اما في البرج العالي الذي يناطح السحاب ...
حدقت الأميرة سوداء الشعر بالدرج اللولبي الطويل الذي يبدو بأنه لن ينتهي قبل أن ينهكها و يستنزفها تماما....
حدثت الدرج بعصبية : لن تنتصر علي !! . درج غبي !. و برج أغبى !.
القت نظرة سريعة من فوق كتفها إلى الحارس الفولاذي خلفها , ثم زفرت و تململت و عبثت بشعرها الرائع الطويل قليلا.... همست مع نفسها : أصبحت أتحدث إلى نفسي !.
هزت كتفيها ببرود و عادت لغرفتها متخلية عن فكرة النزول ... وقفت عند الشرفة العالية و حدقت بالأسفل السحيق حيث قمم الأشجار قربها....تمالكها الشعور بالغضب مرة أخرى و لم تنفع الطبيعة الجميلة في هدوئها....
_ مالفائدة من بقائي هنا... أشعر كما لو أنني مختنقة و أود القفز من هذه الشرفة...!
لكن فجأة سمعت صوت صهيل أحصنة... و ظهر حصانين بندقيي اللون من بين الأشجار البعيدة داخلين من بوابة سور
البرج ركزت الأميرة مارسيلين نظرها ثم.... اتسعت عيناها الخضراوين وهي تعرف هذين الشخصين فوق الأحصنة...
الأول .... الملك.... والدها بنفسه.... يبلس ملابس بسيطة لكن عملية و بحزامه سيف و الآخر الوزير الأول و صديق أباها القديم القدير...
ركضت بسرعة إلى الدرج الحجري اللولبي و هي تهبط الدرجات بسرعة ممسكة بثوبها الأزرق الحريري... و شعرها الليلي الكثيف يتطاير من خلفها...
همست بغضب مع نفسها : لقد أتى بنفسه هاه.... سوف يكون بيننا حديث طويل و ربما سأجعله يرى غرفتي حتى يعرف مقدار معاناتي و أنه يبالغ بشكل كبير في ... آه ه ! .
تعثرت بحذائها العالي و رأت الدرجات القاسية تقترب بشدة من وجهها ... فشهقت برعب .... ولكن يداً فولاذية أمسكت بوسطها و سحبتها بقوة بعيداً... فاصطدمت "مارسيلين" بالفولاذ من خلفها و شعرت بالدوار يهاجمها...
بقيت ثوان تستعيد أنفاسها و الحارس ممسكا بها بثبات لكن بلا شدة.... بعدها تركها ببطء... فأخذت نفسا عميقا ثم التفتت تنظر إلى شقوق الظلام الغارق.... همست و عيناها تلمعان كالزمرد :ش شكراً سيدريك...!
أرادت أن تكمل لكن تمسكت بذراعه اليمنى بكلتا يديها ... خوفا من أن تتعثر مجدداً و كان الدرج اللولبي حالك قليلا بالرغم من بداية النهار...
و لا توجد سوى نافذة واحدة مقوسة بالدور الثاني إلى أسفل ...
مشى الحارس أمامها بثبات و رشاقة وهي متمسكة بذراعه , لم يكن النزول صعبا من برج عالي إذا كنت صافي الذهن خالي من الغضب و لا ترتدي كعبا عاليا !!.
زفرت قائلة بصوت خافت حاد و ناعم بنفس الوقت : لم أعرف بأن والدي قادم , هل لديك فكرة ؟!.
وحدقت بالخوذة الحديدية... التي هزت نفياً بشكل لبق...
بعد دقائق...
" زهرتي الصغيرة..."
و تقدم الملك بكل مرح وهو يبسط ذارعيه إليها ..... لكن مارسيلين لم تتقدم بقيت جامدة عابسة...
" أهلا جلالة الملك... اتساءل عن سبب الزيارة المفاجئة ! "
تكلمت ببرود فجعلت والدها يبطئ من سيره و تنزل ذراعيه... شعرت بالألم و ودت لو تقفز نحوه
في اللحظة التي نزل بها من الحصان و تعانقه بشدة وتصرخ قائلة : أبي لا تتركني وحيدة...!
تبسمت بوجه الوزير الوقور و قالت بأدب : صباح الخير سيادة الوزير.
رد لها ابتسامه هادئة وهو ينحني برأسه و يهمس : سعيد برؤيتك يا أميرة.
وتقدم إلى أن وقف بجانب الملك إلى الخلف قليلا... فقال الملك وهو يتأمل ابنته : كيف حالك يا زهرتي ؟!.
ردت مارسيلين دون أن تنظر بعيني والدها المشابه لعينيها الخضراء لكن بدرجة أدكن
" بخير جدا أنني أملك برجا و حديقة و عجوزا تخدمني !!
عبس الملك و قال ببرود : أنظري إلي و أنت تتحدثين مارسيل ! , ثم لا تتكلمي عن أشخاص غير موجودين بهذا الشكل و لا سيما السيدة "تالين" .
همست بخفوت : تلك العجوز السيلطة لها أسم أيضاً !.
" أقلتِ شيء يا أميرة ؟! "
سألها والدها الملك بحدة خفيفة.... فأجابت بلا مبالاة وهي تنظر في عينيه : لا تهتم أعتقد بأنني أصبحت أتحدث مع نفسي... سأعتاد على هذا الأمر لا تقلق ! ".
ظلوا ينظرون نحوها , و سمعت صلصلة الحديدة الخفيفة من خلفها و كأن سيدريك يغير وضعيته , قال الوزير بعطف ليلطف الأجواء : هناك خبر جميل يريد الملك قوله لك عزيزتي..!
رفت مارسيلين بعينيها الجميلة و شعرت بالسعادة المفاجئة تغمرها فالتمعت عيناها بلهفة وهي تحدق بوالدها العابس.
تململ و قال ببرود : لقد تقدم لك خطيـب...
راود قلب الفتاة الشك و شعرت بقلق غريب من نبرة والدها... أكمل بعد ثانية وهو يراقب ملامحها :
" أنه ابن لوريكس .. ترافيس لوريكس ! "
وضعت يداها على قلبها دون شعور وهي تشعر بأنها تحلم , أنه هو .... آوه ترافيس العزيز... لا يزال يحبني...
فجأة همس الملك بهدوء : أن كنتِ واثقة !
جزعت و كأنه قرأ افكارها ... قالت بدهشة : ماذا ؟!.
"غداً مساءا يجب أن يجلبك سيدريك إلى القصر ... و سيأتي هو لسماعك ردك ثم... أنتِ تعرفين الباقي ستقام الاحتفالات على شرفكما ! "
حدقت به مصدومة , بهذه السرعة ... لكن مرحى ستتخلص من البرج ذو الدرج اللولبي... و الحارس و العجوز .!
لكن هناك أمر مريب ... عيناه والدها تخطط لشيء ما ... أنه يبالغ في الحماية , وهو أبداً لم يحب ترافيس ؟!..
ظلا يحدقان ببعضهما قليلا ... عينا والدها الخضراء الداكنة الغامضة مقابل عينيها الخضراء المشعة المتشككة ..
قال الملك مجدداً بصوت حنون خفيض : يا زهرتي الصغيرة , يجب أن تعودي للبرج بعض الوقت , أنت تعلمين بأنني أريد حمايتك... "
لم تصدم كثيراً , لكن الحزن عصر قلبها : لا أبي... أرجوك... لا أريد البقاء وحدي هنا أنني أحلم بالكوابيس في الليل..
و عيناها الجميلة تدمعان , اقترب الملك من ابنته و ضمها الى قلبه ...
" صغيرتي... لا تبكي , أنا لا أريدك أن تتأذي .. أنتِ في خطر حقيقي و عندما يأمن الوضع سوف أعيد إلى جانبي..."
" أخبرني مالخطر أبي ؟! , الناس يتكلمون عني صحيح و أنني الأميرة التي فرت من قصرها... "
غضب وهو يبعدها برقة و يقول : سيقطع لسان كل من يتكلم عنك.. أنت فهمت المشكلة بشكل معكوس سوف أشرح لك لاحقا كل شيء , ابقي بأمان هنا مع تالين و سيدريك.. و سأزورك كل يوم ... لكن غداً لا أقدر , سيدريك سيجلبك بأمان ثقي به و لا تسببي المشاكل..."
"مهلا أبي...!! "
قبلها بين عينيها ثم التفت الى الوزير و سارا معا الى الأحصنة ... دون أن يلوح لها لكز الحصان القوي و ركضا بعيداً...
ظلت واقفة وحيدة و الرياح تحرك ثوبها ... كان تفكيرها قد تجمد و هي بحاجة ماسة للنصيحة أو شد على يدها تشجيعا ! , أو حتى تهنئة لأنها خُطبت ..
زفرت الهواء من بين أسنانها و نظرة متألمة احتلت عينيها ... التفتت ببطء و وجدت التمثال الحديدي الحارس جامد كالعادة , ساكن كالصخور...
همست تحدثه : هل تشعر بأن في الأمر خدعة ما ؟!.
ظل ساكناً و كأنها لم تتحدث أصلاً ... حدقت بالخوذة السوداء الحديدية .. و الشقوق الغارقة في الظلام ...
حركت كتفيها بملل و يأس وهي تتحرك بعيداً عنه ... همست : ليت لدي بعضا من سكونك !. |