عرض مشاركة واحدة
  #2631  
قديم 06-23-2013, 01:53 PM
 

القبور

قصة قصيرة للكاتب الكبير ..

د. يوسف إدريس








كانت أشجار الكافور طويلة متباعدة وحيدة ،
وأوراقها تخرفش وتوشوش بنغم مبهم غامض
وكان الطريق الذي أتى منه مهجورا كعادته ،
والناس يسلكون غيره من الطرق ،
والأطفال يخافونه وينسجون حوله أقاصيص الغيلان
وقصور الجن ،
وأمامه تتبعثر المقابر متقاربة متلاصقة
في سكون أمين صادق،



وهناك على قبوة الشيخ أبو المعاطي
الذي لا يؤمه أحد ، وقف غراب أسود ينعق في الحاح ،
وعلى بعد خطوات منه كان أبوه يرقد في قبره
وفوقه أحجار وأزمان. وراح في شيء ممزوج
من الوحشة والخوف يحدق في بياض القبر ،
ويقرأ الكلمات التي نقشتها يد فنان القرية في سذاجة
وبلا تزويق ،



وقرأ الكلمات مرارا ،
ومع كل حرف كان يستعيد عاما قضاه
في بحبوحه أبيه ويذرف عقله الذكريات.
كان رجلا طيبا ،
عبقريا في طيبته ،
والبسمة دائما تضيء وجهه الأسمر المرح،
وتنير الطريق أمام الناس الى انسانيته
وسبح في سيل طويل من الذكريات ،
ولكنه لم يبلغ منتاه فقد شعر بعاصفة من الشوق تجتاحه ..
الشوق الى ضحكة أبيه العريضة الخالية من الهم ،
والشوق الى كل دقيقة عاشها معه ..



ولم يستطع المقاومة
وارتمى على القبر وطوق جذعه المستدير بزراعه وبكى ،
وكان وهو يبكي كأنما يعتصر حياته في دموعه
فلا يبقى منها إلا قشر تافه جاف وذكرته الدموع وهو يبكي بعرق أبيه ،
والصيف ، وإقباله الباسم عليه ويديه القويتين
حين يضمه ، وكان حينئذ يقبله
ويتحسس ما جاء إليه به فيقبله مرة أخرى ،
كان كلما تذكر الصيف وكلما تذكر الشتاء بكى وبكى ،
حتى يخيل إليه ان الدنيا تسللت من امامه حاملة
كل ما لها وما عليها تاركة اياهما وحيدين معانقين.
وعن عما يشغله عن البكاء ،



وكذلك راح يخطط باصبعه رغما عنه
في تراب الجبانه الذي امرضته شمس العصر الصفراء الشاحبة..
وبدأت أصبعه تتعثر في قطع عظام ،
وتستخرج بقايا شعر آدمى ،
وتصطدم بالأسنان البشرية التى ابتلعها الرماد ،
وشغله خاطر جعله يكف عن البكاء تماما ،
فهو يستطيع ان يقسم ان هذه العظام ليست لأبيه ،
فأبوه يرقد من زمن تحت هذا الطين ،
ولكن غدا .. أو بعد غد ...
من يدري ألن تبعثر عظامه وتطفو أسنانه هكذا فوق الأرض ؟؟
وما يدريه أنه لن يستحيل غدا تحت هذا التراب أو هذه الكومة؟،



ودار السؤال في رأسه دورات ،
وفي كل مرة تزداد حيرته وتظلم الحقائق امامه ،
تبتعد ، حتى بدأ يشك في القبر الذي يعانقه
حين يتأمل في صوت مرتجف لكنه مسموع .. حقيقة ..
ما الذي أعانقه؟،
وجاء الجواب شاحبا عليلا ميت الروح كشمس العصر ،
انه يعانق قبرا من تراب فوق كومة من تراب ..
وعز عليه ان تفقده هذه الحقيقة البسيطة
كل ما بقي له من أبيه ،



فسأل نفسه مرة اخرى ليفحمها إفحاما - وأين قبر أبي إذن ؟
ومن بين طيات نفسه برز له خاطر عجيب
فقد أدرك ان اباه هناك - في عقله -
في تلافيف مخه ،
حين يستقر القبر
الذي يضم حياته ومماته والسنين التي قضاها
تحت اجنحته ،
واما القبور التي تتبعثر امامه
فهي نواتئ جوفاء في أرضنا السمراء ،
وعاد الى القرية في ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة.







قراءة ممتعة

__________________
إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ
فإن مهمة الرماة
الذين يحفظون ظهور المسلمين
لم تنته بعد..!!
طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله،
طوبى للقابضين على الجمر،
كلما وهنوا قليلاً
تعزوا بصوت النبيِّ
صل الله عليه وسلم
ينادي فيهم:
" لا تبرحوا أماكنكم " !
رد مع اقتباس