03-30-2013, 11:09 AM
|
|
نظر خارج واجهة المقهى المتواضع حيث يجلس ، و راقب نتف الثلج المتساقطة على الطريق بهدوء. كان المساء قد حل سريعا رغم أنه لم يتجول كثيرا ، لم يهمه ذلك فلم تكن لديه وجهة محددة اليوم. لقد أراد الخروج فحسب .. دونما هدف و دون سبب ... مجرد رغبة في التجوال بين الناس قد قادته إلى هنا ! كان أليستر يعلم كم بدا غريبا و ملفتا للأنظار بإرتدائه للنظارة الشمسية الداكنة مساءا داخل المقهى ! لكنه كان يعلم أيضا أنه لن يجلس هنا بهذه الأريحية إذا ما لاحظ أحد أنه "أليستر شون" .. واحد من السيلفري سبيريتز ، لذا .. ما من استغناء عن النظارة !! عاد للنظر إلى المكان الصغير الشبه الخالي حوله ، لاحظ من خلف نظارته الداكنة .. تلك النادلة الرشيقة التي تتحرك بين الطاولات لتدون طلبات العدد القليل من الأشخاص المتفرقين في أنحاء المقهى ، كانت تبتسم للجميع .. فيما عدا شاب لاهي جلس في المنتصف ، كان يرميها بتعليق ما كلما مرت من جواره ، فتحدجه هي بنظرة ترمي بقواعد "حسن معاملة الزبون" عرض الحائط !! _أيتها النادلة .. عفوا ! ناداها أليستر .. محاولا أن لا يبدو نافذ الصبر بسبب إنتظاره الطويل ، أدارت رأسها إليه و ضيقت عينيها للحظة .. ثم تحركت بإتجاهه ! شملته بنظرة فاحصة سريعة .. بدت و كأنها تقرر صنفه من خلالها ، ثم ألصقت ابتسامة كبيرة لا معنى لها على شفتيها فور أن وقفت أمام طاولته ، و سألت : _ماذا تطلب سيدي ؟! قطب أليستر حاجبيه و قد أزعجته ابتسامتها المتكلفة .. بدت و كأنها جزء من زيها الوردي الخاص بالمقهى أكثر منها ابتسامة .. شيء هي مضطرة لرسمه على وجهها بغض النظر عن الزبون و نوعه ! _قهوة إسبريسو من فضلك ! قالها أليستر بهدوء و هو يتأملها متفحصا هو الآخر ، بدت فتية ... ربما في مثل عمر ليو ، لاحظ بشكل عابر وجهها ذي الجمال العادي و شعرها المربوط خلف رأسها ، لكن الشيء الذي لفت نظره حقا كان لمعة عينيها الزمرديتين .. بريق يعكس روح صاحبته القوية ! زمت شفتيها الورديتين فيما بدا ازدراء ، و قالت : _لا نقدم ذلك هنا ! _لا تقدمون قهوة في مقهى ؟! صححت له : _لا نقدم النوع الذي أنت معتاد عليه .. فهذا المكان متواضع ! ابتسم أليستر من لهجة التحدي التي لم يكن لها داعي في صوتها : _ليس لديك فكرة عما أنا معتاد عليه .. آنستي ! تبادلا النظرات لثوان قبل أن يقول أليستر وهو يميل بجذعه المسترخي بإتجاهها ، مسندا مرفقيه إلى الطاولة و شابكا يديه : _سآخذ قهوة عادية إذا. هزت رأسها و قد ارتسمت تلك الابتسامة الآلية على شفتيها من جديد : _حالا سيدي ! و انصرفت تتركه ينظر في إثرها بإهتمام لم يدري له سببا ! سلمت قائمة الطلبات لعامل آخر ، و وقفت تنتظر .. تنهدت بإنهاك وهي تنظر إلى ساعة كبيرة معلقة على الحائط مقابلها ، إنها الثامنة و خمسة و عشرين دقيقة ، بقي خمس دقائق و تنتهي مدة عملها ! لقد أرهقت بشدة اليوم .. كم تتوق إلى الإرتماء على سريرها الصغير الدافئ و الغرق في النوم ! لكنها لن تنام فور العودة للمنزل ... فمزيد من العمل ينتظرها هناك أيضا !! بالنسبة لها .. الراحة حلم بعيد المنال .. صوت غليظ مزعج أخرجها من أفكارها : _هذا هو كوب القهوة الإستثنائي ... حاولي أن تكوني لبقة و مضيافة مع ذلك الزبون فانينغ ! التقطت الصينية التي يعلوها كوب واحد فقط على غير العادة ، و نظرت بتساؤل و حيرة إلى صاحب المقهى. أشار الرجل برأسه نحو أليستر موضحا : _يبدو الثراء على هيئته .. أنا أراقبه منذ دخل ، أريدك أن تبذلي جهدك كي تجعليه يدفع جيدا .. أمثاله لا تهمهم النقود ، إنه زبون لا يعوض ! ضيقت عينيها باشمئزاز من الجشع المطل من ملامح مديرها البدين ، لكنها لم تجادله ... هي أكثر تعبا من أن تجادل أحدا الآن ! إستدارت حاملة الصينية و مشت نحو أليستر. نظرت إلى الثري الأحمق .. كما سمته ، تستطيع أن ترى أن معطفه الفاخر وحده يساوي أكثر من ألفي دولار ! كم تزدري هذه النوعية من الناس !! لكنها .. و بطريقة ما تشعر به مألوفا لديها .. أين يمكن أن تكون قد رأته ؟! _تفضل سيدي ! قالتها بابتسامتها المتكلفة من جديد ، رفع أليستر رأسه إليها و قد كان شاردا ، تمتم بالشكر بينما تضع كوب القهوة أمامه. كان سيرفعه ليأخذ رشفة .. حين لاحظ أنها لاتزال واقفة إلى جانبه ! _هل من مشكلة ؟! _لا .. أبدا ! قالتها بإقتضاب .. ثم تابعت بشيء من الارتباك : _كم ستدفع لقاء القهوة سيدي ؟! عقد أليستر حاجبيه باستغراب : _المبلغ المعتاد .. كما أظن ، ألا يجب أن تحضري فاتورة أو ما شابه ؟!! أومأت برأسها إيجابا و قالت بتردد : _إنها .. مئتي دولار ! ازدادت تقطيبة أليستر تعبيرا عن تعجبه : _لقاء كوب قهوة ؟!! ظننتك قلت أنه مكان متواضع ! تنهدت الفتاة بعمق .. ثم تخلت فجأة عن قناع النادلة البشوش ، أحاطت الصينية بذراعيها وهي تشرح بنزق : _اسمع .. أنت ثري كما هو واضح .. و تستطيع الإستغناء عن مبلغ تافه كهذا ، فقط ادفعه و سيكون رئيسي الغبي سعيدا ، و يتركني ارحل ... لقد تعبت بما يكفي هذا اليوم ! حملق بها دون أن تظهر أي ردة فعل على وجهه المختفي نصفه خلف النظارة السوداء. ما جعلها تشعر بالقلق .. ماذا دهاها لتقول ما قالته ؟!! ستسبب لنفسها مشاكل لا حصر لها .. لابد و أن تعبها أفقدها التفكير باستقامة !! تحدث أليستر بهدوء : _حسنا يا آنسة ... _ويلو فقط .. دون آنسة .. و أنا أعتذر عما قلته .. بإمكانك أن تعده مزحة سمجة ! أخبرته بتوتر ، فقال بلطف : _لا بأس ويلو .. تبدين متعبة بالفعل ، هل تظنين رئيسك المستبد يمانع لو طلبت منك الجلوس قليلا ! التفتت إلى الخلف لحظة .. تنظر إلى رئيسها البدين الذي يتظاهر بالانشغال في أوراق ما بينما يراقبهما ، بالتأكيد هو لن يعترض إذا جلبت له المئتي دولار في النهاية ! عادت تنظر إلى أليستر .. و عاد ذلك الشعور بمعرفته سابقا ينتابها .. غمغمت : _انتهت مناوبتي على أي حال ، لكني لا أعرف لما قد تريد مني الجلوس معك ؟! منحها أليستر ابتسامة مهذبة يطمئنها بها ، بينما يتساءل بينه و بين نفسه ، عن سبب إهتمامه بها بهذا الشكل ... لما يشعر بها فريدة و مختلفة عن غيرها ؟! و لما قد يهمه ذلك و إن كان صحيحا ؟! _لست مرتاحا في الحديث معك و أنت واقفة ، هيا اجلسي .. لا أرى مشكلة في ذلك ! ترددت ويلو لحظة .. ثم تحركت لتجلس في المقعد المقابل لأليستر. استطاع الشعور بارتباكها بينما أنظار العدد القليل من الناس في المقهى مصوبة إليهما ! _اهدئي .. أنا لا أعض ! قالها أليستر بتسلية ، ليس أنه لا يتفهم .. لكن نظرات الناس نحوه لم تكن لتزعجه و قد اعتادها بفضل شهرته. تحفزت ويلو سريعا وهي تهتف : _حاول فقط .. و ستدرك أنني لست سهلة ! لم يعلق أليستر ما جعلها تشعر بخيبة أمل من نوع ما ، تساءلت عما تفعله حقا بجلوسها هنا .. مع هذا الشاب الذي لا تعرف عنه شيئا سوى كونه ثريا ، و هو أمر أكثر من كافي لتنفر منه عادة ... لكنها لا تستطيع أن تفعل الآن .. لماذا ؟! ألأنه مألوف لديها ؟! أخرج أليستر سيجارة من علبة سجائر سحبها من جيب معطفه ... و هم بإشعالها حين قالت ويلو توقفه مقطبة الحاجبين : _التدخين ممنوع هنا ! لاحظ أليستر نظرة الإزدراء تعلو عينيها الجميلتين من جديد ، و قال وهو يلقي السيجارة على الطاولة امتثالا للبوستر القديم المعلق غير بعيد عنه : _أنت لا تحبين المدخنين .. أو الأغنياء .. أليس كذلك ويلو ؟! هزت رأسها .. ثم مالت نحوه عبر الطاولة ، قائلة بوجوم : _ألست صغيرا على تسميم رئتيك بهذه الأشياء على أي حال ؟! ارتفع أحد حاجبي أليستر بينما يميل بإتجاهها هو الآخر ، قائلا بتهكم : _و .. ألست صغيرة على العمل في مكان كهذا كما تفعلين الآن ؟!! شعور غريب بعدم الارتياح غمرها عند تمعنها عن قرب في وجهه الوسيم الغامض ، ضيقت عينيها وهي تتراجع مستندة إلى ظهر مقعدها ، حاولت التركيز فيما قاله. و تمتمت : _لا يعيش الجميع الحياة نفسها ، أنت مثلا تدفع مبلغا ضخما ببساطة لشراء معطف كشميري فاخر ، و أنا علي أن أعمل بجهد لأوفر لي وجبة طعام متواضعة ، ليست الحياة عادلة !! نطقتها مباشرة ، دون أي دراما أو دموع .. و كأنها تقر واقعا ، هز أليستر رأسه يمنع شعورا بالإعجاب بقوة هذه الفتاة من التسلل إليه ، قال : _لكن هذا ليس سببا كافيا لتكرهي كل من هو ثري ! أجفلت ويلو بعدم ارتياح : _كيف تطرقنا إلى الحديث عن هذا ؟! صمتت لبعض الوقت ثم قالت مغيرة الموضوع : _هل رأيتك من قبل ؟! لا أدري لما أشعر بأني أعرفك .. أنا لا أتحدث مع الغرباء بإنطلاق عادة ؟!! تمتم أليستر بمواربة : _جيد .. لا يجب أن تثقي بأي كان بسهولة ! _ألا تثق أنت ؟! رفع عينيه عن كوب القهوة الذي لم يذقه حتى اللحظة ، و نظر إلى الفضول المطل من عينيها الزمرديتين : _أظنني تعلمت كيف أختار من أمنحهم ثقتي ! _و كيف ذلك ؟! _بالنظر إلى العينين .. العيون لا تكذب أبدا ! _و أنا حتى لا أرى عينيك ! قالت ويلو بابتسامة .. كانت مختلفة تماما عن تلك المتكلفة الباهتة ، ابتسامة جميلة حقيقية ... لم يفت أليستر ملاحظتها ! لمع في ذهنها فجأة ... صورة لعينين رماديتين تلفهما هالة شجن سحرية !! هبت واقفة ... و كأن تيارا ما سرى في جسدها ، و لم تعلم في أي لحظة جاءتها الجرأة أو الفكرة .. لكنها فجأة .. كانت تبعد تلك النظارة عن عيني أليستر الذي أدهشه تصرفها الغير لائق ، حدقت مباشرة .. إلى ذات العينين الرماديتين التين تذكرتهما بغتة ، و هما تنظران إليها الآن ! _أنت ... إنه أنت ! و كان هذا ... كل ما استطاعت النطق به من الصدمة .. يتبع ،، الرجاء عدم الرد ~
|
__________________ افتَقِدُني
music4 |