عرض مشاركة واحدة
  #303  
قديم 07-16-2013, 10:22 AM
 





.
.

*الفصل السادس*




صفقت جيني باب المنزل خلفها بقوة ،
خلعت معطفها الثقيل و علقته على المجشب بجوار الباب ..
انتزعت حذاءها الذي كان رطبا و قد غاص بالثلج .. و ركلته جانبا بلامبالاة ..

أسرعت والدتها إلى الردهة الصغيرة لتتأكد من أنها قد عادت أخيرا ...
و ما إن رأتها سليمة معافاة و اطمأن قلبها حتى هتفت بها بغضب :
_لماذا تأخرت حتى هذا الوقت ؟! لقد كدت أموت قلقا عليك !

لم تعبأ جيني بالرد على أمها ... و مرت من جانبها بصمت قاصدة غرفتها ،
لكن والدتها أمسكت بكتفها تديرها إليها و هي تقول بغضب أشد :
_كيف تتجولين خارجا حتى هذا الوقت ؟! ألا تخشين أن يتهجم عليك أحد في هذا الحي الخطير ... لما تفعلين هذا بي جيني ؟!

تفاجأت الأم بالشحوب البادي على وجه ابنتها ،
و عينيها المحمرتين دليل أنها ظلت تبكي مطولا ...

_جيني .. ماذا حدث لك ؟!

سألتها بقلق وهي تلمس وجنتها الباردة ..
كانت تعلم أن ابنتها ليست على طبيعتها منذ فترة ..
لم تعرف ما ألم بها ؟!
و لم تستطع أن تسأل وهي لم تكن يوما قريبة منها إلى الحد الذي يسمح لها بذلك.
لكنها كانت قلقة ... و الآن فقط يبدو لها كم كانت محقة بقلقها ذاك !

صدمت ... حين دفعت جيني يدها بعيدا عنها فجأة ، لتنفجر في وجهها شبه باكية :
_و من سيتهجم علي و لماذا ؟! أليسرق هاتفي حديث الطراز ، أم ليخطف حقيبتي التي تساوي المبالغ المالية التي أحملها ؟!!! نظرة واحدة يلقيها أي شخص علي و على ثيابي المتواضعة ، و سيعرف أنني لا استحق العناء ... مجرد فتاة فقيرة و بائسة تحاول أن تتأنق بملابس من الدرجة الثالثة !!

رسمت ابتسامة سخرية مريرة و هي تواصل :
_حتى هو ... الوحيد الذي لم يهمه هذا ، قد تخلى عني ... لقد نسي أمري بعد أن وجد من هي أفضل و أكثر ثراء حتما !!

حاولت الأم تهدئة ابنتها الشبه منهارة ، و قلبها ينتفض حزنا عليها ...
لقد كانت تمر بمشكلة كبيرة حتما و هي كانت بعيدة عنها كالعادة ،
تمتمت وهي تربت على كتفها ... في محاولة للتخفيف عنها :
_الثراء و المال ليسا كل شيء جيني ، تأكدي أن من تخلى عنك لا يستحقك أبدا ... اهدئي فقط حبيبتي و أخبريني ما الأمر ؟!

سحبت يدها حين انكمشت جيني برفض ، و الكره يطل من ملامحها و كأن كلمات أمها امتلكت تأثيرا عكسيا عليها ، راحت تقول :
_هذا رأيك وحدك ... هذا ما تؤمنين به حتى اللحظة ، ألم يرحل أبي و يتركك من أجل من تملك المال ؟! و علام حصلت أنت ... العالم كله يسير بهذا الشكل ، و أنا سئمت ... سئمت من كوني المنبوذة دائما لأني لا أملك الثروة !!

خطت حتى باب غرفتها المطل على غرفة المعيشة -حيث كانتا تقفان- ... و التفتت تقول دون أن تلحظ شحوب أمها الشديد من وقع كلماتها :
_أريد البقاء وحدي ... اتركيني و شأني فحسب !!

دخلت الغرفة و أغلقت الباب من خلفها لتستند عليه ،
تطلق العنان لدموعها من جديد ...
غبية ... و ستبقى دوما غبية ،
لقد خدعها ذلك الصحفي ...
حرف ما أطلعته عليه و ابتدع تفاهات مهينة عن أليستر ،
يستحيل أن يسامحها الآن ... رباه سيعتقد أنها من نشر ذلك عنه ما إن يرى الصور ..
عليها أن تشرح له ..
عليه أن يفهم أن هذا لم يكن غلطتها ..
لكن كيف لها أن تحقق ذلك و هي تعلم يقينا أنه لن يرغب برؤية وجهها بعد الآن ؟!
شهقت باكية و هي ترتمي جالسة على الأرض .. انتهى الأمر هذه المرة ... انتهى فعلا ... تبخر حبها كما ضاعت أحلامها ..




بعيون نصف مغلقة ، و بتعبير إرهاق شديد ترك وجهه شاحبا ..
جلس جوني على أريكة شقته الصغيرة طلبا لراحة ابتعد عنها أياما ،
الشقة التي استأجرها قبل ستة أشهر هنا في "جنوه" كانت مزيجا من الأثاث العصري و البناء قديم الطراز ...
النوافذ الطويلة التي تمتد حتى السقف تقريبا كانت مشرعة هذا المساء ، يتلاعب النسيم البارد الوافد منها بالستائر الكلاسيكية ...
و يداعب وجهه باعثا فيه راحة غسلت عنه عناء الأسبوع الماضي و عذابه الذي شعر أنه امتد دهرا كاملا.

الأمر انتهى أخيرا ..
لا يدرك أحد حوله مدى سوء المهمة الأخيرة و صعوبتها عليه ... و لا يجب أن يدركوا ،
قد يكون مجرد شاب في السادسة و العشرين ... إنسانا آخر كغيره يشعر أحيانا أن قدرته الهائلة على الصمود ستتحطم أشلاء و يخر في الحضيض بعدها ،
لكنه ما كان شابا عاديا في أي يوم ... لقد كان محملا بمهمة ثقيلة و واجب أثقل ،
وهو ... لم يسبق له و أن تخاذل في واجب ، و لذا كانت مثل هذه "العثرات" حافزا له كي يمضي حتى نهاية طريقه دون تردد.


لم يكن الهدوء ليدوم مطولا بعد مجيء "بريانا" .. كان يعلم ذلك ،
لقد قفزت عليه حرفيا تعانقه نصف باكية نصف ضاحكة بسعادة و ارتياح ،‏
لا أحد سواها يتصرف على هذا النحو الصبياني هنا ... هي شابة ناضجة تملك قلب طفلة لا يتناسب و نوع العمل الذي يقومون به ،
لكنها كانت دوما تصبغ على المكان المعتم حولهم "بظلمة أفعالهم" ، نقاء من نوع ما ... و براءة أيضا !


تأوه منبها إياها إلى جراح جسده الذي آذته بحركاتها المندفعة :
_بريانا ... هذا يكفي ، ستفعلين ما لم ينجح أي عدو بفعله حتى الآن ... ستقتلينني يوما !

ظهر العبوس على وجه بريانا ذات الجمال الإيطالي ، و نهرته عاقدة حواجبها :
_لا تتكلم عن الموت ... لا أصدق بأنك تمزح في هذا الشأن بعد أن نجوت بمعجزة !

ثم رقت ملامحها وهي تردف واضعة يدها على ذراعه المشمرة الأكمام :
_هل تتألم ؟!

_أنا بخير.

نطقها بشيء من الحدة ... يستنكر أي ضعف قد ينسب إليه ،
فابتسمت له بحنان ... تستغرب كيف يسارع دوما لإنكار أي ضعف إنساني و كأنه كائن آخر أقوى ،
يظن نفسه قادرا على مواجهة العالم بأسره وحده و يعتبر الشكوى أو التذمر عيبا و نقصا.

تحدثت و مازلت محتفظة بابتسامتها :
_لقد كنت رائعا جدا ... كنت أعلم أن لا أحد غيرك سينجح بهذا.

تشنج طفيف في حركة حاجبه الأيسر أخبرها كالعادة كم لا يحب المديح ، غمغم بخفوت :‏
_لا داعي لهذا.

عانقته من جديد فأطلق تأوها طفيفا و ابتسم ، بينما قالت بريانا هاتفة بمرح :
_ما هو الذي لا داعي له ، لم أسمع ؟! أنت لا تعلم كم أنا سعيدة لنجاتك و لإنتصارك انتصارا ساحقا ، سأقيم احتفالا ما إن ترتح قليلا ... أنت انتظر فحسب !

اتسعت عيناه بتعبير عفوي بدا مناقضا لهيئته التي كانت متصلبة غارقة بصمتها قبل لحظة :
_لا بريانا ... تعرفين أني لا أحب الحفلات و لن أسامحك إن فعلت شيئا كهذا ، كما أنه ...

أكمل ملتفتا إليها و ابتسامة جانبية ترتسم على وجهه الشاحب ، حيث جلست بجواره على الأريكة الفردية :
_يجدر بك توجيه الإهتمام قليلا لمن سينقض علي و يخنقني في أي لحظة الآن ... أرى "تي الضخم" يخطط لهذا ... أنظري لتلك النظرات !

التفتت بريانا إلى الرجل الضخم ، القوي الجذع .. ذي الهيئة السمراء الإيطالية ،
و الواقف قربهما عاقدا ذراعيه بضيق ... و غيرة لم يستطع إخفاءها تظهر جلية على تقاسيمه الغير ودودة عكس ما يعرفان عنه.

حركت حاجبيها صعودا و نزولا للضخم وهي تقول بابتسامة مغيظة له :
_دعك منه ... أنت بطل هذا اليوم ، أخي المذهل الذي أنقذ حياته ... إنه شاكر بما يكفي ليضبط أعصابه ، ثم صحيح أنه زوجي لكنني أحبك أكثر منه ... ها أنا أقولها صراحة الليلة !

ضحك جوني ... جنون بريانا المرح و غرابة أطوارها التي تطفي عليها سحرا خاصا كانت تجعل لها مكانة مميزة في قلبه أيضا ،
تمتم مناكفا وهو يستقبل نظرة نارية رماهما بها تي الضخم :
_لا أدري لما أثير لدى الرجال دوما غريزة لتحطيم وجهي !

_ليس الكل .. فقط واحدا جوني !

قالها تي الضخم -كما يسمى- بسخرية ، ثم جلس على أريكة أخرى و التقط جهاز التحكم ليدير التلفاز و يلتهي به عنهما ،
فكانت قناة غريبة بالنسبة له هي أول ما ظهر على الشاشة ،
سألت بريانا :
_هذه محطة أمريكية صحيح ؟!

_صحيح ..

_لم تتخلى عن نشأتك أبدا رغم مرور كل هذا الوقت ..... انتظر لحظة هل هذا ..

بترت بريانا عبارتها لطرحها سؤالا منذهلا حال أن تنبهت إلى الأغنية الصاخبة التي تعرض على الشاشة ،
أومأ جوني إيجابا لسؤالها الذي لم تتمه ، فكانت أن اتسعت عيناها حماسا وهي تهتف :
_دعني أحزر أي واحد هو إذا ..

نقلت بصرها مدققة بين الشباب الثلاثة المغنيين ، بينما راقبهما تي الضخم حائرا و قد عدل عن تغيير المحطة كما كان راغبا ..

_هذا هو ... جميعهم ظرفاء لكنني أعلم أنه صاحب الشعر الرملي الطويل ، فلديه في قسماته شبه كبير بك !!

تراجع جوني مسندا ظهره المصاب بحذر إلى الأريكة ، قال مبتسما بشحوب :
_لا تقولي "ظرفاء" لمجموعة من الشبان .. تلك إساءة ، عليك تعلم المزيد في اللهجة الأمريكية ...

هتفت مغتاظة من تجاهله النقطة الأهم في حديثها :
_أنا أعرف معنى الكلمة جيدا ... قل لي فقط أليس هو شقيقك الأصغر ؟!

_بلى ... إنه هو .. أخبرتك من قبل أن اسمه رايان.

امتدت ابتسامة لطيفة على شفتيها وهي تعود لتتأمله على الشاشة و تسمعه يغني ،
تشعر بشيء غريزي نحوه .. إحساس ربما برابطة الدم بينهما ، قالت :
_حدثني عنه !

ابتسم جوني وهو يسأل و عيناه نصف مغلقتين من الإرهاق :
_ماذا تريدين أن تعرفي ؟!

_كيف أصبح نجما يظهر على التلفاز ؟!

تغيرت ابتسامة جوني إلى أخرى حوت شيئا من الحزن وهو يجيبها :
_لا علم لي بالتفاصيل فقد حدث هذا بعد رحيلي بفترة طويلة ... لكني أذكر أنه لطالما امتلك صوتا مغنيا.

قالت و عيناها تتتبعان كل لحظة تظهر فيها صورته على الشاشة ، مرافقا رفيقيه الآخرين في أغنية شبابية صاخبة :
_أخبرني كيف كان وقتها .. كما تذكره !

نظر جوني إلى الشاشة بدوره و بقي صامتا بضع لحظات ،
يتأمل شقيقه الأصغر الذي تغير كثيرا خلال خمس سنوات ،
و على شفتيه طيف ابتسامة حنين .. حنين لزمان كان له بعيدا جدا ،
إلى الحد الذي يبدو معه و كأنه عالم آخر و حياة أخرى ،
أجابها أخيرا :
_كان عنيدا بعض الأحيان و مكابرا في أحيان أخرى ، يتجشم الكثير من الوقت و الجهد لإظهار مشاعره لمن يحب ... لكنه مع ذلك لا يتردد في المخاطرة بأغلى ما لديه من أجل من يهمه ...

ضحكت بريانا ضحكة قصيرة وهي ترمقه بنظرة ذات معنى :
_يشبه شخصا أعرفه !

أومأ جوني بابتسامة :
_لكن وجوده في الجوار كان ممتعا دائما ، أذكر أنه كان متعلقا بطفلة صغيرة من البيت المقابل ، أحبا بعضهما منذ تعلما المشي ...

انحسرت ابتسامته الغائمة في الذكريات بينما يستطرد :
_لقد اتصل بي قبل بضعة أيام ....

بدا الإهتمام جليا على وجه بريانا ، و حتى تي الضخم الذي التزم الصمت مراعيا.
لمعة الغضب التي برقت في عيون جوني الداكنة ،
انعقاد حاجبيه بشكل جعله يبدو حانقا بألم ... تستطيع أن تعرف نتيجة ذلك الاتصال ، تستطيع أن تخمن ...

أسرعت تسأل بمرح محاولة انتزاعه مما هو فيه :
_هل تعرف ماذا ستكون ردة فعله إذا التقيته يوما ؟!

نظر جوني إليها و هم بالإجابة إلا أن صوتا آخر سبقه إلى ذلك :
_أفضل أن لا يحدث هذا ، رغم أنه سيسره بطريقة أو بأخرى .. فأنت أخته في النهاية.


التفتوا جميعا إلى الكيان الذي وقف خلفهم بغتة دون أن يشعروا بدخوله الصامت ،
نهض كل من بريانا و تي الضخم واقفين ... الأولى برهبة لا تملك شيئا حيالها ، و الثاني بإحترام لرئيسه "ذي الندبة".

جوني كان الوحيد الذي تصرف بأريحية مستغربة أمام رجل كذاك ،
نظر إلى هيئته التي لم تتغير كثيرا خلال السنوات الماضية إلا من بضع شعرات رمادية غزت جزءا من رأسه الأسود ،
بدا طويلا قويا ، قاتم الثياب و الروح ، قاسي الملامح و القلب .. كما يعرفه دوما !

_الرئيس "أورتيني" هنا بنفسه ... شرف كبير !

قالها جوني بسخرية ،
فاستأذنت بريانا على الفور لتغادر المكان .. و لحق بها تي الضخم بعد إيماءة من رأسه حيى بها الرئيس باحترام.‏

تكلم أورتيني بعد أن فرغت الغرفة من سواهما ، يسأل بصوت خلا من المشاعر :
_كيف حالك الآن ؟!

رغم الخلافات التي حدثت بينه و بين هذا الرجل ، إلا أنه ثمة بعض الأمور التي لا يشك فيها ...
لقد جاء يطمئن على سلامته بعد نجاته من أسر مجموعة من الحمقى الدخلاء على مهنتهم ،
تخبطت العصبة كلها في الأيام الماضية ليس قلقا على حياته ...
بل على اسمهم و سمعتهم إذا ما قتل هو "ذراع الرئيس الأيمن" على أيدي مجموعة تافهة من المجرمين الصغار الشأن !
كان هذا تفكير الجميع ... لكن ليس أورتيني فوحده جوني من يعرف أن لديه شيئا من الإهتمام المدفون تحت ركام قسوته !!


زفر جوني غير راغب لشحوب وجهه أن يدل على أي ضعف ،
لقد كان هذا أول درس تعلمه من أورتيني ... لا تظهر أي ضعف مهما كان لأي أحد.

_كانوا مجرد أغبياء يتصرفون بهمجية و دون تخطيط ... لم يكن صعبا هزمهم !

لم يمنع هذا أورتيني من القول بنبرته الخشنة :
_أستطيع أن أرى في معالم وجهك أنهم لم يكتفوا بسجنك فقط طيلة الفترة الماضية !

انعقد حاجبا جوني بغضب شديد لتذكره لمحات من ساعات "تعذيب" قضاها في سجنهم المظلم القذر.
قال ثائرا :
_جعلتهم يدفعون ثمن ذلك غاليا .. غاليا جدا !!

_جيد ما فعلت ..

قالها أورتيني بهدوء ، و قد كان يهدف فقط إلى إثارة هذا الغضب الشرس فيه ثم واصل :
_خذ إجازة لفترة ... لكن قبلها أريدك أن تعلم خبرا مهما.

في اللحظة التي كان سيطرح فيها جوني سؤاله عن ماهية الخبر المزعوم ،
قوطع باهتزاز هاتفه النقال الذي راح يومض فوق المنضدة الزجاجية أمامه بصمت ...

التقط جوني الهاتف لينعقد حاجباه بشدة عند قراءته للرقم ، تنهد بإنهاك ثم قال :
_أخبرته أن لا يتصل ... هل سيتعين علي تغيير الرقم ؟!

_رد عليه ...

تطلع إلى أورتيني مستغربا ، فكرر الأخير بجمود :
_أجب ... أظنه سيسمعك شيئا هاما هذه المرة.

مرتابا من تعبير أورتيني المغلق .. و الذي بدا و كأنه يحجب عنه أفكاره ،
ضغط جوني على زر الإجابة في هاتفه ... ليتحدث مع شقيقه ،
أول مرة منذ خمس سنوات ..



كانت ساعة مبكرة من الصباح حين وقف أليستر مستندا إلى الحائط عاقدا ساعديه ،
يعلو وجهه تعبير قلق شديد و تبدو عليه معالم التفكير ...
بينما أمامه راح رايان يذرع الرواق الطويل -المؤدي إلى صالة الاستقبال في الفيلا- جيئة و ذهابا ،
يبدو مرهقا ذابل العينين كما لو أنه قضى ليلته كلها ساهرا ..

_كان علي أن أتحدث إلى أحد ...

قالها رايان وهو يتوقف متوترا .. و تابع بكلمات لم يبدو واعيا لها ، قاطعا صمتا استمر بعد شرحه أحداث ليلة الأمس لأليستر :
_سارة كانت لتجن رعبا .. و مارتيل كان ليقحم الشرطة ... فكرت أنك ...

بتر جملته فجأة و عاد يقطع الرواق بحركة رتيبة و خطى نافذة الصبر !
تنهد أليستر مشفقا على حال صديقه ، لم يسبق و أن رآه هكذا .. أعلمه ذلك بخطورة الأمر حتى من قبل أن يتكلم.

جوني ...
يذكر جيدا ذلك الشاب الذي اكتنفه الغموض دوما بالرغم من ابتسامته المرحبة و مزاحه الودود ،
الشقيق الأكبر ... كم كان رايان متعلقا به ، و كيف لايزال نقطة الضعف خاصته !
لقد تجاوز صدمة والديه بالتنبي ... فبطريقة أو بأخرى كان بخير بعدها ،
لكن جوني لايزال نقطة لا تمس بالنسبة إليه !


_سيكون كل شيء بخير رايان ، يمكننا تأمين مزيد من الحماية ... فقط اهدأ قليلا لنحاول فهم الأمر.

توقف رايان من جديد ملتفتا إليه هذه المرة ، قال :
_أنا لست قلقا على نفسي ... لو أرادوا أذيتي لفعلوا ، لقد أخبروني عن ولد ما أظنه مختطف لديهم ، و كل ذلك له علاقة بصفقة مريبة ... و مازلت لا أفهم دور جوني في هذه المعمعة ، أنا قلق مما يمكن أن يصدر من أشخاص كهؤلاء ... هل من الحكمة أن ألتزم الصمت ؟!!

جلس على مقعد طويل مخصص للاستراحة ملاصق للحائط ،
مرر يده في شعره الذي تشعث متناثرا حول وجهه لعدد المرات التي كرر فيها حركته المتوترة هذه ، ثم تمتم و حاجباه معقودان بغضب شارد :
_أشعر أنني غبي إلى درجة لا تصدق أليستر ، أولا مسألة التبني تلك ... ثم الآن جوني ، كيف يعقل أنني لم أعرفه يوما بالرغم من حياتي معه أربعة عشرة سنة ؟!! لقد كنت تقريبا كظل له أينما ذهب ... رأيته مرات عديدة مع رجال مريبي المظهر ، لكنني لم أفكر للحظة بأنه ....



صمت بضيق قبل أن يزفر مستسلما :
_جوني يتعامل مع مجرمين ... لدي مشكلة في الاستيعاب حقا !!!

لم يستطع أليستر أن لا يوافقه الرأي ، إن كان هو نفسه غير قادر على تصديق هذا ...

فرغم مرور سنوات لايزال يذكر جوني ... متواجدا حول رايان و حوله بحكم صداقته مع الأخير ،
يأتي لتشجيع مبارياتهما المدرسية الخاسرة ... أو يضحك من رغبتهما في إنتاج عمل غنائي فقط كي يدعمهما بعدها بلحظة ،
شيء ما كان خاطئا حتما ... لا يمكن لأحد أن يتغير إلى هذا الحد فجأة !

ترك أليستر مكانه عند الحائط المقابل و تقدم ليجلس بجانبه قائلا بهدوء :
_هذه ليست وحدها المشكلة .... أنت تركز في إتجاه واحد رايان ، تفكيرك منحصر على أخيك الذي تظنه مجرما ... ألا يجب أن تفكر لماذا جاء هؤلاء الأشخاص إليك ؟! فقد كان بوسعهم إيصال تلك العبارة إلى جوني بأنفسهم !


أومأ رايان برأسه موافقا .. و تنهد بإرهاق :
_أظن ذلك أيضا ، لا معنى لتكبدهم العناء فقط لأوصل لجوني بضع كلمات ... لست أفهم !!

_اتصل به إذا .. أطلب منه شرحا لما يحدث.

تمتم رايان بغضب :
_أنا لن اتصل به مجددا !

_لكن ألا ترى الوقت غير ملائم لعنادك ؟!

_لا تجعلني أندم على إطلاعك على الأمر أليستر.

_حسنا ..

بدأ أليستر يقول بصبر ثم تابع بتعقل :
_دع ما يحدث في الخفاء .. نحن لن نستطيع أن نعرفه بالتكهن وحده ، و لتقم بالشيء الوحيد الواضح أمامك ، تحدث إلى أخيك !

_ما يحدث في الخفاء ؟!

ردد رايان بنبرة غريبة ، صمت بضع ثوان ... قبل أن يلتفت إلى أليستر ليرمقه بنظرة لم يفهمها الأخير :
_ماذا تظنه يحدث في الخفاء ؟!!

لم يجبه أليستر .. فلم يكن سؤال رايان ينتظر منه إجابة فعليا ،
نهض الأخير واقفا .. أخرج هاتفه من جيبه و فتش فيه بضع لحظات ضاغطا على شاشته اللامعة ..
حتى وجد الرقم ذاته الذي طلبه قبل فترة ..
و دون تردد هذه المرة .. كان يضغط على زر الاتصال ...


ما إن قطع الصوت الرتيب الدال على رنين الهاتف معلنا إنتهاء ثوان الانتظار ، حتى بادر رايان يقول بتحية هادئة لا تعكس نبرتها أي شيء :
_مرحبا ..


الهدوء الذي غلف صوته أعلم أليستر أنه ابتلع المفاجأة بغتة ...
و أنه بصدد التعامل مع المشكلة بقرار حاسم كما يفعل دوما ،
لم يعد هناك حاجة للقلق عليه بعد الآن.

استمع رايان بغرابة إلى الصوت المألوف يرد عليه :
_كيف حالك رايان ؟!

زفر رايان ساخرا غير قادر على منع نفسه :
_كيف حالك ؟!! ظننتك لا تريد أي إتصال !

ابتسم جوني على الطرف الآخر وهو يقول :
_و أنا ظننت هذا كافيا لمنعك ... ما الأمر ، أتتحدث معي مجددا من أجل والدينا ؟!

_كلا ...

قالها رايان بشيء من الحدة ، غاضبا من البساطة التي يتكلم بها شقيقه ... و كأن خمس سنوات لم تفصل بين آخر حديث بينهما !
أردف بلامبالاة يخفي وراءها غضبا :
_والداك بخير .. فكرت فقط في أن أطلعك على لقائي ببعض معارفك مساء الأمس ، و أن أنقل إليك تحياتهم !

صمت جوني بضع لحظات يعتصر الهاتف بقبضته ،
محاولا السيطرة على رد فعله على المعنى الذي استشعره خلف تلك الكلمات ،
قال أخيرا :
_أي معارف ... كن واضحا ؟!

تجاهله رايان و راح يسأل :
_ما الذي تفعله هناك حقا جوني ؟! بل ما الذي ظللت تفعله كل هذه السنوات ... هل تعمل مع مجرمين ، هل حقا تدنيت إلى هذا ؟!!

هتف جوني نافذ الصبر :
_عما تتكلم بالضبط ؟!

خبتت ثورة رايان حين أدرك بأنه بدأ يكيل الاتهامات ناسيا هدفه الرئيسي ، أجابه بهدوء :
_مساء الأمس اعترض طريقي بعض الغرباء ... و طلبوا مني إيصال رسالة لك !

كان جوني قد نهض واقفا ، حواجبه معقودة بشدة و وجهه المرهق الشاحب ينظر إلى أورتيني الواقف أمامه بإدراك متأخر ...
بوادر غضب عاصف راحت تلوح في عينيه :
_رسالة ؟!!!

تابع رايان بذات الهدوء :
_قالوا أن الصفقة ستكون مقابل ابن الرئيس ... و أن على رئيسك أن يتنحى جانبا إذا أراد الحفاظ على حياة ولده الذي يكون تحت أنظارهم حاليا ... هذا تهديد واضح أليس كذلك ؟!

لدقيقة لم يسمع رايان أي رد من الطرف الثاني ، ما جعله ينادي باسم جوني يتأكد من أنه مازال يسمعه ...

و قد كان كذلك فعلا .. لم يفارق الهاتف أذنه ، و النظرة المظلمة التي أطلت من عينيه الداكنتين أوضحت معنى خطاب التهديد هذا بالنسبة له ...
إنهم هم دون شك ... جماعة الأوغاد الجبناء الذين قاموا بأسره ، فلا أحد سواهم من بين أعدائه لديه تلك الخسة في اقحام العائلات في حربهم !!

راقب أورتيني الذي أسرع يجري مكالمة بدوره مع رجاله ... يشدد عليهم تعليمات حراسة سبق و أوكلها إليهم كما بدا ..
ثوران أعصابه بعبارة صارمة قاسية -تهدد بعاقبة الإخفاق- زلزلت قلوب أتباعه قبل أن ينهي الإتصال معهم ...
جعلت جوني يستشعر مدى القلق المختفي خلف عصبيته ،
فلم يكن من عادة أورتيني أن يثور لأي سبب ... و حياة ابنه سبب أكثر من كاف !!

_كنت تعرف !

تمتم جوني حين واجهه أورتيني بعد إغلاقه لهاتفه ،
لم يقل الأخير شيئا ... فعدل جوني عن الخوض في هذا الأمر ،
و قال يعود بكامل انتباهه لشقيقه الأصغر الذي مازال معه على الخط :
_هل أنت بخير رايان ؟! هل آذوك أولائك ال ...

قاطعه رايان مزمجرا بحدة :
_توقف عن هذا .. أنا لم اتصل بك لتعتني بي .. أنا أريد إجابات جوني !!

تنهد جوني ليتمالك نفسه :
_لا بأس .. لك هذا ...

تجاهل الرفض و التحذير المطلين من ملامح أورتيني و واصل :
_لكن لا تستخف بالأمر و كن حذرا ، أنا آت ... و فورما أصل سأطلعك على كل شيء !

ردد رايان بدهشة :
_آت ؟!! هل ستعود إلى هنا ، ألن يكون هذا خطرا ؟!

ضحكة قصيرة جافة وصلته عبر الهاتف ، قبل أن يجيبه جوني بثقة ممزوجة بوعيد خفي :
_بلى سيكون خطرا ... لكن على حياة آخرين ، أسدي إلي خدمة و انتبه لنفسك آشي !

_سأنتظر تفسيرك لكل هذا جوني ... و أظنك أنت من يحتاج الانتباه لنفسه !

_جيد إذا ، أراك قريبا أخي.

لم يصدق رايان الذي انهى المكالمة مسبلا جفنيه .. بأنه كان يبتسم بارتياح في آخر الأمر !





مزق الظرف بشيء من الحدة .. كانت موجهة إلى ذاته في الحقيقة ،
أخرج الرسالة و شرعت عيناه تسابق الأحرف لقراءة الكلمات بإهتمام خارج عن إرادته ...



ليونيل العزيز ..

من قلبي أتمنى أن تكون بخير ..
اعتدت دوما و منذ رسالتي الأولى أن أكتب لك و كأني أحدثك ،
و لن يختلف ذلك الآن ... لا أملك أن لا أتساءل كيف تشعر في هذه اللحظة ، و في كل مرة تفتح فيها رسالتي ؟!
أتكون غاضبا منزعجا من هذا التطفل ؟!
أم تكون مستمتعا بإهتمام من فتاة مجهولة ... كما كان ليفعل أي شاب آخر ؟!

لست قادرة على تخمين ردة فعلك ... و يحبطني هذا بشدة ،
فرغم مراقبتي الدائمة لك .. إلا أنني لا أعرفك كفاية لأتكهن بما يدور داخلك ،
و هذا ليس عادلا ... لا شيء مما يحصل معي عادل.

أتعلم أني يوم انتهيت من تدوين رسالتي الأولى احتجت قوة ليس لها مثيل لأضعها بين يديك ،
كنت راضية فقط بأن تطلع على مكنونات قلبي دون أن أنتظر منك شيئا ...
لكن رويدا رويدا بدأ الأمر يختلف ... وجدت لدي تطلبا من نوع آخر ، أريد معرفة ما تفكر فيه بشأني ... و ما الذي تراه في عباراتي ؟!
ماذا تشعر نحوي .. إن كنت تهتم أصلا ؟!

إنني متعبة ... متعبة للغاية ليونيل ،
مازلت كما كنت .. كلما رأيتك تقبل من بعيد تتخبط أعماقي فرحا .. و يتلاشى كل ما حولي عداك ،
ليخبو ذلك الفرح و ينطفئ فجأة .. حال أن أدرك أن لا مكان لي في عالمك ...
تلك الخيبة التي تتملكني حتى مع كوني لا أنتظر شيئا ، أمر لم أعد قادرة على التعامل معه.
لست تراني ... أنا واثقة !
و إن رأيتني بعينيك فلن تراني بقلبك كما أتمنى ...

و لأني من ابتدأ هذا التواصل .. فسأكون من ينهيه أيضا ...

هذه آخر رسالة تستلمها مني فما عاد هذا البوح يريحني ،
بل بات يؤذيني و ينهكني ... عكس ما حسبت بادئ الأمر ..

ليونيل وارن .. ثق بأنني أحببتك صدقا من كل قلبي ،
أحببت الإنسان جميل الروح الذي رأيتك عليه ...
لكنني سأحارب ليس لأنسى ... بل لأجعل منك ذكرى ،،


ك.م




جعد ليو الورقة بيده وهو ينهض واقفا بشكل مفاجئ ،
الكثير .. الكثير من المشاعر راحت تعتمر في صدره لا يدري من أين انبعثت فجأة !!
لما يزعجه أن تكون هذه رسالتها الأخيرة ؟!
لما يغضبه تصريحها بأنها ستنساه ؟! و كأنه يمتلك الحق بالمطالبة بمشاعرها دائما !

زفر بعمق ليعاود الجلوس على الكرسي أمام مكتب دراسته بهدوء ،
فرد الرسالة المجعدة أمامه متمتما :
_لست أعمى كي لا أراك يا فتاة الرسائل ..

اتجهت عيناه إلى الدمية الصغيرة التي بدت كعلاقة مفاتيح تتدلى من مصباح القراءة فوق مكتبه ،
برقت عيناه بعزيمة بينما يدفع بسبابته الصبي اللعبة الذي تجسده الدمية ليتأرجح في مكانه ،
ابتسم بشرود للصبي الضاحك أجعد الشعر واسع العيون ، و الكبير الرأس بشكل كرتوني ...
لقد كان يشبهه كما قالت فتاة الرسائل يوم أهدته إياه !

_لقد مللت الانتظار .. لا بأس أنا أفهم ، ك م !


قالها مبتسما و عزمه على القرار الذي اتخذه يتنامى داخله أكثر و أكثر ..




عبست ويلو وهي تتأمل مظهرها أمام المرآة بغير رضا ،
الثوب الشتائي الداكن عديم الأكمام -و أسفله الكنزة الزهرية اللون- بدا أنيقا ...
لقد كان قصيرا لكنها عمدت إلى ارتداء بنطال أسود ضيق أيضا .. بدا ملائما لسنها و مظهرها ،
شعرها المرفوع بمشبك من جانب واحد بينما ينساب بحرية و نعومة في الجانب الآخر جعلها تبدو جميلة ...

لقد قاتلت كي لا تضع زينة على وجهها لكن هذا لم يبعث أي راحة داخلها ..

_لا أستطيع الذهاب هكذا جودي ... سأبدو سخيفة ، و الواقع أنني مهما فعلت سأكون غير لائقة.

قالتها و هي تستدير إلى صديقتها جودي ،
التي كانت تجلس خلفها على حافة واحد من السريرين الفرديين في غرفة النوم البسيطة الخاصة بها و أختها ،
زمت شفتيها و بدت مترددة و غير واثقة كما لم ترها جودي من قبل !

عوضا عن أن تجيبها الأخيرة رمت نحوها وسادة التقطتها من فوق السرير و هي تهتف بتأنيب :
_لا تشتكي إلي ... أنا مازلت لا أصدق أنك أخفيت عني أمرا كلقائك بأليستر شون و مجيئه إلى منزلك ... سأجن غضبا !

ابتسمت ويلو ثم تحركت لتجلس مقابلها على السرير الآخر :
_لقد خضنا في هذا من قبل و اخبرتك أنه فاجأني أنا أيضا ... فلما أنت غاضبة ؟!

حدقت فيها و كأنها تنتظر منها ردا معينا ، فاعترفت جودي بعد أن خسرت معركة التحديق تلك :
_لأنه .. حسنا لأنه ... آه أنا لست غاضبة البتة !

اتسعت ابتسامة ويلو :
_و هذا الانزعاج ؟!

_لأني أشعر بالغيرة !

و كالزوبعة التي كانت عليها دوما واصلت جودي تهتف :
_أليستر كان المفضل لدي في السيلفري سبيرتز ... و الآن هو مهتم بصديقتي المقربة بطريقة لا تحدث إلا في الأحلام ..

أطلقت تنهيدة ميلودرامية قبل أن تواصل :
_سأعيش !!

احمر وجه ويلو لكنها أطلقت ضحكة متوترة تخفي بها خجلها :
_و من قال أنه مهتم بي ... إنه فقط .. يحاول المساعدة !

ودت لو تضيف ما تقوله لجودي دوما إذا صادفت شابا يعجبها ...
لست مهتمة .. هو لك إن أردت !!
لكنها و لذعرها لم تستطع هذه المرة أن تزهد بمعرفة أليستر.
عليها أن تعترف .. هذا الارتباك الذي تشعر به منذ الصباح ، ليس فقط بسبب كونها ستقابل مجموعة مشاهير و تتعامل معهم ،‏
فجزء كبير من اضطرابها كان سببه أليستر الذي تنتظر رؤيته من جديد بابتسامة لاإرادية تزحف إلى شفتيها كلما فكرت فيه !


بعد نصف ساعة كانت ويلو تصعد منبهرة إلى السيارة الفخمة التي جاءت لتقلها حتى مكان العمل بحسب الإتفاق ..
والدها كان قد ودعها مشجعا بابتسامته الحانية .. واثقا بها كما كان دوما ،
و جودي حملتها رغما عنها بوعد بأن تجلب تواقيع الفرقة من أجلها.

ظلت تتأمل الطريق المرسوم بمعالم البهجة و الزينة التي انتشرت فيه استعدادا للميلاد ،
ممتنة لصمت السائق و انشغاله بعمله .. فقد منحها ذلك وقتا لتنفض عنها الارتباك و تستعيد اعتزازها بذاتها.
فكرت أنها كما قالت جودي ، لفتت انتباه أليستر بشخصها العفوي فهي كما هي دوما ..
نظرت من النافذة بصبر نافذ و وجنتين متوردتين .. تبتسم متطلعة لهذا اللقاء .. برهبة و شوق كبير !



وصلت السيارة لمبنى فندق ضخم تراه أول مرة ،
فلم يسبق و أن جاءت لهذا الجزء المترف من المدينة من قبل ،
فتح السائق لها الباب و تركها تترجل بصمت .. قبل أن يطلب منها اللحاق به بتهذيب بالغ ليقودها إلى داخل الفندق ..
شدت يدها على حزام حقيبة الظهر الصغيرة التي كانت تحملها ،
بينما تحمل بالأخرى معطفها المطوي.
و سارت بين أورقة الفندق الفاخر الأجواء .. غير قادرة على السيطرة على شعورها بأنها شيء دخيل على المكان المترف بشدة !!




عند استراحة الفندق الملحقة بجناحهم الخاص ،
كان السيلفري سبيرتز يجلسون بتعابير متفاوتة دون أن يبدو على أي منهم أدنى انتباه للمشهد الرائع الذي تطل عليه الواجهة الزجاجية التي تحتل حائطا كاملا أمامهم ... أو بالاستراحة الفخمة التي لم يوجد معلم رفاهية أو ترفيه و قد خلت منه ،
بينما مدير أعمالهم العتيد يجول متفحصا ساعة معصمه بصبر يحاول جاهدا التحلي به ، قال :
_لقد تأخرت صديقتك في أول يوم عمل أليستر .. شيء مبشر !

فتح أليستر إحدى عينيه المغمضتين و قد كان مسترخيا يحاول ترتيب الأنغام التي ظل يعمل عليها ليلة الأمس في كتابة وهمية داخل رأسه ،
رمق مارتيل الذي قاطع أفكاره مذكرا :
_مارتيل .. لقد وعدت بأن تكون لطيفا ، ثم لا تنسى بأننا أرسلنا لها السيارة قبل قليل فقط ، فكيف تتهمها بالتأخير ؟!

زفر مارتيل قائلا وهو يستدير إليه :
_لا أدري ما سبب كل هذا حقا ، أنا أقوم بعملي على أكمل وجه و لم اشتكي يوما ... من أين أتيت بفكرة أني أحتاج مساعدة ؟!

_و لكنك ترهق نفسك كثيرا ، تقوم بعمل ثلاث أشخاص وحدك و هذا ليس جيدا .. أنا قلق على صحتك !

أرفق أليستر عبارته تلك بابتسامة جميلة كما الإعلانات في التلفاز ، فتمتم مارتيل مستنكرا :
_صحتي ؟! و هل أنا جدك لتقلق على صحتي ؟!

ثم ضيق عينيه مواصلا :
_أنت تدبر شيئا و أستطيع أن أرى هذا ... لقد استغللت شعوري بالذنب بسبب تلك المقالة لتجعلني أوافق على تعيين مساعدة لي من اختيارك ... و لماذا أنا ، إذا كانت الفتاة تعجبك اجعلها سكرتيرتك أو مرافقتك الخاصة أو حتى صديقتك .. ما شأني ؟!

هز أليستر رأسه بينما يعود لإغلاق عينيه بتذمر :
_رباه مارتيل .. لا أحد غيرك يجيد إظهاري بهذه الصورة السيئة ، ثم إنني فعلا لا أحب مسلك المدير و الطالب السيئ هذا الذي تنتهجه دوما !

_توقف عما تدبره إذا أيا كان !

تنهد أليستر باستسلام :
_فقط لا تكن هكذا مع ويلو ... الفتاة تعاني بما يكفي !

عقد مارتيل حاجبيه متخليا عن انزعاجه .. ليستفسر بحيرة صادقة :
_لا أكون كيف .. أنتم تكررون ذلك كثيرا ؟!

تبرع ليو بالتوضيح مع ابتسامة متسلية :
_لا تكون مارتيل !

عدل مارتيل نظارته ليحدجه بنظرة جادة :
_لا تعبثا معي .. أين المشكلة في أن أكون كما أنا ؟!

_سينتهي بك المطاف كعجوز وحيد أنت و نزقك .. هذه هي المشكلة !

قالها رايان بوجوم متخليا عن صمته ، دون أن تبدو عليه علائم الدعابة ..
فغضن مارتيل جبينه في حين غمغم ليو الجالس بجوار رايان :
_هذا قاسي يا رجل !

مالت شفتا رايان بابتسامة ساخرة :
_فعلا ؟! .. ماذا عن عبارة واحدة فقط ستريحنا من هذا التسلط .... "أنت مطرود مارتيل" !!

تأوه مع ليو حين ضربهما مارتيل بالملف الذي يحمل على رأسيهما ، فهتف ليو محتجا :
_ماذا ، و ماذا فعلت أنا ؟!

أجاب مارتيل وهو يهز رأسه :
_لست ذاهبا إلى أي مكان لذا أنت و صديقك المستهتر هذا من الأفضل أن تعتادا على ذلك ... لقد وقعتم على عقد عملي للسنوات العشر القادمة !!


ارتفع طرق مفاجئ على الباب جعلهم يلتفتون ناحيته بإهتمام ، قبل أن يفتح الباب ليتقدم عبره أحد مستخدمي الفندق و من خلفه ويلو ..






xX تحذير .. يرجى رجاءا حارا عدم الرد ~

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏





__________________




افتَقِدُني
music4

رد مع اقتباس