مدخل..
حِيْنَ لا أجِدُنِي ..
حَتَى فِي المَكَانِ الذِي اعْتَدّتُ أن أجِدَ بِه نَفْسِي الضّائِعَة..
حِينَ يَعْصِفُ الفُراقُ بكَيَانِي المُرّهَقْ..
وأتَلاشَى شَيْئاً فَشَيْئاً..
أُدْرِكُ تَمامَاً أنْنَي أفْتَقِدُ زَمَانَـاً لا أدْرِي مَوْقِعَهُ مِنَ الوُجُودْ..
لَكِنْه حَتماً مَوجُود..
أفْتَقِدُ ذَلِكَ اللامَكَان الذِّي كُنْتُ أرْتَاحُ فِيه..
أفْتَقِدُ ذَاتِي التِّي كُنتُ أعْرِفُ كَيْفَ أعَاقِبُهَا وأرْضِيهَا..
أفْتَقِدُكْ..
أخَذتُ قَلَمِي أثْـنَاء سَيْرْي إلَى الطَاوِلَة .. كَعَادَتِي التِي لا أسْتَغْنِي عَنْهَا , بَدَأْتُ أكْتُبْ لَها..
فِي الوَاقِعْ.. الكِتَابَةُ أصْبَحَتْ أمْرٌ لا بُدَ مِنْهُ , لا يَكْتَمِلُ يَوْمِي بِدُونِهَا ..
كُلُ مَا يَجُولُ فِي خَاطِرِي يَغْدُو حُرُوفَاً تَتَرَاقَصُ عَلى صَفْحَةِ رِسَالَتِي ..
وَضَعْتُ نُقْطَةَ الخِتَامِ وطَوَيْتُ الوَرَقَة لأدْخِلَها فِي الظّرفْ..
بِابْتِسَامَة رِضَى ارْتَدَيْتُ مِعْطَفِي وأخَذْتُ الرّسَائِل التِي كَتَبْتُها فِي هَذا الاسْبُوع ..
خَرَجْتُ مِن مَنْزِلي الصّغِيرْ إلى مَنْزِلِها فِي الحَيّ المُجَاوِرْ..
طَرِيقٌ حَفِظْتُ كُلَ مَلامِحِه .. أمُّرُ بالعَجُوزِ التِي تَشْرَبُ قَـهْوَتَهَا فِي الحَدِيقَة كُلُ صَبَاحْ ..
لتَقُولَ بِابْتِسَامَةٍ حَنُونَة..
~(صَبَاحُكِ وَرْد .. مَنْزِلُ وَالِدَتُكِ مَرة أخُرَى؟ )~
لَوْحْتُ لهَا مُبْتَسٍمَة .. ~( صَحِيح )~
ثُمْ أجِدُ الأطْفَالَ يُشَاغِبُونَ أمَامَ مَنزِلِ "الضَخَمْ المُتَهَكِمِ" كَمَا أُسَمِيه ..
لأنّهُ غالِباً مَا يَخْرُجُ غَاضِبَاً جَرّاءَ أصْوَاتِهم ..
والتِي تَعْلُو مجدّدَاً بَعْدَ دُخُولِه..
تَابَعْتُ طَرِيقِي حَتْى مَنْزِلِ والِدَتِي , أدَرّتُ الِمفْتَاح مَرّتَين ..
ودَفَعْتُ البَاب مُتَجَاهِلةً الصّرِيرَ المُزْعِجَ الذِي أصْدَرَه.. جُلتُ بنَاظِرَاي فِي المَنْزِل .. لقَدْ تَرَاكَم الغُبَارُ عَلَيه , رُغْمَ أنّنِي نَظْفْتُهُ قَبْلَ اسْبُوعْ ..
نَظْفْتُهُ حَتّى عَادَ لامِعَاً كَمَا اعْتَدْتُ أنْ أرَاهْ .. وبَدَأتُ أعِيدُ الأثَاثَ والتُحَف كَمَا كَانْت عَلَيه.. لَطَالمَا حَرصْتُ عَلى عَدَمِ تَغْيّير مَظْهَر المَنْزِل ..
فكُلُ شِبْرٍ مِنْهُ مَنْحُوتٌ فِي رَأسِي.. وضَعْتُ رَسَائِلِي عَلى الطَاوِلَة بِجَانِب المِئَاتِ مِنَ الرّسَائِل التِي تَرَاكَمَتْ مُنذُ عِدّةِ أشْهُر.. نظَرْتُ إلَى السّاعَةِ رُغْمَ مَعْرِفَتِي بِأنْها السّابِعَة والنِصْف ..
هَكَذَا تَكُون عِنْدَما أنْتَهِي مِنَ التَنْظِيف..
وَقَفْتُ أتَأمّلُ المَنْزِلَ الصّغِيرْ ..
صُورٌ خَاطِفَةٌ تَمُّرُ أمَامَ عَينَاي .. وكَأَنْهَا تُذَكِرُنِي بِسَعَادَتِي التِي مَا عَادَتْ مَوْجُودَة.
أمِي..
لا زِلتُ أسْتَشْعِرُ يَدَكِ الدَّافِئة تُرَبِتُ عَلى كَتِفِي..
صَخَبُ طُفُولَتِي وصَوتُكِ الحَنُونْ..
وَقْعُ خُطْوَاتْ وَالِدِي المَصْحُوبَة بصَوْتِ مَفَاتِيحِه ..
فَتَحْتُ عَيْنَايَ بِسُرعَة , أُحَاوِلُ طَرّدَ هَذِه الذِّكْرَيَاتِ التِي دَائماً مَا تَغْزُو عَقْلِي ..
اخْتَفَى كُلُ ذَلِكَ الصَخَبْ..
ولَم يَبقَ سِوَى صَوتُ أنْفَاسِي..
سَتَأتِي لَحْظَةٌ تَخْتَفِي فِيهَا أيْضَاً..
أنَا يَا أُمِي..
لَمْ أدّرِكْ كَمْ كُنْتُ مَحْظُوظَة بِعَائِلَةٍ كَهَذِه..
كَعَادَتِي المقِيتَة .
لا أشْعُرُ بالنِعْمَةِ إلا حِينَ تَغِيبْ..
والآنَ ألُوم نَفْسِي عَلَى كُلِ ثَانِية قَضَيتِها غَاضِبَة مِنْي , عَلى كُلِ نَظْرَةٍ مُنْزَعِجَة وَجّهْتُهَا إليكِ..
أحْتَرِقُ كَالأغْصَانِ الجَافَةِ كُلْمَا تَذَكّرتُ أنّنَي كُنْتُ سَبَباً فِي نُزُولِ دَمْعَتِكْ ذَاتَ يَوْم..
كُنْتُ سَاذَجَة .. نَعَمْ كُنْتُ كَذَلِك ولا أزَالْ..
اتْخَذتُ طَرِيقِي إلِى خَارِجِ المَنْزِلِ بِابْتِسامة بَاهِتَة..
رُبْمَا تَجِدُ عَادَتِي مُثِيرَة للشَفَقَة .. ورُبْمَا .. تَرَاهَا مَضِيعَةً للوَقْت..
أنْ تَتَعَلّقَ بِمَنْ هُم تَحْتَ التُرَابِ , وتَبْقَى أسِيراً للمَاضِي..
لَكِنّ هَذَا يَبْعَثُ فِي رُوحِي طَمَأْنِينَة و رَاحَة..
وكَأنْهَا تَعِيشُ مَعِي .. تَهْتَمُ بِي.
إحْسَاسٌ لنْ تُدْرِكَ مَاهِيته إلا إذِا خُضْتَ تَجْرِبَةً كَهَذِه.. إنْ كُنْتَ تَفْهَمُ مَا أعْنِيه!
تــمــت
مرحباً أصدقائي..
فكرة القصص القصيرة راقت لي
واليوم نفضت الغبار عن هذه الأقصوصة ..
أتمنى أنها نالت استحسانكم..
سأكون سعيدة بأي انتقاد بنّاء