أن كان البؤس يسيطر على القلب ... فتخلى عنه قبل أن يجتاح أعضاءك الأخرى ...! "هل يمكن هذا ؟! "
في مكان آخرى ... بعيد , كانت الهجمات المتتالية و الجنود المدججين بالسلاح و الدروع لا ينتهون .. الصرخات تتعالى و القتلى يتساقطون على الأرض ... لقد بدأت المعركة منذ ساعات الفجر و كان على رأس الجيش رجل مسن قوي .. يضع خوذة على رأسه عليها علامة حمراء لزهرة لوتس... و جنود الطرف المقابل برمز أسود لطائر يتوسط صدور دروعهم ..
وقفت الأميرة ذات الشعر الذهبي الفاتح الجميل قرب شرفة صخرية عالية وهي ترى الغبار يتعالى والرياح تنقل أصوات صرخات مرعبة و صليل السيوف... ضمت يديها لقلبها و الدموع قد ملئت وجهها ..
قالت ببكاء : يا ألهي ... لقد بدؤوا ... يا ألهي أحمي أبي ..! لقد قلت لهم لا أريد الحـــرب !!
و صرخت بكلمتها الأخيرة وهي تضع يديها على وجهها وهي تشهق بقوة باكية .... فكرت بأن تقفز من الشرفة كي تموت و تريح كلا الطرفين ... و بقيت تدور في غرفتها الفاخرة و السرير الضخم العالي في منتصف الغرفة ... و بقيت تمشي حتى تعبت و جلست على الأرض وهي تدعو ... و تدعو ...
فجأة ضربات على باب غرفتها ايقظتها من حالتها ... فوقفت و توجهت للباب قالت بتوتر : من ؟!.
فتح بهدوء و ظهر رجل مسن بشع أحدب الظهر ومعه صينيه عليها بعض الخبز و الماء ... نظر إليها باحتقار ثم دفع إليها بالمعدن و قال بعبوس : هذا لك !
ثم أغلق الباب بحده من وراءه .... نظرت "غاردينيـا" إلى طعامها العادي .. فأكلته وهي شاكرة ... شعرت بالقوة تعود إليها قليلا ... قليلا ... فنهضت و نظرت من النافذة و رأت بأن الغبار لا يزال يرتفع من بعيد جداً و كانت هنالك الغابة و النهر ... لكن غرفتها هذه عالية جداً ربما في برج في القصر... و رأت دخانا أسود بعيداً... فخافت ....
و عادت لحالتها القلقة وهي تدور و تدعي... و فجأة فكرت بأن تهرب !. أنها لم تجرؤ قط على الهروب لأنه لا أمل... أما الآن فالجميع في الحرب منشغلون ... فاتجهت إلى الباب ببطء و فتحته بصعوبة لثقله ...
نظرت مصدومة أنه لا وجود لأي حراس ! ... و الممر المفروش بالسجاد خاليٍ جداً ... و انصتت السمع , لا يوجد أي صوت... فرجعت للغرفة وهي تسحب غطاء السرير الخفيف الأزرق الداكن و تلفه حولها و على رأسها و هرعت مجدداً للخارج ...
و تجاوزت الممر و نزلت الدرج الكبير وهي تتوقف لتلتقط أنفاسها و شعرت بأن الألم سيعود لها قريباً عليها الهرب قبل أن يتمكن منها المرض...و رأت بأن الشرفة بقربها مفتوحة وهي ليس لديها وقت للبحث عن الباب فخرجت من الشرفة
...تعجبت أنها قدرت على الفرار بهذه السهولة ... و وجدت أمامها الحديقة الكبيرة بل كانت الحديقة حول القصر...!
مشت بسرعة بين الأشجار و هي ترى الأرض مغطاة بالأعشاب الغريبة و ظلت تسير و تركض حينا دون أن تعي للوقت و فكرت بأن تصل إلى معسكر والدها ... كانت المعركة هناك جهة الغروب ... لكنها ليس واثقة ... فأسرعت الخطى وهي تشعر بأن الظلام بدأ يحل .... و هي تسرع أكثر و أكثر سمعت صوت صهيل خيول ... فتوغلت بين الأشجار.... و أظلم الجو و أدركت أخيراً أن ما يحيط القصر ليست الحديقة بل ... الغابة !.
اندست بين الأشجار و رأت جنوداً على خيول يسيرون على مهل و عليهم علامة طائر أسود اللون... و كانوا يضعون الأقنعة على وجوههم ... فجأة التفت أحدهم و حدق نحوها ... و اندست أكثر و ضربات قلبها ترتفع بين الشجيرات...
هرع نحوها وهم من خلفه ... أخذت "غاردينيـا" تركض بسرعة خائفة و الحشائش و الأغصان تضرب وجهها و يديها لتخدشها .. و هم بأحصنتهم خلفها يتصايحون .. فقررت أن تدخل بمكان ضيق لو حتى جحراً , لقد فرت و لن تسمح لهم بأن يمسكوا بها ... لكن ...
" آآآه ..." صرخت بقوة و أحدهم يمسكها من عباءتها أو غطاء السرير بقوة و يسحبها لتسقط على ظهرها و يتناثر شعرها الأشقر الطويل بكل مكان ...
صرخ أحدهم بغضب " جاسـوس !! "
" لا .. أنها امرأة ! "
" بشعر كأنه نهر من الذهب ! أليست هذه اشارة نحس ؟! "
"هيا نقطعها للعشاء ..."
و تعالى ضحكهم المخيف و رأت بأن اسنانهم انياب مخيفة ... فارتعبت بشدة وهي تراهم يحيطونها بأحصنتهم المخيفة ... لملمت الغطاء حولها و صرخت بهم
" دعوني و شأني ... "
" لكن لا أظن هذا .. " و سخروا منها مجدداً , فأمسكها أحدهم بقسوة من ذراعها بقوة و سحبها وهو يقول " سأربطها على الحصان ! ".
و فجأة ارتفع صهيل حصان مرعب قوي ... و ظهر الشبح الأسود , أو الحصان المرعب و من فوقه الفارس الأسود الضخم بكامل درعه ... خاف الرجال و تنحوا بسرعة وهم يتركون الأميرة تسقط مجدداً على الأرض... تقدم الحصان الأسود الكبير كأنه ثور هائج بسرعة و الأغصان تتكسر من حوله و نهضت "غاردينيا" بسرعة تريد الهرب ... لكن صوتا مخيفاً صرخ بها بغضب :
" أتحـاولين الهرب هاه يا أميرة . تعالي إلى هنا ! " .
صرخت غاردينيا وقبضة قوية تمسك بثوبها من وسطها و يرفعها عالياً ليبقيها حبيسة ذراعه و ثوبها يتطاير ... كان وجهها إلى الأرض ... و أخذ يركض بهذه الوضيعة المرعبة... صرخت: أتركني .. أتركني !!!.
" حقا ؟! " زمجر بغضب ... " أن تركتك سوف تتقطعين تحت حوافر شيطاني الأسود ! "
و رفعها جيداً ليجلسها خلفه على عباءته الغليظة وهي تتمسك بقوة بها ... قالت برعب في محاولة أخيرة :
" أريد أن أخلصكَ مني !! ".
زفر بصوت عالي و رد بغضب : لم أرى أميرة بلهاء مثلك من قبل !! , أفضلك و أنتِ صريعة ! "
يقصد عندما كانت مريضة !!... فأحمر وجهها غضبا و رعباً ... ضربت كتفيه العريضتين من الخلف بقوة و قالت بعصبية " سوف أقفز و أموت لارتاح منكم ! "
و فعلت ما قالته قفزت لكنه انحنى بسرعة إليها و توقف الحصان بقوة وهو يصهل غاضباً ... أمسكها بقوة مجدداً و صرخ بها وهو يهزها بعنف : يا مجنونة ! سوف اقتلك لكن اصبري قليلا !! "
" لا ..لا .. اقتلني الآن ! "
" من دواعي سروري لكن والدك العزيز قطع سيفي !! "
حدقت به بعيون واسعة : والدي ؟!.
" نعم هو ... هيا ابتسمي بفخر ! "
لكن وجهه الغاضب المهتاج يجعلها تنسى شيئا يسمى ابتسامه... و فجأة سحب حبلاً و بسرعة غير ملحوظة ربطها بقسوة و طرحها خلفه على ظهر حصانه و كأنه كيس من المحصول . وهي نصف متدلية و وجهها مجدداً يقابل الأرض السريعة ... شعرت بأنها ستتقيأ من رؤية الأرض تطوى تحت حوافر حصانه الضخم... و شعرت بالألم الشديد بسبب حبله القاسي كانت بالكاد تتنفس و ذراعيها بوضعيه غير مريحة خلف ظهرها ...
وصل للقصر و هبط بقوة وهو يمسكها بذراع واحد و يضعها أرضا بخشونة و يمسك بالحبل ليفكه بحركة واحده .. كانت دائخة جداً و مرهقة من كثرة ما ركضت ... فسقطت أرضا تلتقط انفاسها ...!
" و الآن !! لدينا حديث خاص معاً ! قبل أن أكون لطيفاً و انفذ ما تريدينه بقتلك ! "
قالت بسخرية لا تدري من أين جاءتها : آه لقد اغرقتني بلطفك يا سيدي .. أنـ....
قبل أن تكمل جملتها أمسك بذراعها بقبضته الكبيرة و شدها لتقف .. و كم كان طويلا مهيباً ... و فوق هذا عيناه المعدنيتان الرماديتان تشعان بغضب لا مثيل له... و شعرت بأنه سيقطعها بأسنانه أن تكلمت مجدداً...
قال وهو يجرها خلفه ويدلف من البوابة الكبيرة : ستبقين في غرفتك و أن حاولت الهرب مجدداً فلن انقذ حياتك الهزيلة هذه الغابة مليئة بالوحوش و الحراس الذي أرسلهم يمرون منها دوماً فأن لم تسقطي بيد الوحش فأنك ستسقطين بأيدي الحراس وهم لا يأكلون سوى لحم البشر...!
شعرت بالرعب يضرب قلبها الهش ... عندما قالوا بأنهم سيقطعونها و يأكلونها لم يكونوا يمزحون !!.
قال ببرود وهو يلقي بنظره ساخرة عليها : أنا أجعلهم جوعى !و لا يخافون سوى مني .. و أن اردت النجاة فستبقين هنا و ستشربين دواءك قبل أن تبدأ الأعراض ...
سألت بخوف وهي ترتجف بقوة : ألن يدخل هؤلاء الحراس القصر ؟!...
لاحظت بأن القصر ليس به أي حراسة أو أقفال ...! , فقط ذلك العجوز الغامض الذي يجلب لها الطعام !
" أنهم يعلمون بأنه قصري فلا يأتون إليه ... "
و فتح باب غرفتها و ألقاها على السرير... تأوهت بألم و بالكاد رفعت نفسها لتجلس... ساقيها متورمتان من كثرة الركض و جسدها كله يؤلمها بشدة ... وقف بكل كبرياء أمامها وهو عابس ... يتأملها ببرود ...
نظر إلى جرة من الفخار موضوع على منضدة كبيرة ... فتوجه إليه و عباءته الثقيلة تسحب على الأرض ... سحب منه علبة زجاجية صغيره بها سائل أحمر .... اقترب منها فانكمشت على نفسها و أخذ كأس الماء من منضدة السرير و وضع به قطرات من السائل ثم مد الكأس إليها ... و أمرها بقسوة :
" اشربيه ! "
التفت ليعيد الزجاجة للجرة .. التفت اليها و وجدها متجمدة ممسكة بالكأس الذي أصبح الماء فيه زهريا فاتح اللون...
قالت بخوف : ما هذا ؟! هل ستسممني ؟! .
توسعت عيناه غضبا و توجه نحوها بخطوات ثقيلة غاضبة فضمت نفسها رعبا وهي تدس رأسها ... قال بعصبية وهو يمسك بمعصمها بشدة شعرت بأن عظامها تداخلت ببعضها من قوة ضغطه...
صرخت به : آه أنت تؤلمني !!.
" هذا دواءك يا حمقاء ! اشربيه الآن !! "
قالت بألم و دموعها تلمع : أنت قلت بأنك ستقتلني و أنا لن أشربه !! "
اخذ الكأس منها بغضب و كان هو قريبا منها , قال بحده و قوة جعلتها تصرخ خوفا و تندس :
" لا يخالف أحد أوامــري ! هل تسمعين ؟! "
و ضرب الكأس بالجدار بقوة جعلته يتفتت إلى ذرات و يتطاير الشراب اللامع الوردي... أخذت "غاردينيا" تبكي بشدة و تراجعت حتى وصلت منتصف السرير وهي تضم الوسادة ... قالت بنبرة باكية حادة : ليت والدي قطع عنقك و ليس سيفك !!.
رأت عينيه تشتعلان غضبا و ادركت بأنه الآن سيقتلها ... لكنه استقام و أغمض عينيه بقوة ثوان ثم فتحهما و قال ببطء و برود فاجأها :
" اسمعي يا طفلة ! , أنا سأخرج و لديك ذلك العجوز ليجلب لك الطعام وأن شعرت بالألم تلك الزجاج بها الدواء مركزاً فضعي منه قطرات في الماء و اشربيه . أنت لن تموت الآن أتفهمين؟ . و قريباً سوف تندمين على ما قلته و سأرسل لك رأس والدك كذكرى هنا . لقد انسحب الجميع لكنها البداية فقط ! " .
و كانت عيناه تقدحان شراراً حاقدا و غضباً رهيباً....
التفت مع عباءته و خرج بسرعة ...
|