أحمد أمين في ضحى الإسلام الجزء الثالث . قال : لقد كان في الخوارج كل العناصر التي تكوّن الأدب عقيدة راسخة لا تزعزعها الأحداث وتحمس شديد لها تهون بجانبه الأرواح والأموال وصراحة في القول لا تخشى باسا ولا ترهب أحدا وديمقراطية حقه لا ترى الأمير إلا كأحدهم ولا العظيم إلا خادمهم ورسم الطريق الذي ينبغي أن يكون رسماَ مستقيما واضحاَ لا عوج فيه ولا غموض يجب أن يعدل الخليفة والأمراء وإلا يقاتلوا حتى يعزلوا ويقتلوا ،
ويجب أن يسير المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة من غير أن ينحرفوا عنها قيد شعرة وإلا يقاتلون ليحل محلهم مسلمون مخلصون طاهرون ويجب أن يسلك السبيل إلى ذلك من غير تقية ولا مجاملة ولا مواربة ، ويجب أن يقابل الواقع كما هو ويشخص كما هو ويعالج كما هو على طريقة عمر بن الخطاب لا على طريقة عمرو بن العاص ووراء ذلك كله نفوس بدوية غالباَ فيها كل الاستعداد للقول وفصاحة اللسان وفيها كل ما تعهده في البدوي من قدرة على البيان وسرعة في البديهة وأداء للمعنى بأوجز عبارة وأقوى لفظ ،
من هذا كله نرى الخارجي قد اجتمعت له العاطفة القوية والأداة الصالحة للتعبير عنها، وهذا الذي ذكرنا قد جعل لأدبهم لوناَ خاصاَ غير لون الأدب المعتزلي وغير لون الأدب الشيعي .أدب المعتزلة أدب فلسفي فيه عنصر المعاني أغلب وأقوى ، وأدب الشيعة أدب باكٍ أو أدب حزين على فقدان الحق أو أدب غضبان على أن الخلافة لم توضع موضعها ، أما أدب الخوارج فأدب القوة أدب الاستماتة في طلب الحق ونشره وأدب التضحية فلا تستحق الحياة البقاء بجانب العقيدة وأدب التعبير البدوي الذي لا يتفلسف ولا يشتق المعاني ويولدها كما يفعل المعتزلة ،
وهو في بعض الأحيان أدب غضبان ولكنه ليس غضبان من جنس غضب الشيعة ، فالشيعة يغضبون لشخص أو أشخاص ولكن الخوارج يغضبون للعقيدة وللإسلام عامة بقطع النظر عن الأشخاص وإن نظروا للأشخاص ففي ضوء العقيدة لا كما يفعل غيرهم من النظر إلى العقيدة في ضوء الأشخاص ، وقد يرثون ويبكون ولكنهم حتى في رثاءهم وبكاءهم أقوياء يذرفون الدمع ليسفكوا الدم ويبكون الميت ليتشجعوا الحي ويونبون المفقود ليرسموا المثل الأعلى للموجود ،
لا يعرفون هزلا في الحياة فلا يعرفون هزلا في الأدب ولا يعرفون خمراَ ولا مجوناَ فلا نجد في أدبهم خمراَ ولا مجوناَ إنما يعرفون الجهاد والقتال والتربية المتزمتة القاسية التي تخرج رجالا أقوياء لا يحرصون على الحياة فكذلك أدبهم ، كالذي روي أن مروان أخا يزيد لأمه دخل وهو صغير على عبد الملك ابن مروان يبكي لضرب المؤدب له فشق ذلك على عبد الملك ، وكان عنده أحد الخوارج فقال له الخارجي دعه يبكي فانه أرحب لشدقه وأصح لدماغه وأذهب لصوته وأحرى ألا تابى عليه عينه اذا حضرته طاعة ربه فاستدعى عبرتها . لا يحبون الكذب ولا يحبون المعاصي فكانوا كما قال المبرد : والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذي المعصية الظاهرة فكذلك أدبهم .
إلى إن قال : ومن أجل هذا كان كلامهم كسهامهم وخطبهم كقلوبهم يصفهم عبدالله بن زياد فيقول لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار الى اليراع ويروي المبرد أن عبدالملك بن مروان أتى برجل منهم فرأى منه ما شاء فهما وعلماَ ثم بحثه فرأى منه ما شاء أريا ودهياَ فرغب فيه واستدعاه للخروج عن مذهبه فرآه مستبصراَ محققا فزاده في الاستدعاء فقال له لنغنك الأولى عن الثانية وقد قلت فسمعت فاسمع أقل قال له قل فجعل يبسط من قول الخوارج ويزين له من مذهبهم بلسان طلق وألفاظ بينة ومعان قريبة فقال عبدالملك : لقد كاد يوقع في خاطري ان الجنة خلقت لهم واني أولى بالجهاد منهم .
لقد كانت ثقافة الخوارج بحكم غلبة البداوة عليهم ثقافة عربية خالصة لا أثر فيها لفلسفة اليونان كما هو الشأن في ثقافة المعتزله ولا أثر فيها لثقافة الفرس كما هو الشأن في الشيعة ، ثقافة الخوارج ثقافة أدبية لغوية على نمط العرب في ثقافتهم وثقافة إسلامية على النمط المعهود في عصرهم من تفهم للكتاب والسنة في سهولة ويسر فان جادلوا في الدين فاحتجاجهم بظواهر النصوص وتمسك بحرفيتها فكان على أدبهم هذا الطالع لقد كان مظهر أدبهم من جنس أدب العرب . |