تأوهت مارسيلين واستيقظت بكسل و جهد , شعرت بالصداع والدوار لكنها تمالكت نفسها دخلت الخادمة تحمل لها وعاء الغسل والمناشف , لكنها قالت بهدوء : سأستحم فوراً.
وبعدما استعادت حيويتها و هي ترتدي ثوبها الفاخر أمام المرآة الطويلة تذكرت بأن أحلام هذه الليلة كلها عن "سيدريك" فزفرت دون قصد و التفتت لتنظر فزعة للوصيفة الشقراء الشاحبة المبتسمة ..
قالت الفتاة : صباح الخير سيدتي , الفطور جاهز ..
نظرت إليها مارسيلين بقلق لكن بعداء . فلم ترد عليها بل سارت من جانبها ببرود و دخلت الغرفة الأخرى لتجلس بهدوء و لتتناول طعامها .. بعدها جلست وقتا طويلاً مع الملكة حتى أتى المساء .. ثم تذكرت بأن تراسل أخاها , دخلت المكتبة الضخمة وقد أمرت وصيفتها ألا تزعجها فانصاعت تلك الأخيرة وذهبت , لكن الحراس الذين يرافقونها لم يتركوها بقي اثنان بالخراج واثنان معها في الغرفة , كانوا هادئين صارمين لكن غير مثيري للفضول كـ "سيدريك" الغامض ..
مع هذا هي لم تنزعج كثيراً وقد اعتادت عليهم .. كتبت لـ "ليلياك" أنها اشتاقت إليه و ترغب بشدة بزيارته و رؤية كاميليا , لكنها تركت له حرية أن يختار هو الوقت .. وبما أن الرسالة ستستغرق ثلاث أو أربع أيام من السفر المتواصل لبعد المملكة فعليها أن تفكر بشيء ما تفعله في هذه الفترة !.
تمشت حول الشرفة و نظرت للخارج حيث كانت هي بالطابق الثاني الهادئ جداً , رأت من خلف أشجار الحديقة , رأس بشعر أشقر مربوط تعرفه مقابل لرجل ضخم يرتدي زي الحراس ..
توقفت مارسيلين وأخذت تحدق بتركيز , تلك الوصيفة المريبة تتحدث مع أحد الحراس وهذا الحارس ضخم الجثة أسمر و غريب أنها لا يمكنها تذكر كل الحراس والخدم بالقصر طبعاً , لكن لا يسمح للمرافقات أو الوصيفات بالتحدث للحراس إلا لأمر طارئ أو ان كانت زوجته ..
رفعت حاجبيها ببرود وزمت شفتيها . . شعرت فجأة بأنها لا تود أي خدم , أو الوصيفات أو حراسة , يمكنها أن تعتمد على نفسها حقاً ... كم مرة استحمت في البرج , و سوت شعرها و تناولت طعامها , صحيح , ان تالين كانت تساعدها كثيراً جداً .. لكنها أيضا كانت تفعل الكثير . ربما هذه الفائدة الحقيقية التي خرجت بها من اخفائها بذلك المكان مع حارس وحيد و مساعده عجوز...!
مساءا على العشاء , وفي غرفة خاصة ..
وقفت مارسيلين مصدومة وهي تقول : أنا لا أصدق أنك تفعل هذا بي !.
ثم التفتت لزوجة والدها وقالت بنبرة شبة باكية غاضبة : أنه لا يثق بي هل ترين هذا عمتي ؟!.
هزت الملكة رأسها بتفهم وهي تهمس برقة : حبيبتي أجلسي و...
لكن الملك تحدث ببرود قائلاً : مارسيلين , أنت الآن تثبتين صحة ما أفعله لأجل تصرفاتك , لا تهتاجِ هكذا كفرس برية !.
قالت الاميرة بعناد : أحب هذا الوصف على أن أكون تحت المراقبة ..
ضيق الملك جبينه , وقالت زوجته بلطف : أنها فترة مؤقتة حبيبتي , لا تهتمي لها تصرفي براحتك .
زمت مارسيلين شفتيها بضيق والملك يرمقها بهدوء قال : أجلسي الآن وأكملي شرابك , و تقبلي الأمور كفتاة راشدة !.
نظرت نحوه و لم تنطق بحرف , ولقد بدأت خطة ما تتكون برأسها ... وأساس هذه الخطة هو...
في صباح اليوم التالي وبعد الإفطار , توجهت نحو الحديقة تتمشى و من خلفها الوصيفة الخاصة بها و ثلاث حراس , كانت تمسك بوردة بنفسج تعبث بها بين أناملها وهي تشعر بالملل لكن بالتردد من المضي فيما يدور بخلدها أم لا ..
لقد قام والدها بخطوة غريبة , زيادة عن الحراسة الجامدة وتغيير وصيفتها , لقد جلب لها سيدة , ليست معلمة تماما كما ظنت بل مراقبة للسلوك .. وهذه الأخيرة امرأة عجوز نحيلة القوام جدا مع ملابس متزمتة و وجهه عبوس و دفتر كبير بقلم و عيون ضيقة حادة وراء نظارتين صغيرتين ..
كانت هذه السيدة تذكرها ببعض الأمور أو التصرفات الشديدة الأدب حتى مع الأوضاع التافهة , لذا قررت مارسيلين منذ البداية بتجاهلها أو الرد ببرود عليها .. بينما قلبها قلق مما تخطه خلسة فوق أوراقها !! و لكن علقها يأبى الخنوع... أبداً لن يخضع !!.
رأت والدها و زوجته للدهشة قرب البحيرة يتمشيان بكل حرية وبلا حراسة , تعجبت كثيراً و راودها احساس بالضيق و الحزن ,يصر على الحراس المشددة عليها وكأنها مجرم وهو يتمتع بكل الحرية !! ..
قالت هامسة ببرود للوصيفة : أريد التحدث مع الملك والملكة , اذهبوا قليلاً.
وافقوها وغادروا كل مرافقيها , بينما هي تتقدم من خلف والدها و زوجته بهدوء لم يكونا منتبهين عليها , توقفت فجأة متسمرة وهي تنظر للطريقة التي يمسك بها والدها زوجته , كأنهما عاشقين متزوجين للتو يتهامسان و يضحكان و ذراعيهما متشابكة ..
اعتصر قلب مارسيلين لا تدري لما , حزن , غيرة , وحده ...! لكن مهما كان هو ليس شعور جيد ..!
فجأة ذكرت الملكة اسمها , مارسيلين ...!
التفتا معا للممر الحجري المرصوف الآخر , وانتبهت الاميرة بسرعة لنفسها لتندس خلف شجرة ضخمة مع فضول رهيب و قلق غريب ...
_ أنها تبدو وحيده جداً , يجب أن تدعها تخرج أكثر عزيزي , سوف تزهق روحها هنا لا توجد شابات أو شبان بمثل عمرها.
قالت الملكة بعطف , همهم الملك وهو ينظر بعيداً , قال ببرود : يجب أن تبقى بمكانها حتى نقبض على العصابة التي تحاول أذيتها .. هذا المكان الأشد أمنا لها .
صمتت الملكة لثوان ثم قالت فجأة : أنا اعتقد بأنها تحتاج لشخص ما , تستطيع أن تتحدث معه بحرية و ان يمتص ثورانها , أن عصبيتها ناتجة من حبسنا لها هنا .
حرك الملك يده في الهواء بيأس وقال : مهما كانت , أني أفهمها مراراً و تكراراً عليها أن تصبر لكن لا هذه الفتاة تحتاج لكبح !.
شهقت مارسيلين وقالت بنفسها , أنا لست عصبية ولا احتاج لكبح .. أني فقط .. احتاج ... احتاج ... و نظرت حولها بصدمة , همست برعب : مالذي احتاجه ؟! . مالذي أريده ؟!. ليست لدي فكرة... أنا... أنا...
وأمسكت برأسها قليلا , بينما عيونها الخضراء الجميلة متوسعة ... أنا ضائعة !! .
مساء اليوم , كانت المعلمة "هليغا" التي تدرس سلوك الأميرة الشابة مارسيلين و تحاول أن تذكرها بما هو ضروري كما يقول الملك ..
ثم في نهاية اليوم قدمت المعلمة تقريرها للملك في الغرفة الخاصة التي تحويه هو و المعلمة وابنته الصامتة و زوجته ...
قالت المعلمة ببرود و جدية : أن سمو الأميرة , متناسقة جدا في ترتيب شكلها الخارجي و اناقتها كاملة تماما خارجيا , لكن مع الأسف لا تكتمل هذه السلوكيات سوى بالأخلاق .. وأنا أرى بأن الأميرة كما سجلت لمراقبتها بأنها تتصف بالعجرفة في التعامل مع الآخرين خاصة من هم أقل منها مرتبة , و بالبرود مع من هم بمثل مستواها , وبالتمرد والتملص من الواجبات مع أي أفراد آخرين في القصر و كذلك مع جلالتكم .. كما أن تصرفاتها مع الخدم الخاصين بها متعالية للغاية و متكلفة !.
فتحت مارسيلين فمها صدمة , وقد تذكرت حادثة ما , في غرفتها جلبت لها الوصيفة كأس ما . لكن مارسيلين لم تكد تمد يدها إليه حتى سقط على الأرض وقد تركته تلك الفتاة , صحيح أنها كانت تنظر خارج النافذة كان يجب على الوصيفة أن تنتبه .. و فقط وبختها مارسيلين لأن الكأس تكسر و الماء تناثر و سبب فوضى ! , هل اشتكت الوصيفة عليها ! و بأي حق !؟!
كادت تصرخ لكنها تماسكت , وهي تنظر لوالدها بتردد , كان الملك بارداً يدق بأصبعه على المنضدة أمامه بينما بدت الملكة متضايقة جداً .. غضت على شفتيها و رمقت المعلمة تلك بنظرات قاتلة .. فتنحنحت المعلمة وكادت تغص ..
ابتسمت مارسيلين بسرها وقالت بنفسها , هذا يكفينِ جداً , سأنفذ خطتي الليلة... تثائبت فجأة , آآآه أو ربما غداً ...
قال الملك فجأة بعدما انتهت المعلمة من سرد تقريرها الطويل و مارسيلين كادت تغفو على ذراع المقعد : مارسيل !.
فتحت عيناها بسرعة و قالت بتوتر : آه ماذا ؟!.
_ اذهبي لغرفتك الآن و سنتحدث غداً , لقد تأخر الوقت.
نهضت بحده بسبب لهجة والدها الباردة التي تخفي غضباً , قالت ببرود : أجل بالطبع , كنت أتسائل .
و رمقت المعلمة بحده وهي تقول لها بكبرياء : استمري بما تفعلين , جميعكم استمروا , لكن لن يتغير شيء... عمتم مساءاً.
تركتهم فاغري الأفواه وهي تخرج بسرعة غاضبة ... آآآوووه لقد أخطأت بالطبع و فوراً راودها شعور بالذنب , أن لسانها سليط ينطق بسرعة قبل أن تفكر ... ستعتذر غدا لوالدها و الملكة فقط .. ولكن ليس شخصياً ..!.
كتبت رسالة طويلة تحت الشموع , وجهزت لها حقيبة من الجلد صغيرة لكن بها كل ما تحتاج , ..{.. اعتذار لأبيها , و زوجته الرقيقة و أنها سوف تقوم برحلة بسيطة وحدها و ستعود .. الأمر لا يتعلق بأحد ... بل بها هي نفسها .. قالت بأنها تشعر بالضياع ولا تعرف ما تريد .. و ربما أن خرجت سوف تتعلم شيئا .. هنا .. تشعر فقط بـ ... اختناق الأنفاس...}
خرجت من غرفتها ترتدي ثوبا كبيرا خبأت به الحقيبة , قالت للحراس بهدوء وجدية : أريد رؤية الوزير فالكوس .
أخذت تدعو بقلبها أن يساعدها ... بهذا الأمر فقط .. دخلت في المكتبة الخاصة و وجدته بقي الحراس بالخارج , وكانت الوقت يقترب من منتصف الليل ...
حدق بها بصدمة ولكنه قال برقة وهو يسحب كرسياً لها : أهلا سموك , تفضلي بالجلوس , بما أخدمك.
قالت بصدق : آووه عمي فالكوس أريدك أن تسلم هذا المظروف لأبي.
و نظر نحوها بشك و قلق وهي تمد له بظرف كبير , قال متسائلا : ولم لا تسلميه أنت بنفسك عزيزتي.
رفعت حاجبيها و قالت بهدوء : أكون عندها أبحث عن أمر مهم يعنيني... هل علمت بأمر تلك السيدة المتزمتة التي تراقبني بعيون كالصقر و تكتب كل حركاتي على الورق .
_ حسنا يا عزيزتي , لا يجب عليك الكلام عنها هكذا , و نعم علمت بها , طلبت من والدك ألا يفعل .. لكنه يفكر بك كثيراً و يهتم جدا...
_ أعلم بأنه يحبني و يهتم بي .. وأنا كذلك جداً ... لذا اعطه هذا أرجوك.
تردد قليلا ثم وافق وهو يراقبها بينما تسلمه الظرف . خفق قلبها وهي تتذكر سيدريك فجأة لا تدري كيف لكن خطر ببالها ..
سألت الوزير بهمس : إذن ,ألا تعرف أي أخبار عن .. حارسي السابق...
ضاق جبينه ثم قال بهدوء : أنه لا يزال خارج البلاد , الأرجح بموطنه...
_ آه بالجنوب...
_ بل بالشرق نعم همم .. هل تودين أن يعود , بصراحة أظنه أفضل حارس لك حتى الآن , أنه قوي جداً و ذكي . لكنه صامتاً جداً...
داهم الحزن قلب مارسيلين من كل اتجاه , و اعتصر بحنق !.. لكن مالذي تستطيع فعله .!
همست بضعف : نعم , مع حق , لكن لا بأس .. آوه اعذرني هل يمكنني رؤية كتاب ما ...
_ آه بالطبع تفضلي .. سأجلس أنا هنا.
جلس الوزير بهدوء على الكرسي وهو يتفحص خريطة ما معه , بينما دخلت مارسيلين بين الرفوف و تعمقت حتى ظهرت لها الشرفات الضخمة , انسلت من واحدة منها و نزلت بهدوء ثم اخرجت عبائتها السوداء و توشحت بها . والآن إلى الاسطبل ...
حراسها المساكين ينتظرونها عند باب المكتبة بينما هي تركض وسط الحديقة المظلمة .. اخرجت فرسا سوداء و ركبتها بهدوء ..
بينما عقدت حقيبتها على ظهرها و السيف في وسطها والخنجر مدسوس في داخل ثوبها ... خرجت تمشي بحذر و صمت ...
لكن حانة منها التفاته و نظرت للأعلى , وقع بصرها على عيني الفتاة الحادتين الخبيثتين , من بعيد جداً كانت تلك الوصيفة تراقبها بدقة من الشرفة في الطابق الثالث .. و وسط الظلام , لكن عينيها تلمعان بسعادة و شعرها الفاتح واضح و شحوبها أظهرها و كأنها شبح ..
صدمت منها مارسيلين و تأكد شيئا ما بقلبها , آآآآوه هذا ليس بجيد ...!
حثت الحصان و اسرعت للخارج , و ما ان تخطت بقليل حتى انطلق خلفها عدة احصنة و من يركبونها بعباءات زرقاء داكنة...
كان حصانها جيداً جدا و سريع , وهي ماهرة به ... بينما كانت الليلة حالكة للغاية و قد غاب القمر في هذا الوقت المتأخر ... اسرعت الأميرة للأشجار لعلها تظللهم و لكن حدث العكس ... فقد ظللتها الأشجار و ابطأتها ,
فالتفتت للجهة الثانية البعيدة و خاضت وسط جدول كبير وهي تشجع حصانها , بينما هم خلفها , ربما ثلاث أحصنة ..
اقترب منها أحدهم و رفع السيف عالياً . فانحنت مارسيلين بسرعة ثم سحبت سيفها هي وهي تردد بقلبها برعب , أبي أحبك ... أمي ربما أنا آتية إليك بالطريق...!!
لكنها ضربت الفارس دون قصد على وجهه . فصرخ و تعثر مبتعداً...!
آوه أنا مريعة بالسيف , لكن لأجرب... و اقترب منها الآخران , صرخ أحدهم : نريدها حية الآن !!. لا تقتلها...
تعرفت على الصوت الحاد المريع , أنها تلك الوصيفة !! ... أنها خائنة جاسوسة منذ البداية !!.
جاء بجانبها الفارس و معه سيف و سلسلة فأخذها يضربها بعنف وهي تقاوم بإرهاق شديد .. و رأت بأنهم أصبحوا يركضون بسهل واسع ... فأبطأت فجأة و تعثروا هم للأمام ... التفتت بسرعة و ركضت للجهة الآخر ... فعادوا خلفها غاضبين ...
لكن الحصان تعب من شدة الركض , و مارسيلين لن تقدر على المقاومة أكثر... فجأة أتى بقربها أحدهم و ضربها بالسلسلة على ذراعها فصرخت ألما ثم سقطت عن الأرض , بينما استمر الحصان بالركض ..
حاصروها و قيدوها بحده .. و تعرفت على الحارس الخائن الأسمر أيضاً... فضاق قلبها رعباً و ادركت بأنها النهاية ~.
غابت عن الوعي من شدة التعب و الخوف... |