تحت ستار النجوم و جمال الليل الصامت .. حيث تتلاعب النسائم الباردة مع الأوراق الجافة .
ممسكين بأيدي بعضهما يتمشيان قرب الأشجار ببطء و هدوء , لا يوجد ما يراقبهما سوى القمر الذي يخجل أحيانا و يختفي خلف الغيوم الصغيرة .
قالت بلطف هامسة : وهل تريد العودة إلى بلادك قريباً ؟.
رد عليها بابتسامة : بضعة أيام ربما .. آوه لا تريدين فراقي .. أني أعرف هذا .
كادت مارسيلين تضحك وهي تقول بخفوت : لا بالطبع لا أريد لكن... متى أمكنكما الحديث أنت و والدي .
نظر إليها و قال بهدوء : بالأمس ..و آه صحيح , كنت أريد سؤالك شيئا الملك لم يخبرني بهذا لا أدري كيف دخلنا بموضوع آخر .. مارسيلين أنت لا تسكنين بالقصر الملكي ! ,لقد خفت كثيراً .. أين تمكثين ؟.
حدقت به بصدمة . و فكرت بسرعة .. بالطبع أمر إخفائها يجب أن يكون خفياً !!.. لكن هذا خطيبها و لا ضرر من أخباره ... لكنها حقا لا تعرف أين موقعها .. و...
قال فجأة مقاطعاً أفكارها : أنني أعلم بأنني سمعت ثرثرة لا معنى لها هنا و هناك بشأنك , وهذا الأمر سخيف جداً و لا يهم أحد بالفعل .. و أنت تعلمين أن كل ما يهمني هو أنتِ يا عزيزتي ..
قالت بتوتر : أنها رغبات والدي و... أنا لا يمكنني فعل شيء ...
" مارسيلين" قال اسمها همسا وهو يقف و يمسك بيديها الاثنين بين يديه ... " يا عزيزتي , بالطبع هي رغبات الملك , و أنا احترمها جداً و كل ما أرغب به هو أن أراك يومياً في القصر طوال مكوثي هنا .. فأنا سأغادر قريبا ".
أنكست رأسها وهي تقول بخجل : و أنا أيضا أحب رؤيتك يومياً .. لكن والدي لن يسمح , أنت تعرفه .. "
" أجل أعرف , لهذا جلبت شيئا .. "
وجلسا على كرسي طويل خشبي تحت الأشجار قرب البحيرة , و أخرج من جيبه لفافة من قماش و وضعه بين يديها , قال بجدية " افتحيها فقط عندما تصلين لقصرك .. "
قالت بتوتر وهي تنظر إليها : لكن .. ما هي ...؟!
" سترينها لاحقاً ... و الآن أين كنا قبل هذه الأمور المزعجة .. آوه عزيزتي لقد طال شعرك الجميل يعجبني كثيراً هكذا .. "
فضحكت مارسيلين برقة وهما يتحدثان طويلا و يمزحان .. حتى فجـأة قطع عليهما صوت صرير خفيف لمعدن .. اتسعت عينا "ترافيس" وهو يحدق بالظل الأسود اللامع الواقف قرب الممر الحجري...
قال بضيق : من الذي وضع ذلك التمثال الكبير هناك فجأة ؟!.
نظرت إلى حيث ينظر و فوجئت هي أيضا .. لكنها تبسمت و قالت بلطف : هذا ليس تمثالاً عزيزي , أنه الحارس .
و نظر نحوه بتعجب و استنكار .. كان الحارس يقف بجمود و صمت يواجههم و الأوراق تتحرك بين ساقيه .. و السيف معلق في خصره .. همس للأميرة بتوتر : هل أنت واثقة عزيزتي بأن هذا الشيء بشري ؟ . فجأة ظهر من لا مكان وهو يحدق بنا بلا أدنى حركة !. حتى أن تلك الأوراق الجافة تبدو بها الحياة أكثر منه !.
تضايقت مارسيلين مما قال وهمست منزعجة : ترافيس , لا يمكنك قول مثل هذا الكلام عنه ..
سألها بهدوء : هل تعرفينه ؟.
توترت مارسيلين بشدة و قالت سريعاً : ماذا ؟ , لا .. لا أعرفه . أنه حارس في القصر كما أظن .
و ألقت بنظرة خاطفة مذنبة نحو الحارس الساكن لا يتحرك منه شيء سوى عباءته السوداء , نهض ترافيس وهو يقول : أنا منزعج منه , لنذهب إلى الداخل فالجو بارد ..
وانتبهت الأميرة لنفسها و أنها تكاد تموت برداً و سارعوا بسرعة نحو الممر من جانب الحارس .. و انتبهت فجأة أنها تسير وحدها بضعه خطوات فنظرت خلفها و رأت "ترافيس" يقف مقابلا لـ " سيدريك" يتأمله ببرود و اهتمام متعالي .. وقد كان سيدريك أمامه كتلة من الضخامة و العضلات و الجمود .
توقفت بسرعة و نادت بتوتر : ترافيس , هيا لندخل...
لكن الأمير الشاب أخذ يمشي حول الحارس متفحصاً و سأل ببرود : عرف عن نفسك ؟.
اقتربت الأميرة بتوتر وهي ترفع ثوبها .. و بالطبع لم ينطق سيدريك أو يبدي أي تفاعل .. و اغتاظ الأمير وهو ينظر نحو مارسيلين التي اقتربت منهما .. أمسكت بيده وهي تحثه بقلق : تعال ترافيس , عزيزي ! .
" ما بك عزيزتي ؟ , أني أحاول التحدث مع هذا الحارس ؟ , هل أنت أصم يا سيد ؟ ".
تضايقت بشدة وهي تضغط على ذراعه : ترافيس...!
أخذ الأمير ينظر إليه من رأسه إلى قدميه ,ثم توقف بصره على سيفه الكبير ذو التصميم الغريب .. قال ببرود : أني أمرك أن تنصرف من هنا ..
" لا يمكنك قول هذا ! , أنه أحد ... حراس ال... ال ..قصـر ! ".
و قلبها يتعصر على هذه الكذبات وهي تعلم بأن "سيدريك" يسمعها بكل وضوح !.
" مهما كان هذا , لم أرى حراساً يلبسون مثله ! , ثم لمَ يضع خوذة معدنية كهذه على وجهه ! لا شك بأنه مثير للريبة . سوف أرى الآن مقدرته ! هيا اسحب سيفك و بارزني ! " . و كان يرفع رأسه عالياً كي ينظر نحو رأس الحارس الضخم...
شعرت مارسيلين أن الأرض تدور بها , قالت برعب : مالذي تقوله ؟! , أنك تزعجه دعه و شأنه !.
" ماذا ؟ , هو الذي يزعجنا هكذا لقد قطع علينا حديثنا ".
نظرت نحو شقيّ القناع , و هي تتوسل بقلبها ألا يحدث شيء .. قال ترافيس ببرود له وهو لا يرى أي ردة فعل : " مهما يكن , يالك من حارس عديم الفائدة و... "
" ترافيس ! , لا يليق بك الحديث هكذا , هيا لنعد ! "
قالت مارسيلين كلامها بعصبية و التفت نحوها وهو يقول : حسنا , لكني لن أسمح لأي كائن كان بأن يزعجني كهذا و لا ينفذ أوامري .."
و التفتا يسيران مبتعدين , و نظرت الأميرة خلفها وهي تراه واقفاً في الظلام ساكناً وقد التفت نحوهما .. همست بداخلها " آوه آسفة سيدريك ".
توقفت بتوتر فوق المنصة الضخمة التي يعتليها عرش والدها الذي يجلس عليه خلفها , و بجانبها أميرها مبتسما بكبرياء ... وهي تشعر بنظرات والدها تحرق ظهرها و قد التفت إليها كل الحاضرين من أمراء و نبلاء...
منتظرين بهدوء ... بينما يقف الشهود إلى يمينها و يسار "ترافيس" الذي يقف بجانبها ...وقد ألقى الحكيم خطبته و انتهى و تنحى الجميع جانباً ليروها ..
"هيا عزيزتي .." شجعها خطيبها بهمس و ثقة , قالت مارسيلين بصوت عالي خجل : أنا موافقة !.
و فجأة صرخ الجميع مهللين و تصاعدت صوت الأبواق و الموسيقى عالياً بمرح و قبل ترافيس يد أميرته بسعادة ..
بينما أخفض الملك بصره بضيق وهو يمسح جبينه .. و استمر الاحتفال طوال الليل و استأذن الملك للذهاب و الملكة كذلك .. و غادر المدعوين شيئا فشيئا ... وبقي القليل و ترافيس معها يحدثها بسعادة ..
شعرت مارسيلين بالتعب الشديد و هي تفكر بوالدها .. لم يكن سعيداً قط !!. ولم يبتسم حتى وهو يتلقى التهاني ..! , أنه لم يمانع بشكل جديّ وهم يعلمون بأنهما سيتزوجان , أن كان هنالك من أمر مريب يجب عليهم أخبارها .. هل عليها أن تكون متحرية خلف خطيبها بنفسها أم يجب أن تتعلم فهم و قراءة أفكارهم ؟!.
تأوهت بداخلها لاحقا كيف ستواجه الملك ... و دقت الساعة منتصف الليل بصوت عالي في قاعة الرقص هذه مع فتح الأبواب بشكل قوي مفاجئ أيضا ..
و سمعت الهمهمات تختفي ببطء و الجميع يحدق من الذي فتح الأبواب .. و نهضت مارسيلين مع ترافيس وهي تنظر من فوق رؤوس الحاضرين القلة .. و رأت حارسها المعدني يقترب و سمعت صوت صهيل حصان في الخارج ..
أنه قادم لأخذها للبرج !.
و خشيت مارسيلين من كل شيء... فهي لا تريد الذهاب و لم يتسنى الوقت لها للحديث مع والدها كي تقنعه بالبقاء... و هاهو "سيدريك" يقترب شاقاً الحضور المذهولين منه و تساءل البعض من يكون .. لكنهم عرفوه من العلامة الملكية على درعه و سماح الحراس له بالدخول ... أرادت الهرب من كل شيء هنا ... فكرت بأنها سوف تركض للجهة الشرقية حيث مهجع الملكة .. و تتوسل إليها أن تبقى عندها الليلة ..
حدق ترافيس بغضب بـ "سيدريك" الذي توقف أمامهم و مد يده نحو الأميرة كي تغادر معه إلى البرج الذي لا يعلم أحد عنه شيئا ..!
ضمت "مارسيلين" يديها لقلبها .. و هذا خطأ .. ظن أميرها بأن هذا الشخص يريد أخذها عنوة ..
فجأة سحب الأمير سيفه بوجه الحارس .. و قال بعصبية : أخرج من هنا و إلا قطعت رأسك !.
صرخت مارسيلين صرخة مكتومة و قالت بخوف : يجب أن تتذكر بأنه يمنع سحب السيوف هنا ! , ترافيس مالذي تفعله ؟.
رد عليها بغضب فاجئها : حقا ؟ و مالذي تظنيني فاعل ؟ , مالذي يريده هذا الشيء منك ؟!.
التمعت عيناها وهي تقول بضيق : ترافيس ! . أخفض سيفك .. !
" لا ! , أنت أخرج من هنا و لا قُتلت ! "
صرخ أحد الحضور : لننادي الحراس ! "
قال ترافيس بصوت عالي : لا شأن لأحد , سوف أقضي على هذا الشيء سريعاً ".
و شهقت مارسيلين وهي ترى السيف يهوي على عنق الحارس .. لكن سمع صوت شهقات الحضور .. و رفعت بصرها لتجد مصدومة مثل الجميع بأن قبضة الحارس المعدنية أمسكت بالسيف ... سحب السيف بقوة من الأمير و ألقاه من الشرفة خلفه ...!
فجأة و لأول مرة سمعوا صوته ... العميق البارد يقول :
" سوف تغادر الأميرة الآن ".
و مد يده مجدداً لها .. فخافت مارسيلين وعيناها الخضراوان تتوسع و لا تدري ما العمل , لكنه قلبها ارتعب و تراجعت خطوتين ثم ثلاث و بعدها التفتت و ركضت بأقصى ما تملك وشعرها يطير خلفها ... صرخت برعب بداخلها و دموعها تسيل " هذا يكفين بحق !! , لا أريد العودة لأي مكان .. ولا إلى ذلك البرج الشاهق البارد .. لا أريد رؤية ذلك الحارس و لا ذلك الخطيب الأحمق و لا والدي ... و لا أي أحد ... "
و ركبت على أول فرس رأتها ثم انطلقت بها إلى الخارج و الحراس يركضون من خلفها ينادون ...!
ظلت تركض و تركض وهي دموعها تسيل و لا تكاد ترى شيئا ... ثم فجأة أتى سهم من لا مكان و ضرب الحصان الذي صهل بقوة و سقط أرضا .. و سقطت مارسيلين من فوقه .. و سمعت برعب صوت أحصنه تقترب و صرخات مدوية في الظلمة ... كان القمر قد غاب ... و الظلام شديد لا ترى يدها أمامها لكنها في سهل ما و الأعشاب طويلة ..
اعتادت عيناها وهي ترى قطاعين الطرق قد أحاطوا بها ..
ارتجفت بخوف وقالت برعب في قلبها " جميل جداً , لقد ظننت بأن نهايتي هو أن اتدحرج من درج البرج ! "
أخذوا يضحكون بمرح بعدما رأوها و قال أحدهم : رائع , فتاة جميلة لطيفة .. تعالي معي يا صغيرة ...
صرخت مارسيلين برعب وهي تبتعد عنه : ابتعدوا عني !..
و رأت سيفاً قد سقط من حصانها فاستلته بوجوههم وهم على أحصنتهم ... ضحكوا عليها بمرح .
" لا ..لا هذا ليس تصرفاً لطيفاً منك .. "
ورفع أٌربهم سيفه بوجهها و ضربته مارسيلين بمعرفة فتراجع الحصان و قال بغضب : هذا الفتاة تعرف كيف تمسك بالسيف!.
فكرت بثانية أنها كانت تراقب ليلياك وهو يتدرب ولكنها ذات ردة فعل بطيئة كما أن السيوف ثقيلة دائما على عظامها الرقيقة!
.. اقترب آخر منها سريعا وضرب سيفها بقسوة فطار بعيدا عن يديها المتجمدة المرتجفة .. و تراجعت مارسيلين حتى سقطت في بركة وحل .. أخذت تصرخ بشكل مميت : النجداة ! , فليساعدني أحـ.... آآه !
صرخت و أحدهم يمسك بها بقوة ليرفعها ... رأت ظلا واقفاً خلفه ثم فجأة تركها هذا الشخص و قد سقط صريعاً !... تجمدت مارسيلين وهي تراهم يصرخوا مصدومين و رأت الحارس واقفاً على قدميه و حصانه يقف بعيداً .. و قد مد يده القوية و سحب أقربهم من حصانه وضربه على وجهه ليلقي به بعيداً .. ثم اقترب من اثنان رافعين سيوفهم فسحب سيفه العريض و أطاح بهما بحركة واحده .. ثم طعن الآخر و سقط أرضا ...
وكل هذه بعدة ثوان... اقترب منها بهدوء و لف ذراعه حول خصرها ليوقفها ... ثم مشى لتمشي معه .. لكنها فقدت حذائها و قدرتها على الوقوف ... فحملها حتى حصانه الواقف بسكون و أجلسها عليه ... أخذت الفتاة ترتجف رعباً من كل شيء خاصة هذا الحارس .. وشعرت بعباءته تحيطها .. ثم صعد هو خلفها ...
و انطلق بهما الحصان و هو يعرف وجهته ..
صرخت الأميرة فجأة بشكل مرتعب هستيري : لا . لا. لا .. لن أعوود للبرج لالا .. لن أعود... لا أريد .. لا أريد ..!!
و حملها فوق كتفه وهي تبكي و تصرخ و تخربش خوذته بأطافرها بينما هو يصعد درجات البرج الطويلة المظلمة بصمت ثقيل..
" أني أكرهكم جميعاً , تبا لك !! سحقا لك ! , سيدريك أنزلني ! .. أنا أكرهك .. أكره والدي !! أكرهكم جميعاً...! "
وضعها على السرير و ضربته فجأة على درعه المسنن .. فجرحت نفسها .. صرخت بألم " آآه كل هذا بسببك ... أخرج من هنا أريد البقاء وحيدة .. "
و أخذت تبكي بألم وهي تلقي بوجهها على الوسادة . و تتناثر الأغطية من حولها في غرفتها المعتمة..
سمعته يتحرك في الغرفة لكنها استمرت بالبكاء بصوت عالي لم يهمها شيء .. و بعد لحظة سمعت صوته الغريب الأجش بسبب الخوذة :
" يا أميرة أعطني يدك ! "
فسكتت عن بكائها ورفعت رأسها ببطء .. فرأته راكعاً قرب السرير وقد نزع قفازيه المعدنين وظهرت قفازات بيضاء ناعمة تغطي يديه .. جلست أمامه وهي تنظر بعيداً , فأمسك بيدها الجريحة برقة و لفها بالقماش النظيف ..
بعدها نظرت نحوه و قالت ببرود : أنت تتكلم هاه ؟ , لماذا لم تتحدث من قبل ؟! .
ظل صامتاً ونهض واقفاً طويلا قوياً ... و أعاد درع يديه إلى مكانهما ... قالت بنبرة باكية : مهما كان !! فأنتم جميعا مشتركون في تعذيبي نفسياً !. لا أحد يتكلم معي ! حتى والدي !. أنه حتى لا يريدني بجانبه ! و أنت !! قلت لك لا أريد العودة إلى هنا !!.. عندما أهرب سوف أرسل قتله للقضاء عليك !.
انحنى لها باحترام و غادر وهو يغلق الباب من خلفه ... صرخت به : لا تستخف بي أنت !! فقد سبق لي الهرب و سأفعل هذا مجدداً ..
|