
" ساوفر لك كل السعادة والأمان".
" أعرف ذلك".
يا ليتها لم تقع في حب فريزر ، خاطبت نفسها ، إن مارك أكثر لطفا واشد نبلا من أي رجل عرفته ، ولكانت أحبته حبا جما لولا شبح فريزر الذي لا يبارحها ، إن مارك يمثل كل الصفات التي تتمناها في الزوج المثالي الذي تحلم به.
ولكنها تحب شخصا آخر ، ولا يجوز لها أن تظلم مارك وتخدعه ، وقال بصوت مضطرب:
" كوري".
" مارك ، لا استطيع ، انا آسفة".
" هناك شخص آخر ( وعندما لم تجبه تابع بحدّة ) فريزر ، اليس كذلك؟".
إغرورقت عيناها بالدموع يمزقها صراع حاد ، وإزداد مارك عنفا :
" إن فريزر لا يليق بك يا كوري".
" لا يليق...".
" إنه لا يؤمن بالزواج".
قالت متنهدة:
" انا اعرف هذا ".
جذبها نحوه برفق:
" إذن.... لن تقضي حياتك وحيدة ، إنني أحبك يا كوري".
إعتصمت بالصمت ، وإستسلم مارك للأمر الواقع ، قفلا عائدين الى المخيم ، وكأن رابطا خفيا كان يشدّهما الى بعضهما إنقطع فجأة ، كانا يسيران على ارض المخيم بوجل ، وتوجس ، وإلتفت مارك نحوها:
" وداعا يا كوري ، لا أعتقد اننا سنلتقي ثانية ، علينا الإستعداد الآن للرحيل من هذا المكان والرجوع الى المدينة ".
أرادت كوري ان توضح مشاعرها الحقيقية إتجاهه ، وتؤكد مدى إعجابها به وإعتزازها بداقته ، ثم فطنت الى وجود فريزر يقف على بعد أمتار منهما يراقبهما بحذر وترقب ، راحت تنادي اسمه، وقد أذهلها بعودته الى االمخيم :
" فريزر ... لم أتوقع عودتك بهذه السرعة".
إكتفى بهزة من رأسه ، وتوجه الى خيمته عابس الوجه ، متثاقل الخطى ، ثم قفل راجعا ، وسمعته يعطي أوامره الى الرجال بحزم الأمتعة ، والإستعداد للرحيل خلال ساعة من الزمن.