لوسيندا – أو آناليس أو ... آنديلا ... تأوهت بضيق تريد اسماً قريباً من اسمها حتى تتذكره دوماً , هي لا تزال تسير ببطء وسط بحر الحشائش هذا فوق ظهر حصان داكن و تحت ضوء القمر الكامل ... فبدا لها الضوء الفضي يرسم الطريق... هناك بحيرة بعيدة و أشجار كثيرة
لقد انتصف الليل و انتصفت احزان "أنابيـلآ" وسط قلبها و استحلته ... أغمضت عينيها متألمة بسبب انتفاخهما من كثيرة البكاء ... و حاولت استرداد صورته... فارسها المنقذ و الوحيد ... بدا كسراب .. و تلاشى...
غادرتها الأيام الطيبة واللحظات المسالمة بعيداً ...و صارت أبعد من النجوم و الأحلام .. حان وقت الاستيقاظ على واقعها الوحيد ... وهو أنها وحيدة ... لقد نالت العذاب الجسدي حتى سئمت الحياة ومن فيها ! و الآن بعد أن ذاقت نعيم الاهتمام انتشلت بقسوة ... ليتها بقيت في عذابها الأول ولا تدري ما الحنان !!
سالت الدموع مجدداً و دارت برأسها الأماني و الأحزان .. ماذا تفعل ؟! , هل تقتل نفسها و ترتاح و تُريح ... فتحت عينيها بثقل شديد , عيناها الذهبيتان التلان بلا مثيل ... الذهب السائل المتماوج الجميل فقد بريقه .. وغرق بالعتمة...
أوقفت الحصان قرب البحيرة ومشت بإرهاق إلى ضفتها .. رأت انعكاس لصورة فتاة لم تعرفها... شكها بائس ضعيف بلا قوة و مالذي يمكنها فعله أمام جبروت الملوك ..! سحقاً لهم .. سيحل الحق يوما ما... لكنها كما يبدو لن تلحق بهذا اليوم ...
لم يكن هنا في عقلها المتعب سوى فكرة واحدة نمت فجأة .. التفتت حولها و جمعت صخور ثقيلة و ربطتها حول جسدها ثم ..بلا انتظار... ألقت بنفسها بالماء الداكن ... غرقت وسط بحيرة لا مكان لها ... و تشوهت صورة القمر الكامل على سطحها ...
هوت "أنابيــلآ" بلا قوة إلى القاع ... و أعمق ... أعمق حيث الظلام و الصمت... ~
آخر صورة كانت لـ.... أليكسس ...
~
صورة القمر على السطح تشوهت مجدداً ... و سبح جسد ماهر كبير إلى الظلام في الأسفل .. وجدها بصعوبة وسط كل هذه الطحالب .. هذا لا يصدق .. جسدها الضعيف جداً لن يتحمل سوى ثوان حتى تسلم روحها ...!
أمسكها من ذراعيها و حاول سحبها ... لكن ثقيلة جداً ! , مالأمر ؟؟!... بصعوبة و وسط الظلمة تحسس الصخور المعقودة إلى ثوبها ... ليس هنالك من وقت لانتزاعها واحدة تلو الآخر ... فخلع هذا الجزء من الثوب كله .. و استلها من بين كل عائق بقوة... تمسك بجسدها النحيل و بقوة ارتفع و ارتفع عالياً إلى بقعة الضوء...
" آآه " ... شهق الهواء بقوة و هو يرفع رأسها المبيض جداً و المتجمد .. سبح بمهارة و قوة إلى الضفة ... ثم خرج يحملها بين ذراعيه .. كان ينظر إليها لا يصدق ... لا يمكن أن تكون قد فعلت ما فعلته ... لا يمكن... رباه لا يمكن...!!.
_ أنابيلآ ... أنابيــلآ ... أرجوك... أرجوك ... يافتاتي العزيزة... أرجوك لا تموتِ...!!
وضعها وسط حجره و رفع رأسها ثم نفخ فيها الهواء بقوة ... مرتين و ثلاث... تأوه وهو لا يرى تحسن بأي شيء... جسدها المثلج المتصلب بين ذراعيه ... وكأنه يحمل تمثالاً ... مالذي فعلته بنفسك...؟! لمَ فعلت هذا....؟!
التمعت عيناه بالدموع وهو يقاوم رغبة رهيبة بأن يشدها إليه ويهزها بقوة صارخاً بجنون ليجعل كل الوادي يسمعه !!
_ عودي ... أنابيلآ حبيبتي ... أرجوك... أنا هنا لأجلك .. عدتُ لأجلك... هيا حان دورك بالعودة الآن...
و حاول انعاشها مجدداً بإصرار ودموع ساخنة حقيقية لا توصف رسمت خطا على خديه و انسلت ساقطة بحزن فوق بشرتها المتجمدة.
... ثم فجأة ارتعش قلبها و شهقت تطلب الهواء ... ساعدها لا يكاد يصدق بأنها حية الآن بين ذراعيه ترتجف... لف عليها عباءته التي قد تركها على العشب .. كانت لا تزال شبة مغشي عليها ..
مسح على عينيها برقة ... ارتجفت شفتيها الزرقاوين و همست بضعف ... أحنى رأسه وهو يهمس لها بدفء :
_ ما تقولين أميرتي ؟!.
_ أليكسس ؟!.
_ نعم .. أنا هنا .. أني هنا لأجلك...
شجعها كي تعود للوعي مجدداً ... حركت جفنيها بتعب و همست بصوت باكٍ مفاجئ : مالذي فعلتَه ؟!.
نظر إليها مصدوماً... بينما انتفضت هي تحاول الابتعاد عنه ... أمسك بها جيداً بلا مجهود يذكر لأنها منهارة بالفعل ..
فتحت عينيها أخيراً و حدقت به برعب ! , ثم نظرت حولها الى الغابة المظلمة و الأشجار و حصانها يقف هناك بصمت بينما حصان آخر مألوف تعرفه.. كان ذلك "إينوس" حصانه المفضل.
عادت تحدق بوجه أليكسس لا تصدق .. تباً ... ألا تنتهي المعاناة !..
صرخت به بصوت متقطع متألم : دعني أموت بسلام !!... أتركوني وحدي أرجوكم...
وحاولت أن تضربه و تبعده عنها ... لكنه أحكم عليها و قال بحده كي يجعلها تنصت :
_ أنابيلآ ! هل جننتِ ؟!.. هل تحاولين قتل نفسك ؟!... رباه اهدئي فقط و اسمعيني..
_ لا أريد سماعك دعني .. لمَ لا تتركني و شأني... أتركني الآن ...!
بكت بشدة لأن قلبها يصرخ عكس ما تنطق تماماً ... هدأها قائلا وهو يقرب وجهه منها كي تراه
_ أنا أليكسس آنابيل ... ألستِ أميرتي وأنا يجب أن أحميك .. حتى من نفسك...
صرخت به متألمة لا تصدق ما يقول : لا ... إياك أن تقول هذا !!... أميرتك هي نادين .. أذهب لحمايتها هي و أتركني ... لم يعد هنالك شيء... لم يعد هنالك من شيء يستحق...
أخذت تبكي بمرارة وهي ترتجف و تشهق لا تقدر حتى على التنفس من كثرة البكاء .. كانت تجلس على العشب وهو بجانبها تماماً... تأملها بحسرة ... و رفع رأسه ينظر للسماء و كأنه يطلب العون .. لا يصدق بأنه قبل ثوان كانت عيناه تبكيانها ... وهي تكاد تموت... لقد اكتشف هذا الشيء الرهيب .. أنها إذا ماتت ... فلن يقدر هو على العيش...!!
... كانت على وشك الموت ... ربما ألم شديد .. لكن لفترة قصيرة . ثم يسوّد كل شيء... و ... لا تدري ... مهما كان ... لم يعد هنالك من شيء كما قالت للعيش لأجله ...
لقد قتلوا كرامتها ... سلبوها حقها بالعيش الجيد والأختيار ... علّموا على جسدها كله ... اهانوها حتى تعبوا ثم طردت كم من مرة .. وعندما وجدت من.... من...
نظرت في عينيه الزرقاء الفاتحة العميقة والدافئة ... كان مستغرب هدوئها المفاجئ والتفافتها إليه لتنظر في عينيه... تأملته لجزء من الثانية فغاص قلبها و انتفض جسدها كله ... لقد ... وجدت من تحبه !!!
ارتفعت الدموع مجدداً... تباً و ألف تباً !!... لقد أحبته .. لقد أحبت أليكسس الذي بعيد مناله كبعد هذا القمر !!!.
و عندما وجدته ... كان قد فات الآوان ....
سالت دموعها بصمت و قد توقفت الشهقات .. ولأنها تحبه وهو لن يكون لها .. فمن الأفضل أن تفكر بقتل نفسها مجدداً... هذا سبب آخر ... رباه أيها القلب ... ألم ترى أي أحد غيره ؟!. أنه لن يكون لك .. والآن مالذي ستفعله ؟!
_ أنابيـلآ ؟!.
كانت قد اعطته ظهرها تنظر بجمود إلى وريقة صغيرة عليها قطرة ماء تلمع ... بينما هو خلفها تماما .. ظهرها يلامس جانبه... بعد كل هذا الألم .. أًصابها الجمود ... و الآن متى يذهب هذا الرجل حتى تبدأ البحث عن صخور آخرى ؟!.
_ آنابيــلآ ....؟!
فتحت فمها مصدومة وهي ترى ذراعيه يغمرانها مجدداً ويضمها إليه أقرب قليلا... همس لها بهدوء :
_ مالذي رأيته ؟!.
أمضت ثوان حتى تستوعب ما يقول و ما فعل .. هو يضمها إليه بحنان وهي مستلقية في حجره .. أغمضت عينيها غير قادرة على النظر إليه...
همست بصوت يرتجف أخيراً : دعني... وحدي .. أرجوك ..
_ ليس قبل ... أن تخبريني , مالذي رأيته بعيني جعلك تصدمين هكذا و ترتعبين ..!
لم ترد عليه لقد أرعبها حقا الحب الأحمق المؤلم الذي ظهر فجأة .. لكن مهلاً .. هي للتو عرفت ماتكون مشاعرها .. لقد كانت تحبه منذ أول لقاء ... و للتو تفهم شعورها بقيت تجاهد الدموع و قلبها لا يزال يخفق بجنون .. تبا لقد بكت بما فيه الكفاية ... ولا يزال هنالك دموع !!
_ اخبريني .. أنا لن اتركك أبداً و بهكذا وضع .. ستفكرين بقتل نفسك مجدداً, ألم تفكري بما سيحدث لي لو كنتِ جثة الآن بعد إخراجك من قاع البحيرة...
أمسك بذقنها و وجهها إليه لينظر في عينيها لكنها سارعت و أطبقت جفونها الكثيفة...
_ لا تفعلي هذا...!
فوجئت بنبرته المتألمة .. ففتحت عينيها ببطء و هي على وشك الانهيار... كانت عيناه العميقتان لامعتان جداً... و هناك خط جاف فوق خديه ... ضاق بؤبؤيها حتى اصبحا نقطة صغيرة !!!.
غير معقول !! أبداً !!... هل ..هل يمكن أنه كان يائساً لأجل انقاذها... هل سببت هذا... لقد أبكته !!.
لا تدري لكنها رفعت يديها النحيلتين جداً و الباردتين لتحيط وجهه .. أغمض عينيه هو بارتياح طفيف ثم فتحهما ينظر إليها ... همس يقرب وجهه منها : لا تذهبي مجدداً .. فتاتي الطيبة...
و قبلها بين عينيها... ارتجفت شفتيها وهي تقول بصوت مبحوح : أليكسس أنا... ليس هناك من أمل... دعني أرحل بعيداً... " رباه أنها حتما ستسقط ميته أن رأته يهتم هكذا بامرأة آخرى!
أجابها بهمس وهو يمسك بيديها بين يديه : كانت لديك أفكارك بشأن رحيل أبدي .. لن أدعك مجدداً أتسمعين ؟!.
ارتجفت وهي تكاد تبكي , قائلة : لن تعلم ! ... ستكون مشغول جداً... صدقني ..
_ عما تتحدثين ؟!...مشغول بماذا ؟!.
شهقت قائلة بألم تخفي عينيها عنه : مشغول بزواجك بالطبع .. أنت ترهقني !.
حرك رأسه بضيق و قال بخفوت متردد : دعني عنك هذا الآن ! , أنا أريد التحدث عن أمر آخر...
ثم اعتدل فجأة بجلسته و جعلها تتكأ على الشجرة خلفهما وهو بجانبها .. قال بحسرة : علمت بما حدث .. أثناء غيابي... أخبرني خادمي بكل شيء و بسرية .. لا أدري ما أقوله أنا ...
قاطعته وهي تضع اصبعيها على شفتيه : ليس الأمر هو فقط...
_ لقد أهانك والدي ! و طردك من قصري الخاص بي أنا... مالذي يمكنني قوله... الاعتذار يبدو أسخف شيء قد افكر به .. صدقيني .. لا أدري بأي شيء أبدأ...
كان حزينا جداً ومتضايق للغاية لدرجة أنه فقد كلماته... أمسك بيدها و قبلها بيأس ... ارتجفت وهي تراه بهذا الشكل ..لا تعي ما فعلت جيداً لكنها رفعت ذراعيها وضمت رأسه إلى كتفيها تمسح عليه بينما دموعها تسيل بحرقة... همست:
_ نحن لا نختار آبـاءنا صدقني ليس هنالك ما نفعله...! ..أليكسس أنا .. أقدرك جداً ..
همس وهو يحيطها بذراعيه : وأنا أقدرك للغاية أميرتي الرقيقة .. لقد خفت كثيراً .. لقد جرحوك بعمق , أنا آسف .. مالذي يمكنني فعله كي تسامحينني ؟..
فكرت بقول طائش كـ أبقى هكذا وسيشفى كل شيء .. لكن بقيت صامتة بحزن مفكرة .. بأنه فقط يشفق عليها .. أنها بائسة وبسبب قلب أليكسس الأبيض عاد يبحث عنها ووجدها بأسوأ حال , لهذا هو باقٍ يهدئها , أنه يظنها فتاة قد جُنت وفقدت علقها تحتاج للمراقبة ولشيء من الحنان...!
همست بتعب وهي تزيح ذراعيه : اتركني هنا و عُد .. أعدك بأنني لن أحاول قتل نفسي "... أكملت بقلبها هذا اليوم .
حدق بها مندهشاً , قال بلا فهم لما فجأة تريد أبعاده : ماذا ؟!.
عضت شفتيها بألم وغار قلبها وهي تقول بضعف على وشك البكاء : لأن غدٍ يومك زفافك ! .. يجب عليك أن تذهب للراحة الآن و...
_ تباً للزفاف ..!! " قاطعها شاتماً بعنف وقد التمعت عيناه الخلابتان .. أمسك بذراعها كي لا تبتعد قافزة فجأة و تابع :
_ أذهب للراحة ! , لا شك بأنك تمزحين... أنابيلآ.... أنسى الغد و الأمس أرجوك... أنظري فقط أين نحن الآن .. بحيرة ينعكس عليها ضوء قمر منتصف الشهر... تحت سنديانة ضخمة كلانا معاً هذا ما يهمني فقط .. أرجوك اهدئي فقط و دعينا نرتاح كلينا من كل ما حدث ..
وضع ذراعه خلف ظهرها و قربها منه مجدداً برفق ثم وضع رأسه فوق رأسها يستريح أغمض عينيه براحة تامة ..
همس لها بلطف : إذا أردتِ أن تنامي .. فنامي الآن.
لكنها أبقت عينيها مفتوحة و تحاول أن تفعل كما قال ... تنسى الماض و الغد و أن تبقى بقربه تستعيد قواها وترتاح... دون أن تشعر مالت إليه و وضعت رأسها على صدره ... تستمع لضربات قلبه المنتظمة القوية .. لن تنسى هذه الليلة ما حيّيت .. لقد اكتشفت بأنها قد وقعت رأساً على عقب في حبه ... و فوق فوضى حياتها دخل الحب بتوقيت رهيب بائس ... فانقلبت الفوضى مجدداً ... يالا التعاسة يالا الغباء .. لماذا لم تمت قبل كل هذا... قبل أن تعرف أليكسس ...؟!؟.
فتحت عينيها بثقل شديد في وقت ما و رأت خط الفجر البعيد في الأفق فوق السهل الكبير... كانت تشعر بذراعيه حولها وأنها في مكان مرتفع ... كما أنها تسمع انفاسه المنتظمة و صوت حوافر الحصان... رفعت بصرها بإرهاق شديد ... لم يكن ينظر إليها بل إلى الأمام بكل هدوء وهو يقود الحصان و الحصان الآخر قربه ... ترى أين يأخذها ؟!.
عادت للنوم المتعب .. بينما يدها تشد بلا ادراك على قميصه ..
|