2- غابة الرعب
كانت الساعة تشير الى الحادية عشرة الا ربعا حين نزلت مينا الى بهو الفندق لتنضم الى المجموعة الصغيرة التى تنتظر الدليل الذى سيرافقهم الى الغابة . سرعان ما رأت غايفنغ كلينتيس ولكنها تجاهلته عمدا ثم انضمت الى بينى وستافرو هولاند اللذين يتبادلان الحديث مع الازواج الاربعة:
سألتها بينى: أتتوقين للقيام بالرحلة؟ . عندما أجابتها مينا أيجابا أضافت : - على فكرة .. ماذا أصابك ليلة أمس؟ فتشت عنك وقت العشاء فلم أجدك.
-أكلت فى غرفتى.. شعرت بصداع ربما بسبب حرارة الشمس. انها تكذب لأنها تعرف جيدا سبب عدم تناولها العشاء فى المطعم ، فقد أرادت تجنب أى أحتكاك آخر مع غايفنغ كلينتيس لأن حظها العاثر قد يدفعها الى مقابلته فى قاعة الطعام فيتهمها بأنها تعمدت هذا اللقاء أيضا. قالت بينى وهى تبدى اعجابها بالسروال الزيتونى التى ترتديه مينا وبالقميص الأبيض:- تبدين جذابة على أى حال. كانت مينا تمسك حقيبة من القماش فيها قميص قطنى طويل الأكمام وقبعة وأشياء أخرى . كان لون الحقيبة يماثل لون سروالها وقد اشترت هذه الثياب خصيصا للعطلة.. فكارسون لا يحب أن ترتدى المرأة الجينز ولهذا اضطرت مينا الى شراء سروال عادى لزيارة والديه أصر كارسون على أن تتعلم مينا ركوب الخيل.. فمن المتوقع أن تتعلم، ولكنها قررت ألا تشارك بالصيد فمع أنها تستمتع بمنظر الصيادين مع كلابهم . ألا أنها لم ترغب قط فى مجاراتهم بهذه الهواية .
قدمتها بينى الى الرباعى المرح الذى كانت تتحدث اليهم كان أرنولد، مصمم الأزياء، نحيلا أشقر الشعر، زوجته سالى ترتدى سروالا أنيقا وقميصا مربوطا بحزام مزين بقماش ذهبى .. وكان صديقاهما، كولين ونويل بردفورد شريكى أرنولد. سألت سالى مينا: - ألا تشعرين بالوحشة لأنك بمفردك هنا؟ - ليس كثيرا ، لأننى جئت لطلب الراحة. كانت بينى قد استدارت للتحدث الى غايفنغ كلينتيس أما مينا فوعت بشكل لا يطاق نظرته الحادة الساخرة على بشرتها المتوردة .
أجابت كولين بأشفاق: أجل .. فالاستعداد للزفاف قد يكون مرهقا.. متى الحدث الكبير ؟ - لم نقرر نهائيا.. فكارسون خطيبى يجب أن يسافر الى نيويورك قريبا .. وليس متأكدا كم سيطول مكوثه هناك ولكن حالما يعود نحدد الموعد. قال غايفنغ بتشدق بعدما ضم نفسه الى الحديث: - ليس عريسا متشوقا اذن؟ ألم تحذريه مما قد يصيب المتقاعس فى الحب؟ عرفت مينا أنه يلمح الى أنها هى التى تلح على كارسون للزواج وأرادت أن تخبره بأنه مخطى، وبأن كارسون ليس ممن يستعجل الامور . ضحكت سالى :أووه .. كلنا نواجه المصاعب فى جر رجالنا فى هذه الايام الى مذبح الكنيسة.. هذا ما جنيناه من المساواة بين الجنسين.. لم يعد هناك حاجة للاستعجال على الزواج كما كان فى السابق .. هذه الحال هى الفضلى تصورى أن تتزوجى رجلا لا تعرفين عنه شيئا. انه أسلوب قديم يشبه الزواج المدبر بين غريبين. ردت مينا بدون اهتمام، متمنية ألا تفضحها لهجتها :- أجل..
كيف لا توافق وغايفنغ كلينتيس وافق أمامها. لو صرحت بالحقيقة لعرف أن خبرتها مع الرجال معدومة. خجلها الطبيعى، وتعليمات العمة مارولا المتزمتة أثرا فى رغباتها الطبيعية فى المعرفة ومع مرور السنين أصبحت أكثر خجلا من الاعتراف بالحقيقة.. فلم يكن حتى كارسون نفسه يعرف أنها عديمة الخبرة .. فالموضوع لم يذكر قط بينهما وتساءلت لأول مرة عما ستكون عليه ردة فعله.. مرت بها أوقات شعرت بأن حقيقتها مكتوبة على وجهها وهذا ما جعلها عرضة للخجل حينما يقترب منها الشبان، لكنها فى النهاية تغلبت على هذا الخجل .
من الواضح أن غايفنغ كلينتيس ، لم يدرك حقيقة خجلها وتزمتها مع الجنس الاخر ، واضطرت لمحاربة غضبها المتصاعد، وهى تتذكر مواجهتهما بعد ظهر اليوم السابق . حين شغلت بينى اهتمام سالى وجدت مينا أن (البعبع) الذى تفكر فيه أصبح قرب مرفقها. قالت له بصعوبة: - أرجو أن لا تتهمنى بالانضمام الى الرحلة لأجبرك على التعرف الى.. ازدادت غمازتا وجهه عمقا وهو يبتسم: - يصعب ذلك.. يجب أن أكون مصابا بجنون العظمة حتى أفكر بهذه الطريقة. خاصة وأننى سجلت اسمى أولا.. أتستمتعين بالسير على الاقدام؟
لم يبد مهتما بما اذا كانت تستمتع به أم لا . لكن مينا أجبرت نفسها على الرد بأدب: - أجل.. لقد نشأت فى الريف .. - عظيم.. ولكن رحلة اليوم لا تشبه نزهة ريفية . هذه جبال شديدة الانحدار، وأعتقد أن الغابة كثيفة جدا.. قال ستافرو مازحا: أتحاول احباط عزيمتنا؟ - أبدا .. يبدو أننى أعطيت انطباعا خاطئا.. فى الواقع، لو ظننت أن الرحلة سيكون مشقة لى لما قبلت بها. لامس ساقه اليسرى وهو يتكلم، فتذكرت مينا قول ستافرو أنه شاهده يعرج.. وأضاف بحدة: - لقد تورطت فى .. حادثة.. وأنا هنا لأسترد عافيتى، ولأمارس تمارين تعيدنى معافى الى عملى.
سأله ستافرو: أنت فى الجيش على ما أعتقد؟ -أجل .
كانت الكلمة خالية من أى تعبير. ولكن مينا نظرت الى وجهه وهو يتكلم، وحبست أنفاسها لأن مظهره تغير كليا اذ قست ملامحه ومر بعينيه وميض أسود .. ما الذى فى السؤال البرىء حتى يثير ردة فعله هذه؟ أهو مطرود من عمله، أو ما شابه ذلك فلقد سمعت من والد كارسون أن أمورا كهذه قد تقع . ولكن لماذا تهتم بردة فعله؟
قال ستافرو مقاطعا أفكارها: وصلت وسيلة النقل . كان خارج الفندق سيارتا لاندروفر مزودتان بمقاعد اضافية ، مشرعة للهواء الطلق .
- هل الجميع جاهز؟
صعد الازواج الاربعة أولا تبعهم العروسان. وكانت مينا على وشك الجلوس قربهما حين منعها الدليل.. أجلسى فى السيارة الثانية .. أنا أجلس هنا. وهكذا، أضطرت للانضمام الى بينى وستافرو فى السيارة، وخفق قلبها بشدة حين اندس غايفنغ كلينتيس بطوله الفارع الى جانبها . لم يكن فى السيارة مساحة كبيرة بسبب بينى وستافرو الضخمى الجثة أحست مينا بحرارة جسد غايفنغ كلينتيس تحرق بشرتها فحاولت الابتعاد، لكن صعب عليها ذلك بدون أن تدس نفسها بستافرو
كان الطريق من المجمع الفندقى ممهدا . ولكن حالما انعطفت بهم السيارتان، وجدوا أنفسهم على طريق مهجورة منذ سنوات . وعندما وثب اللاندروفر فوق نتوء كبير ارتمت مينا على غايفنغ كلينتيس.. فأحست وكأنها اصطدمت بجدار صلب، وارتفعت ذراعه لتنقذها، وتمسك بها على ذلك الجدار الصلب المسمى صدره.. مرت بها مينا. لقد حرقت حرارته قماش ملابسها الرقيقة، فتصاعد اللون القرمزى تحت بشرتها وقد أدركت أنه قد أحس بها كما أحست هى بقسوته ورجولته .
- مينا .. هل أنت على ما يرام؟ قطع سؤال بينى عليها أفكارها ،فأجابت: - أنا بخير.. شكرا لك سيد كلينتيس.. كدت أقع على غفلة منى .
كان فى النظرة التى رمقها بها ما هو مهم: - يحدث هذا للجميع.. أرجوك .. نادنى غايف يا مينا. صاحت بينى تجذب الاهتمام عن وجنتى مينا المتوردتين: - آه ! انظروا الى هذا المشهد ! هل جئت الى الكاريبى من قبل غايف؟ - لا
نظر الجميع يمينا، حيث تنحدرالأرض حتى البحر الأزرق المنتعش الذى تذوب زرقته لتصبح ليلكية ضبابية عند الافق. تنهدت بينى: انه جميل جدا!
قال ستافرو: لكنه فقير.. لا يبرح تفكيرى فقر أهل الجزيرة .. حين يكون المرء هنا يفهم سبب انجذاب هؤلاء الناس الى الشيوعية. رد غايف: أنت على حق. - ثمة جناح يسارى قوى وضخم فى الجزر الكاريبية، وهم يتلقون تعليمهم وتدريبهم فى كوبا، وان لم ينتبه الغرب ويهتم استيقظ يوما ليجد أننا خسرنا منطقة الكاريبى .
احتجت بينى: - أوه.. بلا سياسة أرجوكما ! مينا.انظرى الى ذاك البناء الذى يوشك أن يقع.
كانت المسافة طويلة للوصول الى الغابة الاستوائية. وازدادت الامور سوءا بسبب الطريق الوعرة. ومع أن سانت ستيفان هى من أكبر جزر الكاريبى، فهى مهملة بشكل كبير.. كان مدير الفندق قد قال لمينا انهم يأملون بأن تساعدهم عائدات السياحة فى تحسين أوضاع الجزيرة.
كان السهل المنبسط من الساحل ختى الغابة غنيا بأشجار الموز، مصدر الرزق الرئيسى فى الجزيرة، بعد قليل بدأت تتلاشى ثمار الموزالمحمية فى أكياس بلاستيكية زرقاء.. وكلما اقتربت المجموعة من وجهتها، ازداد احساس مينا بتوتر يبعثه هذا الرجل الجالس الى يسارها ولكن لم يكن فى طريقة جلوسه ما يكشف أحاسيسه، فقد كان وجهه منحرفا قليلا عنها وكأنه يتفرج على المناظر الريفية، وكل ما كانت تراه مينا هو خط فكه المتشدد ولكن لا مجال للشك فى التوتر المنطلق منه، وأحست بأطراف أعصابها ترتجف برد فعل غريزى ، وتساءلت عما دهاها. قالت بينى حين ظهر مبنى منعزل على طرف السهل حيث يتصاعد الجبل البركانى الى السماء مباشرة :- آه ! لاشك أنه المطعم!
كان على جانبى السهل اخضرار استوائى كثيف ولكن السهل نفسه بدا خاليا من المساكن. مع أن بضع طرق وعرة بدت وكأنها تقود اما الى قرى وكأنها تقود اما الى قرى وأما الى منازل قريبه.
قال غايف شارحا حين علقت مينا على خلو المكان من مظاهر السكن: - يبنى معظم أصحاب المزارع بيوتهم على الجانب المطل على المحيط الاطلسى. كانت تلك الجهة أقل عرضة لهجومات القراصنة.
بدا وجهه مسترخيا وهو يكلمها كما بدت عظام وجنتيه أقل توترا، ثم بدأت سيارتا اللاندروفر بالتسلق نحو المطعم . المطعم كان مبنى من الخشب ولكن لونه الاخضر الاصلى تلاشى منذ زمن بعيد وأصبح زيتونيا كئيبا، كان الهواء فى الداخل رطبا.. ولم تشعر مينا فى حياتها بفقدان الشهية كحالها الان عندما استقر أفراد المجموعة حول موائد خشبية، خرجت الى الخارج فوجدت الهواء أبرد وأنعش .
- ألست جائعة؟
لم تلاحظ مينا أن غايفنغ كلينتيس لحق بها، لكنها هزت رأسها نفيا رافضة الاعتراف بضعف مؤقت استولى عليها فى المطعم. - ولا أنا. أدهشها الاعتراف، وباحت أساريرها بهذا . فسألها متجهما: ما الامر؟ ألا يسمح بأن يكون لمن هم قساة مثلى ، مشاعر طبيعية؟ -لم أقل هذا..
لكنه قاطعها وأكمل ساخرا:- لم تقولى هذا.. صحيح لأنك لست بحاجة الى القول فهاتان العينان تخبران كل شئ نيابة عنك.. أنت شخصية متناقضة فمن جه تبدين امرأة عصرية متحررة تقضى اجازتها بعيدا عن خطيبها . ومن جهه أخرى توحى عيناك بأنك راهبة مبتدئة ليس لديها فكرة عن العادات العصرية. ردت مينا بلهجة ذات مغزى : - هلا عذرتنى فقد قررت العودة لأتناول بعض الطعام. ولكنها عندما دخلت الى المطعم لم تستطع سوى ارتشاف كوب ليموناضة.. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية حين تقدمهم الدليل الى أحدى الممرات التى تقودهم من المطعم الى الجبال. ما هى سوى نصف ساعة، حتى نضحت مينا بالعرق.. ولم تكن وحدها فى هذا المصاب فقد بدوا جميعا بمن فيهم غايفنغ كلينتيس متأثرين بالرطوبة فقد كانت مقدمة قميص غايفنغ مبللة بالعرق. ومع ذلك لم يرفع أكمامه أو تخلص من قميصه كما فعل الرجال وربما السبب معرفته بمدى جاذبيته وهو فى قميص وبنطلون أسودين . سارعت مينا ساخرة الى ابعاد هذه الافكار الحمقاء عن رأسها، فهو ليس رجلا يحتاج الى جذب اهتمام النساء بارتداء ملابس مميزة لأنه مهما ارتدى سيجذب أنظار النساء. تكاثفت أشجار الغابة كلما توغلوا فيها وكانت أشجار الماهوغونى هى المسيطرة وأما أشجار الكرمة فالتفت حولها فيما غطت النباتات الميتة والمهترئة أرض الغابة.. توقف الدليل أكثر من مرة ليشير الى الاوركيديا النامية بين النباتات الخضراء المنتشرة وكانت أحيانا أنفاسهم تنقطع بسبب صياح ببغاء حاد وفى مناسبات عديدة سمعوا خرير الماء ولكنهم لم يشاهدوا ساقية. ندمت مينا على انضمامها الى الرحلة.. ففى هذه الغابة ما يغم القلب وما يقبض النفس. لم يبد أن غايفنغ يعانى أية مشكلة فى متابعة خطوات الاخرين رغم ادعائه بأنه يسترد صحته من أثر حادثة.. لكن فى أحدى المراحل حين طلب الدليل منهم التوقف لاحظت مينا وهى تنظر الى غايف أن لونه قد شحب فجأة وأن العرق يتقطر من بشرته وان أصابعه تشد على وركه.
- هل أنت بخير؟ حرره سؤالها الهامس مما كان فيه فقد استرخى وجهه فجأة وقال بقسوة: - بخير.. تعالى يبدو أن الدليل جاهز للانطلاق.
ساروا على الاقدام فى الغابة ما يزيد عن ساعتين.. وكانت مينا تزداد غما كلما تكاثفت الغصون الملتفة الحاجبة نور الشمس. تابعت المجموعة التسلق بحدة فضاق الممر واضطروا أحيانا للسير واحدا واحدا.. فى احدى المراحل وكما وعد منظمو الرحلة انهمر المطر فجأة بملاءة مسبعة اخترقت كثافة الاشجار وزودهم الدليل بمظلات كان قد حضرها سلفا لتقى كل شخصين من تدفق المطر.
شاركت مينا المظلة مع غايف مستغربة هطول المطر المفاجئ قال لها غايف باقتضاب ما سبب لها الدهشة: - هذا ما ستعتادين عليه. علقت: قلت انك لم تزر الكاريبى
-لم أزر المنطقة ولكن الغابات الاستوئية متشابهة. ولم يقل المزيد.. فاعتقدت منا ان الموضوع لا يسره ولسبب ما توالفا معا فى فريق واحد أثناء السير ربما لأن الجميع أزواج وتمنت من كل قلبها لو رفضت المشاركة بالرحلة اذ لم يعجبها الجو المسيطر على الغابة كما لم تعجبها ايضا قشعريرة الارتباك التى كانت تختبرها كلما اضطرتها وعورة الممر الى ملامسة غايف.. نظر غايف الى ساعته وعبس.
- كان علينا العودة الان .. فليس فى هذا المكان فترة غسق كالتى نعرفها فى بلادنا فبعد ساعتين يحل ظلام دامس. تقدم الى الامام ليمسك ذراع الدليل سائلا لكن الدليل هز راسه بعنف وقال:- لم يحن وقت العودة بعد.. أصبح وشيكا ولكنه لم يحن.
بدا وكانه قائد عسكرى يحث جنوده على المزيد من الجهد.. فتأوهت سالى عندما ساروا ربع ساعة أخرى:- كم بقى لدينا؟
كانت مينا موافقة على السؤال.. فقد شعرت بالحرارة الشديدة وتاقت نفسها الى حمام بارد.. لقد جعل العرق مقدمة شعرها أقتم لونا وأحست بجفاف فمها. كما أنها ندمت على الغداء الذى رفضته فقد قضت وخزات الجوع مضجعها كانت تحمل بعض البسكويت فى حقيبتها ولكنها وجدت صعوبة فى انزال الحقيبة عن كتفها لتفتش فيها.. بدا الجميع متعبا الا غايف الذى ما زال قادرا على مجاراة الدليل بدون تعب.
شاهدت مينا الدليل يتوقف عندما وصلوا الى مكان فيه شجرة كبيرة. توقف الجميع متأوهين آهات الراحة الا الدليل أذ بدا متوترا قليلا. راقبت مينا عينيه اللتين جابتا فى المكان بحثا عن شئ ما .. وتقدم غايف ليقف بقربها.
-أهناك شئ؟ كان هو أيضا يراقب الدليل، ومع أنه أخفى ذلك جيدا، الا أن مينا لمحت قلقا محددا فى عينيه قبل أن يخفى توتره ويقول بعذوبة: - أمستعدة لرحلة العودة؟ .. أنا.. صمت فجأة لأن درزينه من الرجال المدججين بالرشاشات المرتدين ثيابا عسكرية اقتحموا المكان. سمعت غايف يشتم من بين اسنانه ثم سيق الجميع معا كالقطيع.
- ماذا يجرى هنا بحق الله؟
وجه غايفنغ السؤال الى من بدا مسؤولا عن الجماعة المسلحة.. وبدا واضحا أن غايف هو القائد الطبيعى اذ ما من أحد من الرجال الاخرين كان يتحدى حقه.. واحست مينا بأن الجميع مثلها، مصابون بدوار يمنعهم من التفكير أو من طرح سؤال (لماذا). أمرهم الرجل بأشارة بندقيته بالوقوف ثم تقدم الى الامام قائلا لغايف:-
ستبقون رهائن حتى تطلق حكومتنا سراح رجال تحتجزهم عن وجه حق منذ ستة أشهر. حان الوقت حتى يسمع العالم كله ما يجرى هنا.. لقد سئمنا من الرأسمالية غير المؤهلة ومن الحكومات التى تتركنا جياعا والتى ترفض تعليم الاولاد الذين تجاوزا الرابعة عشرة والتى تحكم على شعبها بالفقر والاذلال مدى الحياة.
كان يتحدث الانكليزية بطلاقة فرد عليه غايف:- لن يغير احتجازنا شيئا ولكن لو تركتمونا بدون أن تؤذونا أعدك بأن نبذل قصارى جهدنا لايصال وجهة نظرك الى حكومتك لم يحرك أحد من الموجودين ساكنا.. كان الجميع ينظر الى غايفنغ وكأنه قائد يتبعونه.. ولم تصدق مينا أن هذا يحدث حقا.. نظرت حولها بحثا عن الدليل فأذا هو غير موجود كانت بينى تتمسك بذراع ستافرو شاحبة الوجه وكان العروسان متعانقين .. وسالى وكولين ملتصقتين بزوجيهما.. أما هى فلم تجد من تلجأ اليه.
سخر الفدائى منه:- طبعا.. وبعد ذلك يرموننا فى السجن مع رفاقنا. لا.. يا صديقى .. نحن بحاجة ماسة اليكم، ولا نستطيع اطلاق سراحكم فبدونكم لن تطلق حكومتنا سراح رفاقنا بل ستعدمهم.. تعالوا.. أمامنا أربع ساعات من المسير. وسيدرك فندقكم فى هذا الوقت أنكم ضائعون ولكنهم لن يجدوكم. لأن قلة من الناس يعرفون ممرات الغابة كما يعرفها كاستر هذا
أشار بفوهة بندقيته الى رجل محلى كان يشرف عليهم من فوق حاملا رشاشا.. شاهدت مينا كولين من طرف عينيها تترنح ناحية نويل ووجهها كورقة بيضاء، وتأوهت بصوت منخفض مذعور: - يا الله ساعدنا ! نويل .. ماذا سنفعل؟
أطلقت كلماتها موجة ذعر بين الجميع وشعرت مينا بأنها ترتجف أما غايف فظل هادئا.قال القائد آمرا: تعالوا.. حان وقت الذهاب. صاح أرنولد وايت بصوت متوتر:- لن تنجو بفعلتكم هذه! الحكومة الانكليزية... سخر رجل العصابات منه: - انها بعيدة الاف الاميال يا صديقى.. والزمن الذى كانت فيه البلدان مستعدة للمخاطرة فى مواجهة عسكرية لأجل رعاياها قد ولى منذ زمن بعيد.. لن تفعل حكومتك لك شيئا.. انفجر ستافرو صائحا:- ولن تفعل حكومتكم من أجلكم شيئا كذلك! كان على بشرته طفرة حمراء غير صحية، وشاهدت مينا زوجته تمد يدها اليه بقلق.. تتمتم برعب : - انه ضغط الدم.. رباه ! ماذا سيحدث لنا ؟
قال غايف لرجل العصابات:- لا تتوقع منا السير بسرعة رجالك..ان كنت تريدنا رهائن فعليك المحافظة على حياتنا. فلن تسلمك حكومتك رفاقك مقابل أجساد لا حياة فيها .. وأن أردتنا أحياء فاسمح..
عبس رجل العصابات يفكر فى ما يقوله غايف، ثم استدار ليقول شيئا لرفاقه بلغته ولكن رفاقه هزوا أكتافهم بلا اكتراث ثم اكفهرت وجوههم ..
قال لغايف: لن نستطيع تحمل مخاطرة اضاعة الوقت.
رد غايفنغ بهدوء: - ولا نستطيع كذلك المخاطرة بأرواحنا .. ما رأيك لو أخذت رهينة واحدة، واطلقت سراح الباقين. خاصة اذا ضمنا لك نشر قصتكم فى الصحف البريطانية. فبهذه الطريقة ستنال قضيتكم دعاية كبيرة، لا أظن أن حكومتكم قد تذيع خبرا مفاده ان الناس غير أمنين فى سانت ستيفان. حبست مينا أنفاسها فيما كان قائد العصابة يتشاور مع رفاقه.. هل سيقبل اقتراح غايفنغ ؟ لاشك لديها ان غايفنغ سيتطوع للبقاء رهينه. وتسألت عما اذا كانت قد أخطأت فى تقديره على أى حال ..
كانت الشمس تهبط بسرعة نحو الافق وكان الخوف يجتاحهم بانتظار قرار رجال العصابات. استدار القائد الى غايفنغ يقول بخشونة:- أنت .. أتعدنا بأن ننال الدعاية المطلوبة؟
هز غايفنغ رأسه ايجابا، ثم تمتم لمينا من بين أسنانه: - من قال أن القلم أمضى حدا من السيف كان يعرف حقيقة الحياة. ثم التفت الى ستافرو: - سيبلغ السيد هولاند القنصل البريطانى بما حدث كما سيبلغه باتفاقنا الذى يضع حرية أصدقائى مقابل نشر قضيتكم.
- لن ترغب حكومتنا فى معاداة بريطانيا . لذا ستعمد الى اطلاق سراح رفاقنا حالما تعلم بأمر الرهينة البريطانية. لكن مينا لم تكن واثقة من هذا. فقد نشرت الصحف البريطانية مؤخرا مقالات عن أشخاص احتجزوا عدة أشهر بدون أن تفعل الحكومة شيئا للتفاوض من أجل حريتهم..
قال قائد العصابة: حسن جدا اذن .. رفاقك أحرار.
صاح يأمر أحد رجاله فتقدم الى الامام وأشار اليهم أن يتبعوه. كانت مينا الاخيرة ولكنها لم تقاوم القاء نظرة أخيرة على غايفنغ.. الواقف وظهره اليهم. فيم يفكر؟ أهو خائف ؟ لاشك فى ذلك.
- أنتظرى! أوقفها الأمر القاطع الحاد الصادر من قائد المجموعة الذى تقدم الى الامام وأمسك ذراعها.. كانت تسير بمفردها فى الصف الطويل، وارتجفت تحت نظرة عينيه الباردة التى كانت تعريها من ملابسها. استدار الى غايفنغ يقول متجهما: - ستبقى.. لأن وجودها سيحول دون تفكيرك فى الهرب.. فعليك سيماء هذا النوع من الرجال يا صديقى. أما الان فستبقى معنا لأن امرأتك أسيرة أيضا فأن حاولت الهرب قتلناها،تناهى الى مسمعى مينا احتجاج بينى قبل أن يسكتها ستافرو، ولكنهما لم يدركا نظرة العجز فى عينيها وهى تنظر الى ظهر غايفنغ المتصلب. مر دهر قبل أن يستدير اليها وعيناه خاليتان من أقل تعبير ولكن القائد سارع يقول له :- لاتجادل والا احتجزت الجميع. بالقول:أنت مخطئ، فلست امرأته.. ولكن الكلمات علقت فى خناقها، ولم تجرؤ على النظر الى الاخرين المجرجرين أذيالهم بعيدا.
قال القائد لغايفنغ آمرا:- تعال.. حان وقت ذهابنا.. أنت على حق. كان سيعيق الاخرون تقدمنا وان حاولت تأخيرنا بتعمد البقاء فى المؤخرة وهبت أمرأتك الى رجالى فقد مضت أسابيع منذ أن رأوا فيها امراة. مخيمنا معزول وحياتنا فيه قاسية بالنسبة لامرأة كأمرأتك.
تجمد الدم فى عروق مينا لدى سماعها تهديده، وتحولت الى قطعة ثلج باردة، ورفضت النظر الى غايفنغ لماذا لم يقل له الحقيقة ؟ لماذا لم يقل انهما مجرد غريبين؟
عرفت الرد بعد عدة لحظات .. حين همس لها بصوت منخفض بحجة مساعدتها فى منحدر قوى: -أعرف فى ما تفكرين.. ولكن الوقت غير مناسب لابداء المشاعر لو قلت لهم الحقيقة لعرضتك الى أغتصاب جماعى.. فلن يلمسوك ما داموا يعتقدونك امرأتى. أذ يتوقعون منى الالتزام بتعليماتهم من أجلك .. سأقتلهم بيدى ولن يرغب أحد منهم أن يكون الشخص الذى سأقتله بيدى قبل أن يقطعونى نصفين بهذه اللعب الروسية التى يحملونها!
=======================================
3- كهف الرغبات
يتبع............................................