الجزء الثاني عشر (( تعمّق , تمرد و .. صمـت ! ))
كانت تحلم بغريب في قاعة الحفلة الضخمة هذه , وكان هو يقف وحده بجانب زاوية المدخل الكبير والظلام يحيط به ... تساءلت بحيرة عنيفة من يكون وشعرت بضربات قلبها تفور ... بينما الحشود يتحركون بكل مكان تحت الأضواء البراقة ..
بقي هو صامتاً هادئاً وعابساً غير راضٍ ... هي لم تعرف المكان , لكنه كان جميلاً .. التفت الغريب يريد المغادرة غاضباً , فشهقت هي و ركضت تخترق الناس خلفه تريد فقط أن ترى وجهه ولو أمكنها فقط أن تقف على الشرفات هنا لرؤية الضيف الغريب الغاضب والحزين بنفس الوقت .. نزل الدرجات وهي تتعثر خلفه , ثم سقطت ... فلتفت نحوها و مد يده ليساعدها وعلى الوقوف عندها رأته ..
كانت تحلم بـ "والد دايمنـد " .. مارسيز ..
رفع الطبيب رأسه وهو يهمهم متعجباً ومندهشاً .. فك الرباط عن يدها عندما كان يجس النبض وبدأ مع مساعدته في جمع أدواته ..
ابتسم لها وقال بهدوء : أنتِ متحسنة بشكل كبير عزيزتي .. سوف أعود للتحدث معك بعدما اطمئن الملك .
لكن الباب طرق و أطل منه حارس ما يقول بتعجل : الملك سيدخل ..!
أنهم يعرفون بأنه سيفعل فوراً... وهاهو الحارس يبتعد بسرعة و ينحني عندما دخل "كرايسيس" بقوة وتعجل وهو ينظر لابنته بقلق واضح ..
اقترب منهم بسرعة بكل ملابسه الملكية الفاخرة و قال وهو يجلس على طرف سرير ابنته و يمسك بيدها :
_ حدثني بصدق أيها الطبيب...
أومأ الطبيب وهو يقول برزانة : أن الأميرة متماسكة جداً وقد تحسنت بشكل واضح , تبدو بأفضل حالٍ لها, لكني غير واثق من السبب ...
قال جملته الأخيرة وهو ينظر إلى "غاردينيا" بحيرة شديدة و تفكير عميق , فكرت هي بأنه يجب أن تخبرهم عن الدواء الغريب الذي جلبه لها اللورد الذي يعدونه عدواً...
فانحنت وفتحت الدرج تحت الصمت المطبق , وأخرت الزجاجة الصغيرة وهي ترفعها ليد الطبيب قالت بهدوء شديد : كنت أشرب من هذا الدواء طوال أيام , لقد .. جلبه لي اللورد دايمند عندما كنت على وشك الموت...!
تجمدوا جميعاً , بينما نهض الملك مصدوماً جداً وعيناه زائغتان , قال بصدمة بطيئة : عماذا تتحدثين عزيزتي ؟!.
كررت غاردينيا كلامها وهي تنظر إليه بعطف وصدق : صحيح أنه اختطفني أبي , لكنه قام بعلاجي !.
هز الملك رأسه لا يستطيع الاستيعاب بسهولة , بينما توتر الطبيب وهو يحدق بها ثم بالزجاجة ذات السائل الأحمر القاني بين يديه .. قالت غاردينيا مجدداً بنبرة مذنبة : لقد اعاطني الدواء و طلب مني الشرب منه كل ليلة قبل النوم !.
التفت الملك نحو الطبيب ليتبادلان نظرات الصدمة معاً .. ثم نطق الملك اخيراً : ولكن .. كيف عرف بمرضك و...و عالجك بهذا ؟!.
كان لا يقدر على صياغة السؤال .. أنما يريد شرحاً لكل شيء...
ضيقت غاردينيا عينيها بتوتر و قالت بخفوت وهي تحاول التذكر : آآمم .. لقد .. آه اختطفوني أصلاً وأنا في نوبة مرضي ولم أكن أعي جيداً ما يحدث .. كان هناك... آه مساعد له... أعني حكيم... أظن .. لست واثقة كارلا تتذكر ما حدث .. ثم ... ثم تفرقنا و....
فصمتت تحاول التذكر جيداً... سمعت صوتاً يجلجل , ثم ظلاً أسودا كبيراً بدرع ضخم شعرت بأن طوله و ضخامته تغطي الجدار كاملاً .. و بعدها وجدت نفسها في قصر ما...
قاطع الملك ذكرياتها بصوت قلق : غاردي حبيبتي ...؟!
نفضت الافكار وقالت بهدوء وابتسامه جانبية تحاول طمأنتهم : وجدت نفسي بغرفة في القصر , نائمة في سرير دافئ وقد أقفلوا علي , فقط يجلبون لي الطعام .. وجلب هو فجأة هذا الدواء قائلا بأنه يجب أن أشربه كل ليلة مخففاً قبل النوم حتى أتحسن !.
زاغت عينا الملك و شحب وجهه , سأل بتردد و ضياع : ماذا ؟!.. من الذي جلب لك هذا ؟!.
ابتلعت لعابها و حاولت القول بهدوء وبساطة : هو بنفسه .. البارون مهما كان...
_ ألم يكن ذلك الحكيم الذي ذكرته ؟!.
هزت رأسها نفياً , فتوتر الملك بوقفته ونظر نحو الطبيب , قال يخاطبه بهدوء يخفي ضيقاً : خذه و تفحص ما يكون هذا الدواء جيداً... أنا لست واثقاً أبداً... أنه العدو وهو يعطي ابنتي دواءً... هذا أمر لا يصدق !.
أومأ الطبيب , وهم بالخروج لكن الملك قال له بهمس : هذا الأمر سري , لا تدع أحد يعلم وإلا ستفقد أكثر من مكانة !.
_ أمرك يا مولاي مطاع ..
ثم غادروا بسرعة.... نظر الملك لابنته بقلق , قالت بضيق : أبي ! , علي أن اشرب منه الليلة ..
_ ستتناولين الادوية التي خصصها لك الطبيب الذي نثق به !.
زمت غاردينيا شفتيها وقالت بامتعاض : أدويته لم تنفع كما هو واضح لي ..
_ هذه المرة هناك علاج جديد !.
_ لست واثقة بهذا أبي ...!
_ لا تثقي بالعدو, قد يكون سما بطيء المفعول !
تذمرت وهي ترد : لقد أخرجني من أسوأ حالاتي !.
تذمر هو أيضاً قائلا : لا تذكري الأمر أنه يؤلمني , هيا ارتاحي !.
و التفت ليخرج بسرعة , فتحت فمها لتناديه ان المناقشة لم تنهي .. لكن ادركت شيئا .. بأنها أخطأت عندما أرتهم العلاج !.
ضاق جبينها ويريدني أن ارتاح و أنا للتو افقت من النوم , سأخرج من هنا ..
تمشت طوال اليوم تحيط بها عدد من الوصيفات , كان تشعر بالهدوء الممل و فكرت بأن تحيي مهاراتها في تنسيق السلال والأزهار التي تعشقها في الحديقة .. أخذت تفعل هذا حتى حل المساء .. ثم عادت للقصر حيث جلست مع أبيها في القاعة الخاصة ..
كانا وحدهما .. فتكلم معها والدها بكل حب و عطف وحدثها عن كل شيء ثم بعد فترة أخذها يسألها عما حدث لها في الأسر ..
قالت بأنها كانت بخير تماماً ولم تصاب بأي شيء .. كان يشك كثيرا , لكنها استطاعت نوعاً ما أن تجعله يسترخي و أخبرته بأن اللورد لم يؤذها فقط أبقاها حبيسة ولم ترى خلال فترة طويلة!
طبعاً كذبت وهي لا تشعر بالسوء كثيراً وكل هذا لأجل أن يطمئن قلب والدها , فما الفائدة من استرجاع الالآم !.
والآن حان وقتها لتسأل , سألت بكل هدوء و رصانة : إذن أبي .. ما كان يريد هو منك ؟!
حدق بها والدها لفترة ثم فجأة أراد النهوض والهرب بقول شيء ما لكنها كانت تلاحظه , فقالت بسرعة وهي تمسك بيده :
_ مهلاً , أخبرني , ما كانت المفاتيح التي ارسلتها إليه ؟!.
عاد لينظر إليها مصدوماً لثانية ثم عبس و قال : لكن هذه الأمور للكبار فقط و ربما بسببها هو أعادك ..
قالت غاردينيا بجدية وضيق : أبـــي !! أنا لست طفلة !.
زفر بوضوح و بنفس اللحظة دخل مساعده زارو القاعة وهو يقول : معذرة مولاي !, لقد بدأ الاجتماع...
كان الملك سعيداً بالفرار ونهض بسرعة وهي تنهض بقوة أيضاً أشعرتها بالدوار لكنها تمالكت انفاسها و حدقت بالوزير بحقد ... بينما هو نظر إليها يبتسم بسعادة ..
ثم غادرا بسرعة بعدما ودعها الملك بقبلة حنونة على رأسها ... ظلت عابسة حتى بعدما أغلق الباب ثم أخذت تذعر الغرفة جيئة و ذهاباً وهي تتخبط بأفكارها ... لا من الغير المعقول أن يتوقف دايمند عن القتال إلا لسبب... و سبب قويّ كفاية يوقف ذلك الشيطان !!
فكرت بتوتر , هل ينوي سوءاً...؟! هل يخادعهم ثم يغدر بوالدها ربما....!! أنها حتى لا تدري مالذي يريده ويقاتل لأجله...!
في نفس الليلة أتى الطبيب بوقته , أمضت فترة ما بعد العشاء كلها في سريرها فقد بدأت الآلآم تعود .. و كادت ترسل وصيفتها لتستدعيه .. لكن الملك أتى أيضاً ...
حدق بابنته بقلق بالغ ثم جلس قربها وهو يملس وجهها الذي شحب فجأة .. سألها برقة : ماذا تحسين حبيبتي ؟!.
تنفست الأميرة بعمق و أجابت بهدوء : لا أدري , كلما أقف أشعر بضعف وألم شديد أسفل قلبي...
قال الطبيب وهو يخرج زجاجة دوائها الأحمر : لقد فحصته لكني لم انتهي , أنه يحوي عصارات متعددة من نباتات زهرية كثيرة .. مسكن قويّ و معالج للالتهابات ولكن ...
هتف الملك بتعجل : هل هو ضار أم لا ؟!.
_ لا يا سيدي...
_ إذن هاته ...!
سكب لها والدها بنفسه قطرات في كأس ماء صغير , و ساعدها على شربه , ثم همست : شكراً أبي...
و داهمها النعاس وهي تسمع والدها يتساءل ناظراً للطبيب : هل سيشفيها ؟!. هل هو العلاج الذي نبحث عنه ؟!
لكنها لم تسمع اجابة الطبيب , غرقت بالنوم الهادئ العميق مباشرة...
مر أسبوع كامل هادئ و مسالم و دافئ لـ غاردينيا التي قد استعادت صحتها بشكل جيد وكأنها لم تمرض من قبل , لقد قام والدها بإرسال أشخاص كثيرين متخصصين كي يجلبوا لها مكونات هذا الدواء , والبعض ذهب لممالك بعيدة بعد أن تأكدوا من فعاليته , غير أن الملك لم يكن ممتنا جداً ..!
أمضت وقتها الهادئ مع صديقاتها و قريباتها في الحدائق الملكية , ولم تصر على مناقشة والدها في الأمور الغامضة التي تستحل زوايا من عقلها ...
ففضلت المضي بحياتها بعض الوقت , إلا أن يصفى ذهنها أكثر و سوف ترى بعدها ما ستفعل !.
لاحظت بأن "زارو" يتودد إليها كثيراً .. ويستعرض أمامها مهاراته , ولكنها لم تحبه قط لفعلته تلك .. فكلما رأته تترائى لها صورة دايمند ... فكرهتهما الآثنان معاً ...!
وأتى يوم ما كانت تجلس وحدها في الحديقة فاستغل الوزير الشاب الفرصة و أتى ليجلس معها و يحدثها ... ثم دعاها لحفلة تقام في قصره الرائع ... ويجب أن تأتي لأن الحفلة على شرفها كما يقول ...!!
فوافقت مرغمة وهي لم تحب الحفلات كثيراً ولم تحضرها كثيراً أيضا بسبب مرضها و ضعفها الشبة دائم ...
فاجئها وهو يقول بمرح بالغ : حفلة تنكرية !. لا يجب أن يتعرف عليك أي أحد , قناعاً جميلاً على الوجه يجعلك غامضة !.
بعد أن تمالكت غاردينيا نفسها و استيعابها قالت ببرود : لا أحب هذا النوع من الحفلات , أنها تسبب التوتر .
_ بل الأثارة و الحماس , هيا لا تتحدثي ككبار السن الذين يعشقون السلام والهدوء الخالي من الأثارة !!.
نهضت الأميرة غاضبة وقالت ببرود : آوه حقاً , أبحث إذن عن أميرة شابة تليق بك...!
نهض مصدوماً خلفها وهو يحاول مجارات خطواتها السريعة : مهلاً , أنني أمازحك فقط أنت بحاجة للتغيير عزيزتي.
_ لا تنادني عزيزتي وأنا أريد البقاء وحدي الآن !.
أوقفها عند مدخل القصر وهو يقول برقة : آسف سامحيني , لقد جلبت لك هدية و أرجوك أن تكوني هنا و ترفقي بقلبي.
ترددت قليلاً بسبب نبرته وقالت بهدوء : آوه حسنا , سأحضر .. لكني أخشى أن تصاب بالملل من صحبتي !.
رفع حاجبيه وأطلق ضحكة خافتة : بالطبع لا .. أعدك بأنك أنت أيضا ستستمتعين !.
وأتى الميعاد , فارتدت غاردينيا ثوباً فاخراً لكنه غير مكلف , بلون الورد الفاتح مع أنها غير سعيدة تماما وهي ترفع شعرها بطوق فضي به ألماس صغير و قناع ذهبي مزخرف على عينيها الزرقاوان كالبحر .. شعرت بأن أمراً ما مثيراً سيحدث , مثير بشكل غير جيد...!
توقفت العربة أمام بوابة قصر كبير عتيق ويبدو أنه في يوم ما كان فخماً مملئتاً ونابضاً بالحياة كانت أنوار الحفلة الشابة تشع منعكسة على أشجار الحديقة الرائعة , احست بالدهشة .. ياله من قصر ضخم لوزير شاب لا يبدو جدياً جداً. كما أنه يسكن وحده !!
دخلت وحدها وقد رفضت أن تصطحب أي مساعدة معها سواء وصيفة أو خادمة , سلمت بطاقتها الذهبية بنفسها لخدم الاستقبال وهي تبتسم بسحر خفي غير راضية تماماً لمجيئها لكنها أحست بالواجب ..
كانت تضع قناعها الذهبي الرائع وعيناها تبدوان كالزمرد من خلفه , حيوها الأمراء و الأميرات تعرفت لبعضهم , ثم أتى زارو وقد عرفته جيداً بلباسه الثمين جداً و قناعه الأزرق الداكن ... حياها بحرارة شديدة وهو يقبل يدها ثم تأبطها ليسير بها بين الجموع ..
واثناء الرقص ظلت هي تتفرج بينما رفضت بلطف عرضه لمراقصتها , فقال لها : آوه سأجلب هديتك الآن أبقي هنا ..
وغادر مستعجلاً , حدقت غاردينيا حولها ثم هزت كتفها ببرود وفكرت متى تنتهي الحفلة .. لكن سمعت صوت أبواب المدخل في الخلف تفتح ثم تغلق بخفه .. بسببه تسربت لفحة هواء بارد سرت على جسدها فارتعشت قليلاً وهي تحرك شعرها الذهبي ...
ما هذا الأزعاج !!, فكرت ببرود .. ثم , لا شك بأنه ضيف متأخر فضل أن يدخل من الأبواب الخلفية كي لا يثير الانزعاج !.
مع هذا هي انزعجت وضمت كتفيها من البرودة الغريبة التي تسللت ... رأت من طرف عينها عباءة سوداء تمر من خلف ستائر الممرات , فلتفتت عفواً , ولم ترى شيئا... خيل لها أمر ما !
فأخذت تترقب بشعور غريب .. رأت من خلف الضيوف في آخر القاعة قرب الشرفات ظل يمر بصمت وهدوء
فتحركت من مكانها لترى جيداً .. دققت البصر و... وقعت عيناها على جسد ضخم يتوشح السواد والذهبي , كما أن العينان الرماديتان تلمعان بالشرر من خلف قناع حالك الظلام وقبعة مظلمة وكأنه شيطان أسود يقف محدقا وفي الزاوية , لا يبين سوى عينيه واللتان توقفتا ترمقانها بدقة وحده . .
كتمت أنفاسها بقوة فجأة وكأنها سقطت وسط مياه متجمدة , توقف قلبها عن الخفقان لثانية ثم عاد يضرب بجنون ...
تأوهت شاهقة بنفس الوقت , لا يمكن أن يكون هو...!!
لكن لا أحد يملك عينيه قاتلتين مثله !.
فتحت شفتيها رغما عنها وهي تراه يرفع ذقنه بتعالى و يهز رأسه بشكل خفيف , وكأنه يقول لقد عرفت من تكونين !
ألقى عليها نظرة استخفاف مزعجة ثم اختفى كالشبح من خلف الجموع .
وضعت غاردينيا يديها على قلبها النابض وهمست بنفسها مالذي يفعله هنا ؟! , وماذا يريد ؟!.
وانتبهت برعب أنه اختفى في الممر , فقررت شيئا , بالرغم من ضجرها فقد بدأت الأمور المثيرة أخيراً ..
فتسللت هي أيضاً من خلفه تقودها ضربات قلبها المتوترة !!. |