<<<< تذكرة <<<< وان ارى تلك الحديقة الغناء التي كانت مراح لذاتنا و مسرح آمالنا و أحلامنا... كأنها حاضرة بين يدي ارى لألاء مائها , ولمعان حصبائها , و أفانين اشجارها , و ألوان ازهارها و تلك القاعدة الحجرية التي كنا نقتعدها منها طرفي النهار فنجتمع على حديث نتجاذبه او طاقة تؤلف بين ازهارها او كتاب نقلب صفحاته او رسم نتبارى في اتقانه , وتلك الخمائل الخضراء التي كنا نلجأ الى ظلالها كلما فرغنا من شوط من اشواط المسابقة فتشعر بما تشعر به أفراخ الطيور اللاجئة الى احضان أمهاتها , و تلك الحفائر الصغيرة التي نحتفرها ببعض الاعواد على شاطئ الجداول و الغدران فنملؤها ماء , ثم نجلس حولها لنصطاد اسماكها التي ألقينا فيها بأيدينا فنطرب ان ظفرنا بشيء منها كأنا قد ظفرنا شيء عظيم , وتلك الاقفاص الذهبية التي كنا نربي فيها عصافيرنا و طيورنا , ثم نقضي الساعات الطوال بجانبها نعجب بمنظرها ومنظر مناقيرها الخضراء , و هي تحتسي الماء مرة وتلتقط الحب اخرى و نناديها ب اسمائها التي سميناها بها فأذا سمعنا صفيرها و تغريدها ظننا انها تلبي نداءنا , لا اعلم هل كان ما كنت أضمره في نفسي لابنة عمي ودا و اخاء او حبا و غراما و لكني أعلم انه كان بلا أمل , ولا رجاء , فما قلت له يوما و اني احبها لاني كنت اضن بها –وهي ابنة عمي ورفيقة صباي ان اكون اول فاتح لهذا الجرح الأليم في قلبها و لا قدرت في نفسي يوما من الايام ان اصل أسباب حياتي بأسباب حياتها , لاني كنت أعلم بأبويها لا يسخوان بمثلها على فتى بائس فقير مثلي , ولا حاولت في ساعة من الساعات ان اتسقط (أخذ شيئا بعد شيء ) منها ما يطمع في مثله المحبون المتسقطون , لاني كنت أجلها عن ان انزل بها الى مثل ذلك , ولا فكرت يوما ان استشف من وراء نظراتها خبيئة نفسها لأعلم اي المنزلين أنزلها من القلبها , أمنزلة الاخ فأقنع منها بذلك , ام منزلة الحبيب فأستعين ب أدرادتها عن ارادت ابويها ؟ بل كان حبي لها حب الراهب المتبتل صورة العذراء الماثلة بين يديه في صومعته يعبدها و لا يتطلع اليها ... ولم يزل هذا شأني و شأنها حتى نزلت بعمي نازلة من المرض و لم ولم تنشب (لم تلبث ) ان ذهبت به الى جوار ربه , و كان آخر ما ينطق به في آخر ساعات حياته ان قال لزوجته و كان يحسن بها ظنا : "لقد أعجلني الموت عن النظر في شأن هذا الغلام فكوني له اما كما كنت له ابا و اوصيك ان لا يفقد مني بعد موتي الا شخصي " فما مرت ايام الحداد حتى رأيت وجوها غير الوجوه و نظرات غير النظرات و حالا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل فتداخلني الهم واليأس و وقع في نفسي للمرة الاولى في حياتي انني قد اصبحت في هذا النزل غريبا و في هذا العالم طريدا ... فاني لجالس في صبيحة يوم دخلت علي الخادم وكانت امرأة من النساء الصالحات المخلصات فتقدمت نحوي خجلة متعثرة , وقالت : قد امرتني سيدتي ان اقول لك يا سيدي انها قد عزمت على تزويج ابنتها في عهد قريب و انها ترى ان بقاءك بجانبها بعد موت ابيها و بلوغكما هذا السن التي بلغتماها ربما يريبها عن خطيبها , و انها تريد ان تتخذ للزوجين مسكنا هذا هذا الجناح الذي تسكنه من القصر فهي تريد تتحول الى منزل آخر تختاره لنفسك من بين منازلها على ان تقوم لك فيه بجميع شأنك و كأنك لم تفارقها .... فكأنما عمدت الى سهم رائش فأصمت به كبدي الا انني تماسكت قليلا ريثما قلت لها : سأفعل ان شاء الله و لا احب الي من ذلك .. فانصرفت لشأنها فخلوت بنفسي ساعة اطلقت فيها السبيل لعبراتي ما شاء الله ان اطلقها حتى جاء الليل فعمدت الى حقيبتي فأودعتها ثيابي وكتبي و قلت في نفسي : قد كان كل ما اسعد به في هذه الحياة ان اعيش بجانب ذلك الانسان الذي احببته و احببت نفسي لأجله , و قد حيل بيني و بينه فلا آسف على شيء بعده "" ... ثم انسللت من امنزل انسلالا من حيث لا يشعر احد بما كان , و لم اتزود من ابنة عمي قبل الرحيل غير نظرة واحدة ألقيتها عليها من خلال كلتها (الستر الرقيق ) و هي نائمة في سريرها فكانت آخر عهدي بها لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى لو انا وجدنا من الفراق لها بدا كفى حزنا ان رحت لم استطع لها وداعا ولم يحدث بساكنها عهدا و هكذا فارقت المنزل الذي سعدت فيه حقبة من الزمان كفراق آدم جنته و خرجت شريدا طريدا حائرا ملتاعا قد اصطلحت على الهموم و الأحزان , فراق لا لقاء بعده , و فقرا لا ساد خلته , و غربة لا اجد عليها من الناس مواسيا ولا معينا ... و كانت معي صبابة (بقية من شيء ) من المال قد بقيت في يدي من آثار تلك النعمة الذاهبة فاتخذت هذه الحجرة العارية في هذه الطبقة العليا مسكنا فلم استطع البقاء ساعة واحدة فعزمت الرحيل الى حيث أجد في فضاء الله و متفسح آفاقه علاج نفسي من همومها و أحزانها , فرحلت رحلة طويلة قضيت فيها بضعة اشهر لا اهبط بلدة حتى تنازعني نفسي الى اخرى , ولا تطلع علي شمس في مكان حتى تغرب عني في غيره .. حتى شعرت في آخر الامر بسكون في نفسي يشبه سكون الدمع المعلق في محجر العين لا يفيض ولا يغيض ...... انتظرونني في البارت الاخير من قصة اليتيم |