شعرت بشخص يهزني بلطف : لينك ..لينك استيقظ ..! ألم تشبع بعد ؟!!..
فتحت عيني بهدوء و خمول .. سطع ضوء الشمس على وجهي حينها ..!
ذلك الشخص الذي أيقضني مسح على رأسي و هو يقول : هل حلمت بكابوس ؟!.. لقد كنت تبدوا مفزوعاً أثناء نومك ..!
بدأت الصورة تتضح حينها فرأيت تلك المرأة ذات الشعر الأشقر و العينين الزرقاوتين و قد عقدت حاجبيها بقلق : أمي ..!
هكذا تمتمت قبل أن أرفع رأسي عن الوسادة ..!
نظرت إلى الساعة : إنها العاشرة .. لما لم يوقظني أي شخص ؟!..
قلت هذا باستغراب لتجيبني : لقد ظننت أن ريكايل سيأتي لإيقاظك ..! أين هو الآن ؟!..
لم أجب .. بل بقيت صامتاً ..!
شهقت مفزوعة و هي تقول :أيعقل أنك طردته ؟!..
التفت إليها مستنكراً .. لما كل هذا الخوف من كوني طردت ريكايل : لا .. إنه في إجازة ..!
هذا ما قالته بهدوء فتنهدت براحة : هذا جيد ..!
في لحظة .. بدأت أشعر بالغيرة !!..
لم يشاركني أي شخص في قلق أمي و راحتها .. و الآن يأتي هذا الخادم المتشرد ليشاركني فيها !!..
رميت بجسدي على السرير مجدداً و غطيت رأسي بالغطاء : أأنت بخير لينك ؟!.. هل أستدعي الطبيب ؟!..
ترددت قليلاً قبل أن أقول : ريكايل مريض .. إني أنوي طرده !!..
قلت كل هذا كي أرى ردة فعلها : ماذا !!.. مابه ؟!!.. أهو في المشفى ؟!!.. أنا لم أرده منذ فترة !!.. لما تطرده !!.. عليك أن تعيده لينك أفهمت ؟!!..
قالت كلمتها الأخيرة باستياء واضح مما جعلني أغضب أكثر و قد بدأ شيطاني يوسوس لي ..!
رفعت الغطاء عن وجهي و أنا أقول بغضب و صوت مرتفع : لما بدأت تحبينه أمي ؟!!.. ذلك الفتى مجرد خادم متشرد !!.. أنتي تولينه اهتماماً يوازي اهتمامك في !!.. لما ظهر هذا الفتى في حياتي ؟!!..
صرخت بكلمتي الأخيرة مما جعل أمي مصدومة !!..
بالفعل أنا أشعر بالغيرة منه و أعترف بذلك !!..
كانت لا تزال تجلس على طرف السرير بينما أنا مستلقٍ على جانبي ملقياً إليها ظهري ..!
أرادت أن تنطق لكني قاطعتها حينها : لن أبحث عنهم مجدداً ..!تلك الأسرة التي لم تعرفني !!.. أولائك الأقارب الذين رفضوا رعايتي !!.. أنا لست بحاجة إليهم !!..
أظن أن صدمة أمي ازدادت الآن فقد قالت بشك : لينك .. هل سمعت شيئاً سيئاً عنهم ؟!..
نعم .. أنا عرفتهم !!.. عرفت ريكايل !!.. لا أريد شيئاً يربطني به !!..
أولاً .. لأنه خادم !!.. و هذا ما يقوله شيطاني ..!
ثانياً .. لأن أمي ستحبه أكثر مني إن علمت أنه أخي !!.. و هذا ما تقوله شخصيتي المهزوزة !!..
أنا .. إما شيطان أو شخص مهزوز الكيان ..!
سأبقى هكذا !!..
لا أريد تلك الشخصية اللطيفة الرقيقة !!..
تلك الشخصية التي جعلتني في هذا الحال !!..
هي من جعلتني أعشق ميشيل !!..
هي من جعلتني آنس لريكايل ..!
هي من دمرت حياتي !!..
لذا .. سأنساها : لينك بني .. هل أنت بخير ؟!..
انتبهت لصوت والدتي فرفعت الغطاء على رأسي : أمي .. من فضلك أخرجي !!.. لست بمزاج جيد للحديث الآن !!..
للمرة الأولى أطرد والدتي .. لكن يبدو أنها من شدة الصدمة وقفت و خرجت بهدوء !!..
.................................................. ...
بقيت ساعتين في السرير أفكر فقط بما يجب علي فعله ..!
و أخيراً .. اتخذت قراري ..!
سأنسى ريكايل .. سأطرده و أنسا أخوتنا التي لم يكن لها داعٍ منذ البداية ..!
حتى و إن أحببته .. سيسهل علي نسيانه مع الوقت ..!
و أيضاً .. سأنسى ميشيل ..!
سأضغط على نفسي و أنساها نهائياً ..!
هي لم تقدرني لذا سأنساها ..!
أما جوليا و الملجأ .. لن أتكلم معها فيه .. سأكتبه باسمها و أعطيها مبلغاً شهرياً ..!
سينزل في رصيد الملجأ كل شهر لذا لن أتواصل معها بشيء ..!
سأعود كالسابق .. بشخصيتي المتناقضة ..!
لكنها على الأقل لم تسبب لي الألم كالشخصية اللطيفة ..!
سأقابل ليديا .. ربما أحبها .. و حينها ستكتمل خطتي لنسيان ميشيل ..!
نعم .. سأضع ليديا صوب عيني .. فهي الأمل الوحيد للخروج من ما أنا فيه الآن ..!
وقفت و اتجهت لدورة المياه .. أخذت حماماً بارداً و منعشاً ثم ارتديت بنطال جينز أسود مع تيشيرت ترابي طويل الأكمام ..!
خرجت من الغرفة بعد أن انتهيت من ارتداء ملابسي و خرجت للجناح ..!
هناك ..صدمت !!..
كانت والدتي تجلس على الأريكة المقابلة للتلفاز بصمت !!..
لم يبدو أنها تحركت من مكانها بل حين طردتها خرجت و جلست هنا طيلة الساعتين الماضيتين !!..
فور أن رأتني وقفت لكنها بقيت في مكانها صامته ..!
شعرت بالألم حينها .. لما أزعجتها ؟!!.. لما فعلت ذلك ؟!..
تقدمت ناحيتها بهدوء دون أي كلمة .. و حين وقفت أمامها طأطأت رأسي و همست : آسف .. على كل كلمة قلتها ..!
شعرت بها تربت على كتفيّ : لينك .. هل حصل ما يزعجك ؟!.. منذ كنا في حفلة روبرتون و أنت لست على ما يرام ..!
لم أرد .. لم أعلم ماذا أقول لها .. لكنني بعد صمت قلت بصوت خافت : أمي .. أرجوك أريد أن أنسى .. لذا لا تحدثيني في هذا الموضوع مجدداً ..!
صمتت لفترة قبل أن تقول لي بصوتها اللطيف : بُني .. أتريد مني أن ألغي مقابلتك مع ليديا ؟!..
أومأت سلباً دون أن أنطق فعادت تقول : إن كانت هناك فتاة في نفسك فأخبرني .. أين كانت لن اعترض عليها إن كانت ستجعلك سعيداً ..!
طأطأت رأسي أكثر .. تلك الفتاة هي من لا يريدني !!..
أنا أريدها !!.. نعم أريدها !!.. ميشيل هي من أحببتها من النظرة الأولى ..!
لكن .. هي من علمتني أنه ليس كل ما أريده يتحقق : لا .. لا توجد أي فتاة ..! أنا .. أريد ليديا ..!
قلت تلك الكلمات بتردد .. أمسكت بوجهي بين كفيها و رفعت رأسي لتنظر لعيني مباشره ..!
كانت عيناها اللتان أشبعتا بلون البحر تنظران إلي بقلق : متأكد لينك ؟!..
بذلت مجهوداً كبيراً كي أبتسم بتصنع و أنا أقول :بالتأكيد ..!
تركتني حينها لتقول : اسمع بني .. لست مضطراً لإخفاء شيء عني ..! إن كان هناك شيء يضايقك فأخبرني عنه ..!
أومأت إيجاباً حينها ثم قلت : سأخرج الآن .. لدي موعد مع أحد الأصدقاء ..!
لم تقل شيئاً فأسرعت بالخروج من الغرفة حينها ..!
لم أكن على موعد مع أحد .. بل كل ما أردته هو أن أخرج من المنزل ..!
.................................................. ..............
أوقفت السيارة قرب مقهى صغير ..!
دخلت حينها و جلست على إحدى الطاولات الصغيرة .. فجاءت النادلة ناحيتي وهي تقول بابتسامة : ما هي طلباتك سيدي ؟!..
بهدوء قلت دون النظر إليها : أريد سوفليه بالكراميل و فنجان شوكولا سوداء ساخنه ..!
بدا عليها الارتباك و هي تقول : آسفة أيها السيد .. لكن هذا محل كعك بسيط و ليس مقهى ..!
قطبت حاجبي حينها .. ألم أنتبه للوحة الكبيرة أعلى الباب !!..
هل شرودي أوصني لهذه الحال !!..
إنني حقاً لست بخير : إذاً .. هل لي بكعكة ....!
قاطعتني صرخة غاضبة حينها : قلت لك أريد كعكة كارميل ..!
التفتت حالاً لأرى فتاة تقف أمام طاولة الطلبات حيث كانت امرأة في الأربعين تبيع وقد قالت لتلك الفتاة الصغيرة : أخبرتك أنني لن أبيعك الكعك اليوم !!..
قطبت الفتاة التي بدت في العاشرة أو أكبر قليلاً حاجبيها لتقول : هذا ليس عدلاً !!.. أنا أريد الكعك اليوم!!..
أومأت المرأة سلباً و هي تقول : مسموح لك بتناول الكعك فقط في يوم الأثنين و يوم الخميس .. لذا لن تتناوليه اليوم !!..
بدت فتاة صبيانيةً للغاية فقد صرخت حينها في وجه المرأة : سأذهب لمحل كعك آخر و آكل ما أريد !!..
تجاهلتها المرأة و هي تقول : أفعلي ما تشائين .. لكن أخاك أخبر جميع محلات الكعك في المنطقة ألا يبيعوك إلا في تلك الأيام المحددة ..!
بغضب صرخت حينها : سحقاً لك و لذلك الأخ السخيف !!!..
و خرجت من المحل صافقةً بالباب خلفها !!..
نظرت إلى النادلة حينها : من هذه الفتاة ؟!..
تنهدت بتعب و هي تقول : أشرس طفلة في المنطقة !!.. و هي تأتي إلى هنا دائماً لشراء الكعك .. لكن شقيقها الأكبر أخبرنا بأن لا نبيعها إلا في يومين محددين ..! نحن نجهل السبب و لكننا نفذنا أمر أخيها فهو شخص موثوق و تهمه مصلحتها كثيراً ..!
قطبت حاجبي باستغراب : يا لها من طفله .. أتعرفين من هي بالضبط ؟!..
أومأت سلباً و هي تقول : أعرف أن أسمها كيت و هي في الثالثة عشر .. لكني لا أعلم أين تعيش ؟!..
كيت .. لا أعلم لما لفتت نظري تلك الفتاة ..!
كانت ذات شعر أسود فاحم يصل لنهاية رقبتها .. و عينان زرقاوتان جريئتان .. و ترتدي تيشيرت بلون التفاح الأخضر .. و كذلك بنطال جينز ضيق بلون أسود يصل لما تحت ركبتيها بقليل.. و هي قصيرة القامة نوعاً ما ..!!
تجاهلت أمرها فانا أراها للمرة الأولى و لا أعتقد أني سألتقيها مجدداً ..!
عدت إلى النادلة و طلبت كعكة فانيلا مع فنجان قهوة فرنسية ..!
.................................................. ..............
حل المساء و أنا أتجول من مكان لآخر .. حتى قررت العودة للمنزل ..!
فور دخولي رأيت جيسكا في الردهة فتقدمت ناحيتي و هي تقول : أهلاً بعودتك سيدي ..!
ببرود قلت : جيسكا .. أين أمي ؟!..
بصوتها الصارم العتاد قالت : لا تزال في الشركة .. و لن تعود حتى وقت متأخر ..!
تجاوزتها حينها و أنا أنظر لساعتي .. إنها التاسعة مساءاً ..!
تنهدت بتعب و أنا أتذكر أن موعدي مع ليديا سيكون غداً ..!
آه صحيح .. الآن تذكرت أن لدي مدرسةً في الغد !!..
هل أذهب ؟!.. أم لا ؟!..
لن أذهب .. فلا مزاج لدي لذلك ..!
.................................................. ........
مضى نهار اليوم التالي بلا أي أحداث .. تناولت الغداء مع والدتي و لم يتحدث أحدنا بشيء ..!
حتى أنها لم تعطني نصائح بشأن موعدي مع ليديا ..!
الساعة الآن هي السادسة مساءاً .. و سيبدأ الموعد في السادسة و النصف ..!
بدأت بارتداء ملابسي و ها أنا قد ارتديت القميص الترابي فطرق أحدهم باب الغرفة : أدخل ..!
فتح احدهم الباب .. كانت إحدى الخادمات : سيدي .. السيدة مارسنلي تطلب منك المرور بمكتبها قبل أن تخرج ..!
ببرود قلت : سأفعل ..!
خرجت و أغلقت الباب من خلفها فأكملت ارتداء ملابسي ..!
و ها أنا انتهيت أخيراً .. نظرت إلى نفسي حينها في المرآة و تمتمت : من هنا .. سأعود كالسابق ..! و سأنسى تلك الفترة المؤلمة التي مرت بي ..! ريكايل .. ميشيل .. وداعاً !!..
خرجت بعدها من الغرفة و نزلت من خلال المصعد إلى الدور الأول ..!
اتجهت إلى مكتب والدتي و طرقت الباب طرقتين فسمعت الإذن بالدخول ..!
فتحت الباب و دخلت ثم أغلقته خلفي : ما كل هذه الوسامة .. ستفقد ليديا الوعي فور أن تراك ..!
كانت هذه والدتي التي وقفت حين رأتني و اتجهت إلي ثم احتضنتني و هي تقول : ابذل جهدك بني .. و تذكر أنها حياتك أنت فأنا لن أجبرك على شيء ..!
أومأت إيجاباً بهدوء : أعلم ذك أمي .. اعتمدي علي ..!
ابتعدت عني حينها فرأيت أدريان الذي كان يقف قرب المكتب و الذي قال بعد أن حنى رأسه باحترام : طاب مساءك سيدي ..!
ببرود قلت : طاب مساءك ..!
عدت أنظر لوالدتي وقد ابتسمت : سأخرج الآن .. أي طلبات سيدتي ؟!..
ضحكت بخفة و هي تقول : لا طلبات عزيزي .. لكن انتبه لنفسك ..!
أومأت إيجاباً : سأفعل .. إلى اللقاء ..!
.........................................
ها أنا قد أوقفت سيارتي الحمراء أما ذلك المطعم الفاخر .. أغلقت سقفها الذي كان مفتوحاً و نزلت ..!
تقدمت حينها بخطوات مترددة نوعاً ما .. فاليوم المنتظر أتى أخيراً ..!
فور دخولي استقبلني نادل شاب و وقف أمامي ليقول : أهلاً بك سيدي .. هل أحجز لك طاولةً معينة ..!
ببرود قلت : لقد حجزت غرفةً خاصة .. باسم لينك مارسنلي .. خذني إليها ..!
أومأ متفهماً و أشار إلي أن أتبعه .. نظرت إلى الساعة فوجدتها تقترب من السابعة .. لقد تأخرت كثيراً بسبب الازدحام : هل جاءت فتاة إلى هنا ؟!..
هكذا سألت بهدوء فأجابني النادل : آه نعم .. لقد وصلت فتاة إلى تلك الغرفة منذ دقيقتين تقريباً ..!
ابتلعت ريقي .. لقد وصلت قبلي .. يا للعار !!..
صعدنا من خلال المصعد إلى الدور الثالث .. إنه مطعم كبير للغاية و هو من أشهر مطاعم باريس ..!
و صلنا حينها إلى تلك الكبينة الصغيرة المغلقة ..!
فتح النادل الباب و هو يقول : تفضل سيدي .. سيصل العشاء بعد دقائق ..!
دخلت حينها إلى تلك الغرفة الصغيرة الفاخرة .. لقد استأجرتها أمي بمبلغ مرتفع فهذا المطعم لا يحتوي إلا على القليل منها ..!
كانت جدرانها مطليةً باللون البني القاتم و عليها زخارف ترابية تدل على الفخامة .. كما أن الجدار المقابل للباب كان من الزجاج .. ليطل على الشارع و الحديقة المقابلة ..!
الإضاءة كانت صفراء .. و صوت الموسيقى الهادئة يحيط بالمكان ..!
هناك طاولة مربعة الشكل من الخشب البني القاتم و ضع فوقها غطاء من القماش الفاخر ذا لونٍ عسلي .. و حولها كرسيان فقط ..!
على أحد الكرسيين كانت تلك الفتاة تجلس .. لكنها فور أن رأتني وقفت بخجل ..!
__________________ إذا ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف ... يا الله
إذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي ... يا الله
لا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم |