[ الغَريبُ الأوَّل ! ] لا ازال المطر يهطل بقوة في سماء برلين, الضباب حالك و الناس يسيرون في هدوء تام, صوت احتكاك الأحذية بالأرض المبللة صنعت مزيجا من الاصوات المزعجة, أصوات لايعبأ بها سوى الساكنون على نواصي الحانات والمقاهي الخامدة. أما ظله الشاحب فقد ارتسم على قارعة الطريق الطويلة بذلك المعطف الأسود تحت المظلة الرمادية الباهتة ذاتها كما في كل يوم, باتت خطواته المتمايلة واضحة,وكأنه يريد الاصطدام وحسب بشيء صلب يوقف ذلك التمايل الذي ينهش هيبته ويفتك بشخصه الفارغ. ماهي إلا ثوان قليلة لتحط قدميه على رصيف القطارات متأملاً بعينيه المهكتين,فــ يلتمع في ذهنه شيء واحد لا غير: -إن أي محطة ستفي بالغرض! ها هو صوت سكة حديد قادمه الى رصيفه أنبأته سريعاً أن الرحيل قد أقترب, وأن رحلة استجمامه التي لا تستمر سوى دقائق قد حانت أخيراً , هناك في وسط تلك الزحمة القاتلة, والبحث عن مقعد ليسقط ثقله فيه هناك فقط حيث يعرف نفسه من جديد, هناك فقط يتذكر من هو ويطيح بكل ما يجوب في ذلك الخدر , هناك حيث لن يبالي احد بمن هو! أبواب القطار الواقف أمامه فتحت على مصرعيها وتزاحمت الصفوف أمام عينيه لتوقظه من نوهنه مجدداً, أسرع بخطاه يفترق الداخلين والخارجين , وفي عينيه نصب الباب المفتوح ... ما لبث الا ان دخل واغلق المظلة بين يديه, ثم راح يرقب باحثاً لنفسه مقعدا, بدت كل الاماكن ممتلئة ليردف بائسا:
-لا مقعد لي. لكن يأسه ما كاد يحاول السيطرة عليه كاملاً-في جعله يؤمن بالوقوف والتعلق على ناسكات المحطة لهي افضل حل بالنسبة لأمثاله-حتى تراءت له مقطورة متسعة تبعد قيد صف من مكانه , دخل وفتح الازرة العلوية لمعطفه ثم جلس , بدأ القطار في اهتزازته الاولية وهو قد بدأ في قراءة الاشخاص حوله اليوم .. يشاهد فتاة لا تتجاوز العشرين تجلس قبالته بشعر بني متموج ,بين يديها المفرودتين كراسة رسم مفتوحة ,لم يستطع التركيز في معرفة تلك الرسمة التي بدت له بقلم رصاص باهت! لقد حاول ولم ينجح ,ضحك ساخراً من نسفه بخزي, منذ متى كان يطيح بعينيه على أغراض الاخرين حوله؟ إنه لشيء غريب! لف برأسه في خفه ليلمح من يجلس بجانبه ,وما وجد سوى امرأة أبت نظرته الحادة أن تخمن عمرها, قد خلعت معطفها السكري والقته فوق ركبتيها, لتواصل النظر بهدوء على ما هو خارج المقطورة عبر النافذة! لكن في ذلك الوقت تحديداً... شيء ما غريب ضج بداخله, جعله يغمض عينيه بقوة شيء جعله يحدث صوتاً, همساً بين مجموعة لا يعرفهم بعد كل ذلك الضياع هو لم يفكر أصلاً , لقد نطق وانتهى.. حروفه قد خرجت قائلة بجود: -إني أتساءل؟.. التفت إليه الفتاة بينما بقت الأخرى تكمل ارتقبها دون مبالاة, ليتنفس بعمق وهو لازال يقاتل مبقيا ما تبقى له من ذرة تحمل يحفظ بها ذلك الهدوء الذي أوصده عليه وعلى كيانه الخارجي , لكن استفساراً غير متوقع جعله يسمح لأحد حاجبيه ان يرتفعا , لقد تحدثت المرأة المنزوية على الكرسي بجانبه ردت عليه بنفس نبرته: -فيم كنت تتساءل؟.. أرفق ابتسامه خاوية وراح يتأمل في ما حوله" يبحث عن قوة", أكانت هذه هي الكلمة الصحيحة لما دار في خلدة عن سبب تجواله فيما حوله؟ اضطرب عقله بشده , بل لا ,هو لم يكن يبحث عن قوة بل يبحث عما يجعله لا يقف ويكمل ما أجبره على الهمس! أزاح ظهرة عن الكرسي البارد ليميل بجسده نحو الامام, ثم انطلقت عينيه في لهيب بارد وهو يقول: -كنت أتساءل, في أي زمن نحن يوم ان اضحى للألم عرش لا يعرف الموت؟ بل أتساءل ما هو الالم في اشد حالاته حرجاً ويأساً ؟ ما ان انهى جملته حتى دخل في ابتسامة مزيفة اهتكها عينيه المتحسرتين وانف حاد بأخذ نفسه بصعوبة لكن مع ذلك أكمل كلامه بذلك الهمس المضغوط وهو يشد على أصابعه بحسره : -من المثير لــ الضحك ..ان ينتابك الالم لأسباب كثيرة كنت تراها من المستحيل بحد ذاتها أن تسبب الالم, حتى الهدايا أضحت مسببة للألم. أسقطت الفتاة ذات الشعر البني الطويل قلم الرصاص من يديها اللعوبتين وراحت تسأل في خضوع: -كيف؟! أجاب وهو يغمس عينيه في عينيها: في مجال عملي يصبح الناس وحوشا تارة , وقططاً جميله المرأى ,لطيفة المعشر تارة اخرى ,على إثر ذلك تلقيت هديه صغيرة, كان صاحبها ذكياً بما فيه الكفاية حتى يعرف جيداً أي الاشياء تروق لي وايها تأخذ من نفسي مأخذا طويلاً! لم يكن علي ان ارد على الهدية بشكر فــ بمجرد قبولها فذلك يكفي, لكن بعد مدة قصيرة اردف وقد تلونت شفتيه غثياناً واشمئزازاً: أرسل إلي صاحب الهدية بطاقة صاروخية بامتياز! اكمل جملته بصوت خفيف: -كانت؟ فأكمل "هو دون توقف: -بل هي ابتزاز بــ كثير من الأدب ,يتمنى لي فيها أن أكون ممتناً لدرجة التي تجعلني مرتزقة! صدر الصوت الطفيف هازئاً , فقاطعته الفتاه وهي تبادرته سائله: -وكيف أجبته؟ -ارسلت له طردا صغيراً لشكره.. اتسعت ابتسامته ليكمل؛ قنبلة!! ( و راح يمثل فرقعةً للانفجار بيديه ) . واهتز القطار في سيره مجدداً دون توقف, ومع صدى صوت الرعد الذي أنطلق فجأة , كان على المرأة ان تلتفت بقوة ما ان سمعت اخر كلمه له ,في حين سقطت الكراسة من بين يدي الفتاة هذه المرة وهي تقول في توتر: -ماذا بعثت له؟ -قــ ــنــ ـــبـــ ـــلـــ ـــة! وضحك بشكل غريب ,حت اكمل : -اعدت له هديته الخاصة , لقد صفعتها في وجهه! احتد احتكاك عجلات القطار الصغير بطريقه الحديدي على انتهاء همسه, توقفت العجلات في رصيف القطارات .. ليس بذي أهميه بالنسبة له لكنه علم ان مدة الاستراحة انتهت بمجرد وقوف المحطة عن هذا الرصيف ,وفي خضم تعارك الناس زحاماً على بواره الخروج كما هو الحال كل مرة ,اخذ يتأمل ببريق غريب ويودع أصحاب جلسته بكلمه صغيرة اودعها بطريقة فارغة: -محطتي. ذلك الرجل لم يأخذ عند رحيلة من تلك المقطورة مظلته الرمادية فقط , بل أخذ معها نظرات من كانوا معه على ذات المقطورة ايضاً نظرات لعيون لا تعرف معنى وجد حتى الان .
__________________ صرخت صديقتي في لحظة عتاب بحرقة : " أكرهك " . فهمت أنها تُحبني جداً و أنها لذلك عاتبتني بشدة و قد صح حدسي فقد اعتذرت مني حين هدأت و أخبرتني بأنها لم تعني ما قالته.
تفهمتها جيداً و قدرت خوفها علي رغم أنه أرعبني . ما شعرت بشيء حينها لكن و حين أدرت ظهري عائدة شعرت بحرقة في صدري و تلألأت الرؤية أمامي ، أيضا شعرت بقطرة باردة تدحرجت على خدي !!! كم كانت موجعة .
.. "أميرةالانمي": . |